الجمعة، 26 ديسمبر 2008

ابنتي


ابنتي

أدرت ظهري عنها ، وخرجت من بابٍ لم أعد له مرة أخرى ، كنت أعرف أني وهي لن نتفق أبداً ، تلك التي منطقها الحياة الحب .
ساعات من الانتظار حملتني إلى آفاق غريبة بعيدة ، هناك التقيت بالمجهول المنتظر ، وقابلتها ، ألقت بها الصدفة في طريقي ، لا أدري لماذا ؟
نظرت لي بذات النظرة المعبرة قاصدة حوارا لم يكتمل ، لم تبادر هي بالكلام ، وجهت لها سهام نظراتي الصامتة وقد عادت كلماتها في لقائنا الأول ترن بأذني : الحياة الحب .
ما كانت تدري أنه قدم لي الكأس التي أفرغتها في جوفي العطش لهبا أحرقه .
كانت روايتي ناقوس هزت دقاته كل ثوابتها ، أخذتني في لحظة بكائية على صدرها ، ربتت على كتفي كما لو كانت أمي .
أمي !! نسيت تلك الكلمة مع غيرها من الكلمات التي شطبتها من قاموس حياتي ووجودي .
استيقظت قبل سنين وأنا لست أنا ، تَرَكْتَنيِ في وادٍ بعيدٍ تتفرق فيه الأمنيات كنباتات الصبار في قلب الصحراء ، بين الحين والآخر أحن لصدرها الذي حرمتني منه ، كانت هناك دائما أولويات كنت آخرها .
الأيام تمر باردة ، من شاطئ لآخر تقذف بي ، وما من شاطئ يحمل لي لحظة فرح .
يوم خرجت من أحشائي امرأة أخرى انضمت لطابور النساء لم أكن أعلم أني ارتكبت جرما حين وضعتها أنثى .
خشيت أن أكون كتلك التي كنت في نهاية طابور اهتماماتها .
لكن تلك الآهة التي أخرجتها للنور ، والدمعة التي استقبلها خدها الناعم حين أبصرت براءتها ولَّدت داخلي حبا ما تخيلته .
بكاءها أوجعني فرحت أتساءل : هل أوجعها بكائي يوما ؟!!
ألقمتها ثديي وراقبتها مرات ومرات وهي تمتص رحيق الحياة مني .
أشعر بجوعها وأنا بعيدة عنها ، ترسل نداءات تؤلم صدري المكتنز بحليبها ، أهرع في عجل إليها ، ولا أعبأ إن كانت تفضل ثديا عن الآخر ، هي ما تهمني لا مظهري .
ليال سهر تتالى ، ودموع أمسحها بقلبي ، وسنوات تمر وأنا أرقب نموها ، أتركها تتساند على أناملي وهي تخطو أولى خطواتها ، وأساعدها لتنطق أول كلماتها ، كنت أول من نادتها.
- ماما .
كم هي جميلة تلك الكلمة من فمها .
صور شتى لأيام كنت أعدها الأحلى .
إلا أنها قصمت ظهري بضربة قاضية أخلفت توقعاتي حين وقفت في براءة أمام القاضي وقالت : أريده هو لا هي .
خسرت كل قضاياي في لحظة واحدة ، كم دافعت عن مظلومين ، كم أخرجت أناس من غياهب سجونهم ، وحبستني ابنتي في سجن للأبد .
خرجت من ساحة محاكمتي مهزومة مرتين ، وشعور بالانكسار يمزقني .
لحظتها عرفت أن الحياة لا تعرف كنه الحب .

15 / 8 /2008

الأربعاء، 10 ديسمبر 2008

بين بين


بين..... بين



استوقفتني كلماته عند باب الروح أغالب عقلي الذي سعى للفهم وقلبي الذي ينشد الأمل .

انتابتني رغبة مستترة في معانقة الحلم لحظة أن نطق بأول كلمات فتشت لي سره .

دفعني الخوف عنه بعيدا .

الآن تسبقني الأيام إليه ويتسابق هو وعقلي وقلبي في آن واحد ، بات يرضيهما فصرت أجول بينه وهما ويغمرني رحيق الحيرة .

آنسني صوته في ليل الشتاء البارد ، وآنست حرفه فكان نبراسا لكل من ضل .

استقالت حياة العبث وانضمت لعمر صار ذكرى وغمرت النفس رغبة في الانقلاب ، فسره الآخر بأنه دعوة للانحلال .

الحرية ليست انحلالا بل القيد هو العبث بعينه .

حللت ضفائري وتركت الهواء يعبث بخصلاتي المبعثرة ودفعت يده بعيدا وقد جاء محاولا لملمة الخصلات المحاربة ، النافذة لعمق الوجود المتسلسل بسلاسل حريرية .

دفعته وعلى لساني تنطلق الرغبة تواجه المجهول الغارق في الظلام .

ساتر يفصل بينه وبينه ، بحاجة لقوة اكتوبرية تحيله للاشيء .

عقل مُحَجّب بحجاب كذلك الذي تضعه أمي أسفل الوسادة ، وعقل يداعب الحرف في استزادة .

قلب يسير بنهج طفل لا يكبر ، وقلب يوارى الألم في سطور الكلمات .

نفس تسبح في الجهل ، ونفس تسلك الأنانية سبيلا .

على ذلك الصراط أسير بين بين ، مجروح لدي صوت الــ ( لا ) مشروخ صوت الــ (النعم ) .

كل يجذبني ناحيته بسر الحاء والباء ولم يسألاني لمن تهفو روحي .

صارت حرب بقلم ومندل .

حدوتة جدتي القديمة تسكن عقلي فمن يأتي بمرآة الغول يحمل ست الحسن لعشه .

السباق وعر .

الضحكات من فمي تتناثر ، والدمعات من قلبي تتجاسر ، حلمي المقصوف ترك سنه ينغمس في حبر دمعي الأسود مشاطرا خصميّ الوجود .

انتظرت الفائز بزهو ملكة النحل التي تنال ذكرها ثم تقتله .

سوف أجعل من دم الفائز مداد عمري القادم ، حلم الغد .

سيراق دما جديدا ، وصفحة أخرى تضاف لصفحات كتابي الزاخر بدماء تتجدد بكارتها كل حين .

كل الشواهد تعلن فوز المندل والبنك .

طأطأ القلم رأسه وبعبراته قال : في زمن العسكر يزهو الجهل متباهيا .

وتزف الملكة بحجاب المحبة المغزول بخيوط الأنا .

في غمرة اللذة يسقط صريعا ليقف القلم منتصبا مخدرا جاهل الدرس هو الآخر .

نظرت إليه ، أدرت ظهري ومضيت دون التفات .

23 / 10 / 2008

1.30صباحا

الثلاثاء، 21 أكتوبر 2008

طريق البداية



طريق البداية

خطوات متعجلة تستصرخ عمرا استباحني فيه السكون ، صعدت درجات سلم بطول الهرم الأكبر .

نظرت من علٍ وجدتني بالأسفل لازلت هناك بضآلتي أرقب من بعيد ما صعد مني تاركا إياي خلفه .

جذبتني يد لا أعرف صاحبها ، التفت إليه ، كان هو صاحب الصدفة ، أكبر صدف حياتي على الإطلاق .

ابتسمت .

بادلني الابتسام بتجهم وسؤال ، عانقت سؤاله بحميمية خففت عني قسوته .

سرت خلفه كطفلة تتعلق بيد أبيها المطبق على كفها حتى لا تتوه منه ، خطواته واسعة وخطواتي تعدو لتلحق به ، أنفاسي تتلاحق .

توقف فجأة ودفعني لما يشبه التابوت ، وجدتني محاطة بجانبين وظهري لحائط وهو أمامي يسد عني النور .

سدد نظراته الحادة إليّ ، انكمشت خوفا ، سرت بجسدي رعدة ، خلته سيغلق عليّ المكان أو سيميل ويطبق على شفتي مغتصبا قبلة ....... أردتها .

لكنه ما فعل ، منعني الخوف سؤاله .

أدار لي ظهره ولكنه لازال حائلا بيني وبين الخروج .

وجدت قميصه ينحسر عنه ببطء كاشفا لي ظهره .

رعدة ...... قلق ......... خوف .

مشاعر شتى انتابتني انتهت بارتباك ، وحزن ويدي تتحسس ندبات حُفرت بعنف على ظهره ، وددت لو سارت شفتاي تجوس أرضه ، تلثم ندباته فتعيده لسابق عهده دونها.

لكن يدي ربتت على كتفه ، رفعت قميصه لموضعه .

التفت إليّ أغلقت أزراره واحدا ، واحدا في صمت بعين يغرقها الوجع .

حرت بماذا أنطق وكيف أسأل ؟

قرأ بعيني كل أسئلتي .

بادرته قائلة : ألا تجيب ؟

- وحدك ستعرفين .

- لماذا تحيرني ؟

- لابد أن تحتاري حتى تخرجي من ذلك التابوت ، دائما تأتيك الفرصة لكنك تستعذبين الحبس والقيود .

- أنا ؟

- نعم أنت .

داهمني شعور بكوني طفلة وعاد إحساس التضاؤل من جديد ورأيتني نقطة سوداء صغيرة دنست صفحة شديدة البياض .

كأنه شعر ما بداخلي ، وجدته يطبق على كفي من جديد وظل يعدو ويعدو ، وأنا خلفه أواصل الرحلة وقد كلت قدماي .

توقف عند محطة القطارات وقال : انظري ، انظري .

وصمت صمت رهيب ، البشر حولي من كل شكل ولون ، يمرون أمامي وأنا جالسة إلى جواره لا أعرف لي وجهة .

تشغلني ندباته التي لا أعرف من أين وكيف جاءت ؟

طال صمته دون فائدة .

أخرجت رواية من حقيبتي أبدد بها صمته وانتظاري وانتقلت فجأة معها من محطة القطارات إلى الجزائر إلى قسنطينة وجسورها العديدة ، لشاب فقير يقاوم أهله من أجل جزائر حرة جديدة ، ومقاومة من صُلب وجهاد بمدفع وجهاد بكتاب .

بين سطر وآخر ألمح صمته العتيد وصدره الذي يعلو ويهبط كأنه يجاهد أنفاسه .

قطعت شرودي عجوز تسألني من مال الله .

نظرت إليها بغير شفقة أعلم أنَّ لديها مالا يغنيني لكني بآلية وضعت يدي بحقيبتي وأخرجت لها ما تيسر .

عدت لصفحات الكتاب وللشاب الذاهب للمدينة وللمدرسة الثانوية ليضيء شمعة تنير دهاليز الجهل .

ذاهبا يحمل على كاهله عبء قرية رأت فيه النور فساعدوه بكل ما لديهم ، فرحل حاملا من الزاد اليسير ، سائرا بلسان شاعر .

صوت أقدام تحك الأرض برعونة جعلتني أترك الصغير ومغامرة العارم والجندي الفرنسي في الوادي الجزائري لأرى لمن وقع هذه الأقدام .

فإذا بعيني تصطدم بقضيبي سكة حديد يتقدمهما طفلهما الذي لا أعرف متى التقيا حتى جاء .

يحمل وجهيهما بعدا كبيرا وافتقادا للمودة كما يحمل الغضب .

يلهو طفلهما ويحك الأرض بقدميه غير عابئ بهما كأنه اعتادهما على هذا النحو .

كلما عدت للرواية اقتحم معها سراديب الروح متشحة بالأمل يعود بي المسافرون لرصيف المحطة وللانتظار ، أتطلع لما حولي وكأني أرى للمرة الأولى ، فاجأني نهد نافر من رداء أعوج يصرخ بهستيرية أنا هنا فهل من مغامر ؟

وعامل نظافة يؤدي عمله بلا رغبة ، يمد مكنسته بين أرجل المسافرين الجالسين على مقاعد الانتظار في صلف وبلا استئذان .

أغلقت الرواية ، أسكنتها حقيبتي ؛ لأواصل رحلتي بين هؤلاء المسافرون في الوجع.

رحلاتهم للآه ، حقائبهم من هَمْ .

مر بي رجل يحمل الكثير من الأوراق ، أزعجتني عين قلبه الدامعة أبصرت عجزي متجليا فما كنت أملك له طوق نجاة ، أو قبلة حياة .

أطبقت على كفه فهو من ألقى بي في هوة هؤلاء .

وجدتها باردة كنظراته لي .

قمت ، لم يسألني إلى أين ؟

مشيت على الرصيف أواصل النظر بعيدا عن الناس ، أستطلع القطار الذي لا أعلم وجهته ، ومن أين سيأتي ، كنت أشارك الناس حلم أن يأتي المُنتظر مبددا سأم انتظاره .

فإذا بي أرتطم بعذابات أم تطل من إعلان عن ضائع ، مفقود خلفته الحياة وراءها .

عدت لجلستي بجواره دون أن يسأل أين كنت ؟ كأنه يعلم أني عائدة لا محالة .

موظفة المحطة أعلنت عن قطار قادم ، استمع لها في ترقب ثم أمسك بيدي وقام .

وجدتنا في الطريق إلى الإسكندرية ، خلته سيقضي معي يوما بألف يوم .

على شاطئ البحر نفث دخان سيجارته بوجهي وكان لازال على صمته ، قلت : من أين جاءت ؟ وكيف ؟

وجه ناظريه بعيدا نحو البحر ، وهو يواصل تدخينه ثم قال : من العالم الذي منه تهربين .

- أي عالم ؟

- عالم الأحياء ، من تنعزلين عنهم وتعيشين بصفحة كتاب عتيق ، من تتفننين بإيهامهم بك بطلة رغم كونك لست إلا بطلة في فيلم من أفلام السينما الصامتة ترتدين ثوب البراءة وتحلمين بوردة حمراء تتنسمين رحيقها ، ورجل يضع وردة بيضاء في عروة جاكته .

فجأة اتخذ موضع المهاجم وضاعت مني كلماتي ، تاهت في موجة هجوم لم تلق لدي رد فعل ، وأنا أجده يدعوني لسماع الآهات ؛لأعرف كيف جاءت الندبات ، وأنصت لصوت العالم الضائع من كثرة الصراخ ، وأن أجعل منهم قضيتي .

استمر في تأنيبي وتحقير دوري واصفا إياي بالشهيدة والإلهة المبرأة ، وسعادتي بهذا الدور .

- ابحثي عن أدوار جديدة قبل أن يملك الجمهور ، اصرخي مع الناس حتى لو طال جسدك الجميل الندبات .

تأملتني للحظة مصطدمة بكلماته ، ورذاذ الموج الهادر وتخيلت جسدي والندبات .

لم أسمعه وهو يقول : ندبات الجسد أخف وطأة من ندبات الروح ، ماء البحر لن يكفي لإزالة القبح ، ولكن ..... .

8/10/2008

الثلاثاء، 16 سبتمبر 2008

أكان اسمها أمل ؟


أكان اسمها أمل ؟


وقفت في شموخ تَعَجَبَّه وقالت : أنْ تبصر وجودا ما كان غير أن تتحدث عن وجودٍ كان ، شاهدا سموت بحياة ، راغبا في محو ما كان ، طالبا العفو من زمن خان .
هكذا أنت تحتال على وجودك بالخيال ، تخلق من الوهم أسباباً وأعذاراً ، تتوهم غير الحقيقة وتتبوأ عرش مملكة الخيال .
انظر ، انظر ذلك البرج العالي ، ألم ترى يوما أنوار الحياة من أعلى ، لقد اخترقتك أشعتها ، أذابتك كما أذابت الأمل المنتحر بداخلي .
أكان اسمها أمل ؟!!!
صدمه السؤال وعقدت الدهشة لسانه من حديثها لكنها واصلت بلا توقف : إني أرى طيفها في كل أجزائك ، ملامح وجهك تحمل حروف اسمها ، كلماتك حين أتأملها وأرتبها أحصل على تلك الأمل .
حرف الألف يخرج من داخلك كضغط الآهات على القلب ، الميم تضمها شفتيك في حنان بديع ، اللام يصبغها لسانك بالحب .
حاول أن ينطق التفت الكلمات هالة من حوله ، منعته ، لم تكن ترغب بحديث الشفقة المطلة من عينيه الباردتين حين يتحدث إليها ، إنهما لا تعرفان الوهج إلا إذا عانق لسانه اسمها .
- الأحمر لونها أليس كذلك ؟
يقتلني الأحمر كما يقتلها الأزرق ..... لوني !!
لماذا الدهشة ؟ ولماذا الشفقة ؟
ما وجد كلمات أمام سيلها المتدفق ، دنا منها أحاطها بكلتا يديه ، لمسته حانية لكنها تفتقر الحب . انفلتت من بين يديه .
في خلفية دامية تصلبه فيها الحيرة فتسيل الدماء من كفيه .
- لكم أشفق عليك . ما كنت لتضحي ، وما أنت بمسيح ، لم الحيرة وأنت تريدها ؟
- وأنت ِ ؟
ضحكت ضحكة عالية ردا عليه .
تعجب ذاك الرد ، حاول أن يستل سيفا من برودٍ يواجهها به ، لكن الثلج الغائر في أعماقها كسر سيفه وأشعل برده .
واجهته سبابتها في قوة وهي تقول : الحياة مواقف يا عزيزي ، إما أن تفعل أو لا تفعل ولكل فعل ضحايا .
تنامت دهشته بقوة وقال : ألا يضيرك أن تكوني ضحية ؟
- ولماذا لا تعتبرني ناجية ؟
- أوَ كنت لكِ شركا ؟
- أنتَ رصاصة طائشة ، مست القلب دون أن تميته .
سمع الكلمات ، نطق وجهه بما توقعت قبل أن يصرخ لسانه : أمل ، أمل .
وهو يمضي منسحبا .
ابتسمت ، كانت تعرف أنَّ انتصاره بضعف أمل .
وصله صوتها العالي يقول : الأقوياء يتصارعون في حروب طويلة الأمد لا تنتهي إلا بضعف أحدهم ، ما كنت لتصبح شهيدا على أنقاضي ، ما كنت لتصبح شهيدا على أنقاضي .
كانت تلك آخر كلماتها قبل أن يسدل الستار ويصفق الجمهور الذي وقفت تحييه شاكرة إياه بدمعة .
13/9 / 2008

السبت، 6 سبتمبر 2008

يأس


يأس


نقل الليل صدى أنفاسه المتقطعة في الحجرة الخالية إلا منه ممددا على سرير متهالك ، لم يمهله الإرهاق وقتا ليبدل ملابسه ، أخذه الكرى وقد خلع فردة حذاء دون الأخرى .
كانت الساعة قد قاربت العاشرة لحظة أن ضمته الحجرة من مساء يوم قضاه متنقلا بين شوارع المدينة الآهلة بالمكاتب والشركات والمقاهي والكافيتريات والمحال التجارية ، كل هذا لم يجد فيه سَم إبرة ليُحشر فيه آخذا نصيبا شهريا .
الوقت يمر وهو في سُبات عميق رغم أنَّ عقله يعمل بلا توقف ، رأى أشباحاً وخيالات ، رأى نارا تأكله .
أيقظه الفزع مختلطا بصوت الطقوس اليومية لجاره قبل صلاة الفجر .
فتح عينيه بصعوبة ، كان يشعر أنه لم ينم ، حاول القيام ولكن خذله جسمه ، وأعلنت قدميه كل أوجاعها في تلك اللحظة ، واصل استلقاءه لكن إلحاح مثانته عليه دفعه دفعا ليقوم .
فاجأته هيئته وهو مار بنصف المرآةِ المعلقة على الحائط المجاور لسريره ، كاد يفرغ ما في جوفه اشمئزازا .
ارتفع صوت المؤذن الله أكبر .
ألقى نفسه تحت الماء البارد ليزيل ما بقى من كسل وإرهاق .
وقف بين يدي الله .
بكى ، انتحب .
ضاقت به الدنيا ، ذهب الأهل ، الأصدقاء كل قد شق طريقا في الدنيا الواسعة التي خلت إلا منه .
قابله الجار عائدا من صلاة الفجر ، سأله عن وجهته ولم تستيقظ الحياة بعد .
- محاولة جديدة .
لم تنعشه نسمات الفجر .
كانت الحياة قد بدأت تزحف حثيثا لتبدد آخر مظاهر السكون .
اتجه نحو البحر ، جلس على مقعد من مقاعد الكورنيش الخاوية ، وجد لطمات الموج كلطمات الحياة التي تصفعه بلا رحمة .
استفاقت المدينة من سباتها في صباح ربيعي هادئ ، لم يكن الصيف قد شد رحاله إليها بعد .
النور يبدد عتمة البحر شيئا فشيئا .
تساءل متى للنور أنْ يأتي مبددا عتمتي ؟ سؤال من قلب اليأس أذاب ما بقى من صبر .
جذبته رائحة اليود جعلته يترك مكانه متجها لحضن الوحش الثائر ، ارتمى بين أحضان موجه الذي حمله دون مقاومة منه ، فاقدا كل رغباته .
خرجت يد من فيض الرحمة ، حملته ، تمدد على رمل الشاطئ وقد فتح عينيه فقابلته عينان ممزوجتان بزرقة السماء الناعمة تبتسمان في راحة وتقولان : لا يأس من رحمة الله .

31 / 7 /2008

الاثنين، 11 أغسطس 2008

ذات مساء


ذات مساء



تسللت رائحة القهوة إليّ فأرسل عبقها لعقلي إشارات نبهته ، كما نبهت حواسي لتلك المتعة المنتظرة حين تتلامس رشفات القهوة وفمي .
تلك المرة فشلت في الحصول على البُن الذي أحبه ، تكاسلت كالعادة فأحضروا لي ما وجدوه فما كان مني إلا أن نطقت بعبارات الشكر غير شاكرة .
وحدي في شرفتي ، وفنجان قهوتي ، وذلك الكتاب الذي انتقيته من بين عشرات ينتظرون دورهم في القراءة .
لم تتبدد حالة السأم ، ولم تنعشني قهوتي .
رنوت ببصري بعيدا حيث السماء الفسيحة ، لازال قرص الشمس يشغلها ، أحمره البرتقالي ينذر بأفوله ، لكني أتعلق بنورها .
يعشقون سكون الليل ، وأهوى صخب النهار .
استمرت مناجاتي للشمس حتى غربت في خلفية للوحة باهرة الحسن ، ناطقة أركانها بالجمال ، تصاحبها موسيقى تنطلق من كل شيء ، موسيقى الطبيعة الساحرة .
رنّ جرس الهاتف ، أيقظني لأُخرج كياني من تلك اللوحة التي كنت جزءاً رئيسيا منها .
استمعت لمحدثي ، كانت أختي ، اختارت هذا الوقت لتثرثر ، تركتها تثرثر وتباينت ردودي عليها بين آه ، أيوة ، فعلا ، كان لازم .........
دون أن أزيد ، أو أفتح أية موضوعات ، كانت بي رغبة للحاق بلوحتي ، واحتلال مكاني قبل أن يشغله غيري .
عقد النجوم التي أظهرها الظلام كان تاجا في مفرق شعري ، أغلقت الهاتف لأعدو نحو الشرفة استحضر ما فاتني ، وأتواصل من جديد .
تنادي عليّ واحدة من الجارات التفت إليها ، طلبت مني أن ألملم غسيلي حتى يتثنى لها نشر غسيلها ، تنشر أو لا تنشر ، ماذا يفعل إذن مجفف غسالتها ؟!!
قلت لها : حاضر .
عدت حيث تركتني .
نور المصباح المتراقص على صفحات الكتاب زادها صفرة وزادني ابتعادا ، لم يكن كشمسي يضيء نورها كل شيء حتى الصفحات المصفرة .
عادت الجارة تنادي ، في تلك المرة كانت تستأذني لتجلس معي قليلا .
أعلم أن جلساتها غير قصيرة ، فهي تطول ، وتطول ولا ينهيها إلا رؤيتها لزوجها من الشرفة عائدا ، أو حين تسمع دبيب خطواته على السلم .
مرات كنت أجلس معها وأدعو الله في سري أن يعود زوجها بين لحظة وأخرى ولكن دون فائدة ، من الواضح أنه يعلم مصيره فيبتعد قدر الإمكان .
هي سيدة طيبة لا أنكر ، لكنها خاوية جدا ، لا تجمعني بها أية هموم مشتركة .
تشكو دائما وحدتها ، وغياب زوجها ، وحرمانها من الأطفال ، وكان هذا سببا في أني لا أردها رغم ضيقي بحديثها .
لم يعد الزوج ، أوشك الليل الانتصاف ، ترجمت ضيقي لموجات تثاؤب متعاقبة ، لكنها لم تحس ولم تشعر بالوقت الذي كنت أحصيه بالثانية ، متسمعة فيه دبيب أية خطوات علها تكون خطواته فتهب واقفة وهي تقول : لازم أمشي محمد جه .
الكتاب إلى جواري لم تتحرك صفحته العاشرة .
في الثانية عشرة ودقيقة واحدة قدم محمد لينقذني ، أغلقت الباب خلفها ، ودخلت إلى الحمام مسرعة .
نزعت عني ملابسي ، تركت الماء يعبث بجسدي ،يفك أسره ،ينعش خلاياه المتيبسة .
شعرت بانتعاش غريب ،ورغبة بالطعام ،رغم أن موعد عشائي قد مر عليه ساعات .
تركت شعري المبلل على ظهري دون تمشيط أو تجفيف ، أعددت كوب شاي وجلست إلى كتابي ، صفحة الكتاب العاشرة انتقلت للخمسين .
جاءني صوته من ماضٍ بعيد يسألني عني ، لم أنسه يوما ، ولم يمض يوم إلا وكان معي .
امتزج وبطل الكتاب الذي كان يردد لمحبوبته كثير من كلامه .
كان بطل حياتي و كل رواياتي ، حين مضى توقف القلم ، استقال فلا حياة له بدونه .
قدم لي استقالته على كفن أبيض وفستان أسود لا أذكر كيف خلعته ؟
الكل من حولي أجبروني على أن التفت لحياتي .
- لن يعيده الأسود .
كنت أعلم ، وحين خلعته لم أكن أدري أن قلبي هو من يتشح بالسواد ، هو من كان يلبسه ، لازلت لا أرى غيره .
انسالت على صفحة الكتاب الخمسين دمعة حارة .
شعرت به يمسحها مقبلا وجنتي ويدي ، مددت يدي عن آخرهما لاحتضنه ، سقط الكتاب واحتضنت الفراغ .

10/7/2008

الخميس، 17 يوليو 2008

هروب


هروب


أُسدلت الدهشة ستارا على وجهه ، سأل نفسه سؤالا واحدا ، هل أعرفها ؟!!
كنت أحس ما يدور بعقله ، لم أجيبه .
كان عليّ الهرب وهذا أسلوبي ، أن أمتشق سبل العيش داخل من أهرب منهم ، لا أبتعد بل أقترب في قوة متعللة بأنَّ المواجهة خير سبيل للقضاء على ما أسميته يوما ......... حبا .

أرسل لي صوته عبر مساء كدت فيه أموت شوقا إليه ، حمَّلني ضيقه ، أورثني ألما فوق ألمي ، ما تركته إلا وضحكته ترن في أذني .

خرجت حاملة ملفا كبيرا ذات صباح ، أردته أن يأتي ، الهواء محملا برطوبة خنقتني .
اصطدمت بالروتين في أول عناق لي بأروقة المكاتب الحكومية ، من مكتب لآخر ، ومن موظف لآخر .
رنين هاتفي بنغمته المخصصة أخرجني من دائرة الملل والانتظار ، لم أمتلك نفسي وانفجرت كالمدفع معبرة عن ضيق عجزت عن كتمانه .
ما كان عليه أن يتصل الآن ويلقي بحمول جديدة عليّ .

ما كان لأبي أن يموت ويتركني أحارب مع هؤلاء الحمقى .

أَغلق الهاتف دون كلمة لأعود لدائرة الحمقى أنتظر ، لم ينته الورق .

الأسود تحت أشعة الشمس يجعلني أئن بفعل أسراب النمل التي تسير منتشية مختلطة بعرقي المالح .

الأيام تمضي ، هو بعيد غاضب ، وأنا استل سيفا من ورق أواجه به جبابرة العادات والروتين .

استطاع أحد معارفي أن يلحق جلستي لإعلام الوراثة بآخر صف القضايا ( الرول ) ، كلمتان معسولتان ، بضعة جنيهات وضعها في يد العامل المشمئز .
كنت الأخيرة .
الشاهدان يتململان أحدهما مصالحه معطلة ، تليفونه لا يكف عن الرنين بين الحين والآخر .
الزحام مستميت والمكان خانق ، وأسراب النمل السائرة في جسدي استيقظت من جديد .
ينحرني الوقت ، ويؤلمني الوقوف طويلا ، لا مكان للانتظار والجلوس .
يرن هاتفي بنغمته ، لم أرد .
شوقي إليه يدميني ، منذ آخر حديث وهذا الغضب الذي أنزلته مطراً عليه لم يحدثني ولم أحدثه .
لماذا يتصل بي في كل مرة اشتعل بنيران غضبي ، أيحس احتياجي له في هذا الوقت بالذات ؟! لا أظن .

لازال الهاتف يرن .

الحاجب ينادي جلستي .

أغلقت الهاتف .

القاضي يسأل الشاهدان دوني .
يقرا بأن الوارد أسماءهم في الإعلام هم أهل المتوفى .

أبي كان كل ما لدي ، الآن يحمل لقب المتوفى .

انتهت الجلسة بي آخر قضية .

نزلت السلم بقدمين كما جوالين من الرمل .
شكرت الشاهدين ، مضيت تغالبني دموعي و صورة أبي التي علقتها أمي في صدر البيت عذاب مستمر ، كنت أحاول نسيان الجدار المعلقة عليه .

فتحت الهاتف ، جاءتني منه رسالة تحمل غضبا ممزوجا باعتذار .
أردت احتضانه ، محادثته .
عجزت عن أي شيء سوى أن ألقيت بجسدي على السرير مبللة وسادتي بعزيز دمعي .
اتصل ثانية
فاجأته دموعي
تكلم دون أن أسمع ، أغلق الخط ، ولم أنطق .

طلبوا العديد من الأوراق ، هذا لرصيد الأجازات ، وذاك لصرف المستحقات وذلك لــ ...............

تعبت

- المرحوم كان عزيزا علينا .

المرحوم كان أبي ، كل ما لدي .

هربت بعيدا عن كل هذا العذاب ، خرجت من دائرة الموت ، والدموع التي لم تجف ، من الحجرات التي لازالت تحمل أنفاسه .
هناك حيث أحب وجدته صدفة .
- لم تخبريني بقدومك .
حييته دون إجابة ، وذهبت لأجلس وحدي .
استوقفني وسألني : ما بك ؟
- لا شيء .

ما توقعت رؤيته في ذلك الوقت ، في كثير من المرات احتجت وجوده فضن به عليّ ، ما كان يريدني إلا مأوى لضيقه وهمه .
هربت إليه حقا فازددت عنه بعدا .
نظرت إليه بكثير شجن وعظيم قوة ثم انطلقت بعيدا في دهشة رأيتها ذات يوم تكسو وجهه .

14/7/2008

الجمعة، 27 يونيو 2008

سر الورقة

سر الورقة

ليلة مطيرة لم تمنعها من الخروج إلى عملها ، لكنها لم تكن بطبيعتها ، كانت دائما تحمل وجها بشوشا تُطل به على العالم كستار تخفي وراءه كل ما تحمل وما تُلقي إليها به الدنيا .
ابتسامتها في وجه مرضاها كانت تعتبرها نوعا من العلاج تحرص على تقديمه دائما .
أما اليوم كل من يراها يتعجب ، أين بشاشة الوجه ؟ أين ضحكة سنها الجميلة التي تكشف عن لؤلؤ صاف ؟!!
وجهها العابس أعطى الممرضات فرصة للهمس عليها ، وللمرضى بالسؤال ، لكنها لا تجيب أحدا ، ولا ترد على أي استفسار فهي كالغائبة ، تؤدي عملها بطريقة آلية معتادة .
زملاؤها من الأطباء يعرفون أنَّ هناك الكثير من المشكلات في حياتها ؛ لكنها أبدا لم تتوقف أمامها كانت تقابلها بسخرية لاذعة ، وقوة لا تمكنهم من الإشفاق عليها لحظة واحدة .
رنَّ هاتفها الجوال ردت على محدثها بكلمات مقتضبة لا تفصح عن شيء ، لكن وجهها يحمل الكثير من الهَمْ .
تسرب خبر تجهمها بين الجميع ، التردد حالة أصابتهم جميعا رغم السؤال المُلح ماذا حدث للدكتورة يُمنى ؟ لكن لم يجرؤ أحد على تخطي الحاجز الذي بنته في كل سنواتها الماضية .
دخلت حجرتها ، أمسكت بأحد المراجع الطبية وجلست تقرأ ــ تظاهرت بالقراءة ، ذهنها كان بعيدا عن المرجع ــ فترة ليست بالقصيرة قبل أن يتم استدعاءها لحجرة مريض داهمه الألم فجأة .
قامت مسرعة ، سقطت منها ورقة لم تنتبه لسقوطها التقطتها زميلتها التي تشاركها الحجرة ، وقبل أن تهم بمناداتها كانت قد انصرفت متعجلة لأنها تعلم خطورة حالة المريض .
وضعت الطبيبة الورقة أمامها دون أن تفتحها ، إلا أنَّ الفضول كان يتلاعب بها واضعاً دناءته حائلا بينها وبين زميلتها وخصوصيتها .
بيد غير مرتعشة مثقلة بفضول صاحبتها ، مدت يدها لتلتقط الورقة الموضوعة في سكون على المنضدة حيث وضعتها ، فتحتها في نفس اللحظة التي انتهت فيها يُمنى من إسعاف مريضها وخرجت من الحجرة لتضع يدها في جيبها ولتصطدم بالفراغ ، أين ذهبت الورقة ؟
أين وقعت منها ؟
تملكها الفزع ، في لحظات سوف تكون المستشفى كلها على علم ، أين سقطت تلك اللعينة ؟
كانت تنتظرها حياتها كلها متعلقة بفحواها ، كانت تعرف النتيجة مسبقا بصفتها طبيبة ، لكن كان لديها الكثير والكثير من الأمل .
الأمل الذي تهبه مرضاها ، الأمل الذي توزعه ابتساماتها وكلماتها .
مَنْ سوف يهبها هي الأمل ؟
مَنْ سيهب أطفالها بعضا مما كانت تعطيه لهم ؟
كيف ستواجه الشفقة التي ستعبر العيون سهاما تخترقها ؟
الأسئلة كانت عديدة ، لا تكف عن مداهمتها منذ تلك اللحظة التي تسلمت فيها تحاليلها الأخيرة وكانت النتيجة إيجابية .
19/6/2008

الجمعة، 13 يونيو 2008

الشكوى

الشكوى

بجلبابه الصوف وطاقيته البيضاء وعباءة يلقيها على كتفيه دائما تلقاه ، وجهه المغضن يحمل العمر بأيامه وسنواته ، يده المعروقة بوشمها الأخضر القديم تقول أنه باقٍ من زمن لم يُبق على الكثير ، ساقط قيد مجتمع انحل عقد أيامه ، وذهب كل ما به للماضي ، جاء راكبا حماره ، مستندا على عصاه يحمل شكواه ، طالبا العون .
عزته تنطق في صمت : الشكوى لغير الله مذلة .
الورقة في يده تشرح حاله ، المستأجر رفض الخروج من الأرض .
لسانه يخبرنا أن أبناءه يسعون في الأرض في رحلات يعودون منها زوارا ، ضيوف لأيامٍ قصيرة ثم يعودون للسفر .
قرأت شكواه ، وقرأت وحدته وقلة حيلته ، ولمحت بعينيه تلك النظرة المستحلفة بأن أتعجل ، لقد ملَّ الأمر ، على الرغم من أنه لا يتمكن من زراعة أرضه بنفسه ، يشق عليه أن يُجرّفها مستأجر رفض الامتثال لحكم القضاء عليه بالطرد .
ماتت الكلمات على لساني ، فأنا أعرف الحال ، سبحت بعيدا حيث تتلقفني أمواج شاطئ الروتين ، والمماطلة ، والتحايل ، والرشاوى .
ووجدتني في لحظة أقف في قلب الأرض المستباحة أحمل سلاحا من حق ، أسدد طلقاته لصدر أي معتدٍ يظن بنفسه القوة ليأخذها .
خلتني له بدلا لجسده المنهك ويديه الواهنة ، رأيتني ولداً من أولاده الضائعين في البلدان الغريبة .
زعيم على فرس يحارب من أجل العرض المسلوب ، وها أنا في قمة نصري أستعيد أرضه قبل أن تنحرها يد التجريف .
الرجل يكاد يقبل يدي والسعادة تملأ وجهه ، فرحة غامرة ، زغاريد ، أعيرة نارية تشق الهواء ، يحملوني أنا البطل .
وفي لحظة وجدت صوتا يقطع عليِّ غمرة النشوة بالنصر : يا بيه ، يا بيه هعمل إيه يا بيه ، والله واخد حكم من المحكمة بطرده ومفيش فايدة ، موالسين يا بيه مع بعض ؟
استفقت من شرودي مرغما لأنظر له بأسى ــ فأنا أعلم ما أعلم ـــ قلت : بكرة هنبعت حد يعاين يا حج وربنا يسهل .
رد الرجل بكثير من اليأس : تاني .

رباب كساب
4/6/2008

الجمعة، 6 يونيو 2008

المرتحل


المرتحل

قدري أن أبقى راحلا ، ركبت قطارا لا يقصد محطة وصول ، عباءة الرحيل كانت معطفي صيفا وشتاء لا أخلعها ، ارتحلت في الزمن وبمحاذاته ، لم يكن للمكان وجود إلا في أحداث رأيتها غير مشارك ، كنت دائما بين المُشِيعين غير مُشيَّعٍ .
سَأَلتْ صاحبي يوما امرأة قابلها : ما سرك ؟
كان السؤال في السابق دائما : من أنت ؟
في كينونته ظنوا الإجابة عن كل شيء ، أما هي فعرفت أنَّ وراءه أكمة من غموضٍ فأرادت كشف السر .
لم يُجبها كما لم يُجب عمن سألوه من أنت ؟
أعطته وردة حمراء وطاقية قالت : من صنع يدها .
أخذها شاكرا ، وودعتها أنا بغير التفات .
في قلب المُرتحل أمواج بلا شطآن ، وفي صحراء الحلم يسكن أبطال سيوفهم من ورق ، ودروعهم من حرير .
في واحدة من ليالي الاغتراب قدم شاب لصاحبي كأسا من خمرٍ لم أتذوق مثلها عمري ، وأخذ مني لا منه ما لم أعط يوما ، تعلمت على حافة الحياة ، كيف أُفقد وكيف أحيا .
في تلك الليلة التي غبت فيها بعيدا عن وعيي أدركت أني قد ُسلبت أهم ما لدي ، وتوقفت عن وهب الحياة بعض نتاجي ، ذريتي ، آه منها . لقد أسكنتها بوادٍ قاحلٍ مني ، أطفالي يكبرون بلا رغبات ، صاحبهم العقم منذ الميلاد .

تمضي بي الأيام والسنون ، لم يصبني الشوق ، ولم أعرف الفراق ، في كل مكان أقصده كان الناس يتشابهون ، وعبر الزمن وجدتهم لا يتغيرون .
أوشكت الشك بي ، لكني لا أملك غيري على الرغم من عقم بناتي .
صحبه في واحدة من رحلاتي معه عجوز ظنني أسكن من ليس له خبرة ، ظن نفسه سيكون له و لي معلما ، يده ناطقة بعمره المتجاوز التسعين ، ينطق بالحكمة بلا إدعاء ، منطقه جسد حر .
قلت على لسان صاحبي في هدوء : بل عقل حر .
ضحك ساخراً وقال : ماذا يفعل العقل الحر والجسد مكبلا ؟
حافظت على هدوئي وأنا أواصل الحديث: بل ماذا يفعل الجسد الحر والعقل أحمقا ؟

جمل ........ سفينة ........ قطار ........ سيارة ........ طائرة .
أيا كانت الوسيلة فأنا المرتحل للأبد .
في ليلة حالكة من عمر لا أعرف كم مضى منه وكم تبقى ، جمعت كل بناتي ، لمحت الدمع في عيونهن ، حسرة ، لهن كل الحق ، فلا مستقبل لهن بدوني ، لم أحافظ عليهن ولم أدافع عنهن ، فقط أطلقتهن لحياة ليست لهن بها مكان .
قالت إحداهن : ما كان عقمنا إلا لجهلهم .
صدقت ابنتي .
قال صاحبي : ما أصعب على الأب من أن يدفن أبناءه ، من أن يُشيعهم واحدا وراء آخر ، رغم أنه لا ينساهم ولكنهم يظلون وجعا بداخله .
يستيقظون في كل يوم يحدثونه ويحدثهم ، يسترجع بهم الآهات التي لا تكف .
مس جراحي التي لا تُشفى أبدا فقلت ودمعة أحرقني هطولها : آه من أب يفقد ولدا ، وآه من فكرة ولدتها لتموت .

رباب كساب
2/6/2008

الأربعاء، 28 مايو 2008

بين قوسين


بين قوسين


لم أكن والشتاء على علاقة وثيقة ولكن الحكاية بدأت مع أوائل شتاء هذا العام ، حين التقيته لأول مرة .
في ذلك اليوم كنت قد التحفت الانتظار كعادتي أشق طريقي بين الناس لأواصله غير متعبة فقد اعتدته .
جاءت جلسته بجواري على مقعد خشبي بجوار الكورنيش نطالع النيل وأحصي الدقائق في انتظارها ، كالعادة تأتي متأخرة وكعادتي أصل في موعدي .
لم تكن السماء صافية ولكنها لم تنذر بمطر ، شعرت بوخز الكلمات المتناثرة في عقلي ، حاولت أن أتناسها متعمدة فلقد باغتتني فجأة ولم أكن مستعدة لها .
كان يرمقني بطرف عينيه ويشاهد تململي كما ألحظ الكلمات الحيرى التي تتراقص على شفتيه وتأبى الخروج .
فتحت حقيبتي أبحث فيها عن ورقة وقلم ، أخرجتهما وشرعت أرتب الكلمات المبعثرة .
سطرت كلاما بدا لي كما لو كان لعبة الكلمات أو الجمل غير المرتبة وعلى من يريد خوض اللعبة أن يرتب الجمل وأن يحصل على قطعة تحمل معنى مفيد .

الفضول يلعب به ، يتراقص السؤال داخله أعلم ذلك ، نقلت لي يده المتوترة انفعالاته وأنا أجلس إلى جواره ، أواصل مشاهدة النهر الهادئ ، وأرقب الساعة التي تتحرك ببطء يلذعني .
رأيتها من بعيد تأتي مهرولة فلقد تأخرت كثيرا عن موعدها .
تنفست أخيرا بهدوء ، مجيئها سيريحني من فضول عينيه وأسئلته الكثيرة التي باغتني بها وجوده وألمحها كلما أدرت عيني ناحيته .
أخذتها في حضني تبادلنا التحية والقبلات قبل أن تستقر إلى جواري تلتقط أنفاسها .
لمحت بيدي الورقة جذبتها من يدي دون استئذان وقرأت ، نظرت لي ثم له وضحكت .
أثارت فيّ ضحكتها رغبة عارمة في مشاركتها لكني آثرت الابتسام .
وقفت مسددة نظري إليها وإليه ، وجدته يقف ويحدج بي بنظراته التي فشلت في تفسير حقيقتها هل هي نظرات وله ، أم اشتهاء ، كانت باردة ولكنها جذابة ، أثارت فضولي ونهمي لمعرفته .
تفعل بنا الصدفة الكثير ، وأجمل الصدف تلك التي تحمل بداخلها مفاجأة الـ .... .
امتدت يده إلى جيبه في رفق وحذر خمنت أنه سيخرج ورقة ويكتب اسمه ورقم تليفونه ويعطيني إياها ويمضي .
يالي من مغفلة ! لازلت أحيا في زمن الأبيض والأسود ، هل لازالت الناس تتعارف بتلك الطريقة البدائية ؟
إنه الاقتحام لا غير ، لو لم يقتحم فجأة ويأخذ موقع المهاجم وأتحول أنا للدفاع مسرعة ، أحتمي خلف درع الأخلاق والعادات والتقاليد ـ مرة أخرى مغفلة - ، ما رضيت بمعرفته .
لازالت يده اليمنى داخل جيبه الداخلي الأيسر جوار القلب تماما وكأنها سكنت بداخله ، بطيئة تلك الثواني .
حسبتها ساعة .
صديقتي شردت مني في النظر للمارة ، ولموجات النيل الهادئة ، وللحظات العشق المختلسة من حولنا ، ذلك العناق المستتر في عيني كل عاشق من حولنا يُترجم داخلي لنشرة أخبار شديدة القتامة.
أزمة إسكان طاحنة ، أسعار مجنونة ، بطالة ، زحام ، فقر ، كفر ، تشدد ، بلطجة ........
قائمة من الأخبار الـــ ........
خرجت يده بمنديل مرره على وجهه ، لم يكن الجو حارا ولكنه كان غارقا في عرقه .

دنا مني وسط دهشة رأيتها في عينيّ صاحبتي وتوقع مني لتلك الحركة المباغتة ، قال : أنا......
- ليس مهما الاسم ــ هكذا فاجأته ــ المهم أنه أنت .
- فعلا .
سرقتني اللحظة ضحكة صديقتي ، لكن صوته قطع ضحكتها وهو يقول : أعرفك منذ أعوام ، حين رأيتك لم أكن أصدق أنها أنت ، حتى وجدتك تنظرين لي بنفس نظرة المعرفة ذاتها .
- فعلا ، أنا أعرفك منذ أعوام .
قالت صديقتي : ولكني لا أعرفكما .
ضحكنا
سرنا طويلا وهي معنا ، لم نتحدث بقدر ما تحدثت عيوننا ، حملني فوق وجودي ووجوده إلى عالم من الخيال ــ يربطني الرجل دائما بالخيال ــ اخترق حاجز صمتي وعزلتي .
كان لابد أن أتركه مودعة ، مددت يدي أصافحه ، باتت يدي الصغيرة في كفه مركب شراعي في بحر هائج .
لم يعرف اسمي ولم أعرف اسمه فقط كنا على موعد يومي دون أن نتشارك المعرفة العادية لكل الناس .
ماذا تعني الأسماء إذا تعارفت القلوب ؟!!!
في نفس المكان وعلى ذات الكرسي الذي بدا وكأنه يخلو خصيصا لنا في ذاك الموعد ، يجمعنا الزمن ويتوقف بنا عند المصافحة الأولى والابتسامة ولا ندري هل مرَّ بنا أم لا ؟
جمعتنا شتى الموضوعات ، قرأني قبل أن يعرفني ، وصلت له كلماتي ، وجدته يحمل لي ذات لقاء دفترا صغيرا به ملاحظات عديدة ، وتعليقات ودّّ لو كان يعرفني حتى يخبرني بها ، كان لزاما أن نلتقي .
وجدته سباحا ماهرا في بحركلماتي الهائج ، علم ما وراء السطور ، نفذ إلى داخلي ، أكان يشاركني الكتابة ؟!!
أهو شيطان إلهامي ؟
قرر أن يأخذني لمكان لم أذهب إليه من قبل ، أخذني وانطلقنا ، معه لا أسأل عن الساعة ، عن المكان ، عن أي شيء ، فقط أسأل متى سيفارقني ؟
رغم الوله الذي يملأ عينيه لا يكف لسانه عن حديث السياسة وعن الأحوال المتردية هنا وهناك ، وعنا نحن في هذا البلد المهضومين المهدورين الحقوق ، يملك حلولا لكل شيء ولا يمكن أن يتقدم بها إلى أي مخلوق فهو واحد من مُهدري الحقوق !!!!
إزدواجية تلك التي يحياها ، فسرت الآن سر نظراته الزائغة أحايين كثيرة .

أمعقول أن تكون تلك اليد الناعمة ، هي يد البطش ، هي من تحيك سرابيل الألم وتحكم غلقها على أجساد كل ما اقترفه أصحابها أنهم قالوا لا في وجه الظلم ؟
- أوامر وعليّ تنفيذها .
- وهل بالأمر تتخلى عن كونك إنسان ؟
- لا تثقلين عليّ حمولي ، معكِ أنسى من أكون .
- ولكنك هو ذلك الذي تنساه وأنا تائهة بينكما .
- في جلستي أمام النهر وحيدا كنت أتلمس كوني بين الناس الذين أرهقهم كل يوم ، أرجوهم أن يحسبوني منهم ، علني أنسى أنني صرت آلة بين يدي رؤسائي .
اقترب مني ومرر يده على وجهي ، كم هي ملساء ناعمة ولكنها تقطر دما أرعبني ، ابتعدت خائفة .
فهم ما دار بي ، ابتعد جلس على الأريكة حزينا ، أحسه وأدرك أنه يتألم ولكن ، كيف أفصل بين كونه حبيبي وأنه الجلاد .
إنسان مساء وحيوان في كل صباح .
حاول أن يخفي عني دمعه المترقرق في عينيه .
دنوت في حنان ولمست شعره الغارق في ليل حالك ، وقبَّلت رأسه ، ثم زحفت نحو وجهه ليغرقني عطره في بحر من النشوة التي لم أعرفها يوما ، لتستقبلني ذراعاه في محيطهما الهادر الموج ، الثائر للأبد .
في تلك اللحظات التي شهدت توحدنا ، عرفت معنى أن تكون صاحب سلطة وصاحب قرار ، وأن تكون عبدا مرهونا بإشارة سيدك ، وأن تكون ملكا متوجا بلا أدنى سلطة ، وأن تكون أنت في غمرة توهتك .
يالله ، ما كل هذا الإحساس ؟
أشعل سيجارة وأعطاني إياها ثم شاركني التدخين في هدوء وصمت نقطعه بابتسامات متفرقة ، أهي السعادة ، أم فرط اللذة ؟
من بين كل ما أملك من حُلي شاهدني أرتديها انتقى حرف اسمي باللغة الإنجليزية وصمم أن يأخذه مني ليذكرني به دائما .
- وهل تنساني ؟
- لا ولكن ليبقى لي منكِ شيئا .
- وأين سأذهب منك ؟
- لا أعلم ولكني أخشى ......
وضعت يدي على فمه لأمنعه من مواصلة كلماته : أنا معك حتى ولو كنت أنتقدك ، أنا لك ومعك حتى النهاية .
لثم يدي الملامسة لشفتيه ، لأذوب بين حنايا جسده وليمتزج العشق داخلنا بالرغبة ، لتولد حياة لولا وجوده ما كانت .
كان لديه كل الحق في أن يخشى القادم ، حين رأيت يده تطال تلك المرة كل شيء حتى أنا .
لم أجعل قلمي يصمت ، تحدث وتحدث ونطق دون أن أعبأ بكل نجومه ونياشينه ، اقترفت كل الموبقات في حقي وحق كل الناس لابد أن تدفع وأمثالك الثمن ، حتى لو كنت حبيبي ، نعم طالبت بشنقك وهم في ميدان عام ، ولتكن ثورة بحق ، ولتوضع مقاصل في أشهر الميادين ويتقدم لمحاكمة معلومة النتائج فمثلك لا يأخذ براءة أو حكم مخفف ، الإعدام هو السبيل الوحيد .
وقفت أمامه ، عيني بعينيه ، أذوب فيه وأتوحد معه ، ولا أحس الحياة إلا ونحن متوحدين ، تعطيني لمساته الحياة ، العمق ، توقظ بداخلي الأنثى النائمة ، بت أتجدد يوميا حتى لا يمل وجودي .
- لماذا لا تقتليني أنتِ ؟
- أقتلك ؟
- نعم أو لم تطالبي بإعدامي ، ألست واحدا من زبانية الجحيم ؟
- أنا أطالب بقتل وإعدام صاحب النجوم والزي الرسمي ، ولكنك أنت ....
- أنا هو صاحب النجوم .
أخرج سلاحه ومد لي يده به ، أمسكته بيدٍ مرتعشة ، وقلب وجل .
قبَّل جبهتي ، واحتضنني لاطمئن وهو يهمس في أذني : هيا افعليها ، ستكونين بطلة لا مجرمة ، ستخلصين الناس من واحد مثلي ، ستكون شرارة الثورة ، سيفيق الناس صدقيني ، ستكون تلك البداية .
بكيت بكاء حارا وكأنني سأفعلها حقاً ، وضعني أمام أمنيتي بكل سهولة أن أقتل بيدي واحداً من هؤلاء الذين عبثوا بكل شيء حتى قلوبنا وأقواتنا .
ولكنه حبيبي ، صاحب الصدفة .
ألقيت المسدس من يدي ، وألقيت بنفسي بين يديه ، بت أعاني مثل إزدواجيته ، المفروض أنه عدوي نهارا ، وليلا هو كل ما لدي .
ما كان بيدي إلا أن أسافر بعيدا ، بلا وداع ، وبلا أثر كان لديه كل الحق حين أخذ مني شيئا للذكرى ، ولكني أخذته معي كله كذكرى .
كانت تلك المرة الأولى التي أقبل فيها العمل خارج بلدي ، هاربة لا من الواقع المر بها وإنما من حبيب هو العدو .
قلمي لم يتوقف عن انتقاده وجهازه وكل حكومته ، تواريت خلف الكلمات أو جاهرت بها لم أتوقف يوما .
طالعتني صورته يتسلم منصبا جديدا ، منصبا قويا أتاح له الظهور في التليفزيون ، ترى هل سيكون بإمكانه أن يتخلى عن زيه الرسمي ويجلس على مقعد خشبي أمام الكورنيش ؟!!
هل سيجمعني به مكان آخر ؟
اتصلت بي صديقتي ، قابلته في إحدى الحفلات الرسمية ، نقلت لي عنه رسالة .
( الحياة صدفة كبيرة ، وأجمل صدفها ما يحمل مفاجأة الحب وكذا الهجر )
هجرته نعم حتى أظل أحبه ، إنه معي ، لا يفارقني ، غارقة في عينيه ، في شفتيه ، في كفيه ، هو البحر إذن لا غير ، وأنا ....... بعض منه .
الغربة تطحنني ، الفراق يمزقني ، روايتي الجديدة مزيج من تراب الوطن وعطر الاغتراب ، وألم الفراق وهو .
تحمله جميع الصفحات ، يسكن كل الحروف ، أعلم أنه سيدرك أني أخاطبه ، مهام منصبه لن تتيح له القراءة ولكني أعلم أنه سيقرأ ، سيعود ليقرأني من جديد وفي دفتره القديم سيضع كل التعليقات حتى نلتقي ، جمعها وهو لا يعرف أنه سيكون بيننا لقاء ، والآن لابد أن يكون هناك لقاء آخر ، لقاء نحن أصحابه ، نحن من نقرر موعده ، لن يكون صدفة ، سيكون بقرار سنأخذه سويا ، لكن متى سيكون ؟ وأين ؟
الحياة تجبرنا أن نتقبل كل ما تأتي به ، وهاهي تدبر لنا لقاء آخر ، علمت أنه كان ضمن وفد رسمي لزيارة البلد التي أعمل بها ، قررت أن أتوارى في أي مكان ، ولكن الظروف لم تسمح لي رغم أني لم أحتك بأي شيء وبعدت ، لم أذهب لأي مكان يجمعني والوفد ، شعر بأني تعمدت الاختباء .
في مساء اليوم الثاني لوصوله كنت أسير في الشارع في طريقي للجراج الذي أركن به سيارتي ، شعرت بيدٍ أعرف ملمسها تتخلل أصابعي برفق لم أضطرب له ، نظرت ناحية صاحب اليد وقد فاجأني الحنين في عينيه ، والشوق الذي تفجر مرة واحدة ، وعذب الابتسام الذي افتقدته .
لقاء لم يكن كسابقيه ، أطفأنا به كل الشوق المتقد بداخلنا .
لم نتحدث عن هروبي ، لأنه كان متوقعه ، ولم أهنئه بمنصبه الجديد ، يعلم أني أكره عمله .
24/5/2008

الأحد، 11 مايو 2008

في ليلة ممطرة


في ليلة ممطرة


الأفكار تتوالى تترى ، ينظر للورق أمامه في ازدراء ، يكسر القلم .
يخرج من كتب التاريخ المتناثرة حوله واحد من أبطال مصر القدامى ، واحد من هؤلاء الذين صنعوا التاريخ ، طل عليه غاضبا ثائرا ثورة مقاتل يعرف كيف يهزمه سلاح مكسور .
ينظر له في لامبالاة ويمزق الورق ناثرا أشلاءه في كل أرجاء الحجرة ، إلا أن الفِكَرْ لا تكف عن متابعته ، تخرج من خباء عقله الرافض لكل شيء ، لكنه ما عاد يحس جدوى الكلام .
يصرخ البطل أحمس هاتفا : الفكر سلاحك ، والجندي لا يترك سلاحه .
تعلو ضحكته الساخرة فيحس أحمس الإهانة وخنجر السخرية الذي طعن به تاريخه يمزق قلبه .
الأمطار تضرب زجاج النافذة بعنف ، ينظر له أحمس في إشفاق ويقول : السماء عليك غاضبة .
يبصق على كل شيء وعلى كل الكتب الملقاة بلا عناية كأن أحداً بقر بطن مكتبته وألقاها خارجها .
إلا أنَّ أحمس القائد المثابر ما كان له أن ينسحب من المعركة اتخذ منه معركته إما هو أو أن يشطب تاريخه كله ويكفر بكل مقدساته .
يأخذ مفاتيح سيارته ويغلق الباب خلفه بعنف ، ينطلق بالسيارة غير عابئ بتلك الروح المقاتلة التي تزحف من خلف صفحات الماضي خلفه .
الماضي . نعم الماضي حيث كان للفكر وجود وللقلم خلود .
يضحك بصوت عالٍ ، ترمقه عيون أصحاب السيارات المنتظرين معه في الإشارة ، يتعجبون ضحكه منفردا في يوم كهذا وفي وقفة كتلك .
ترى ماذا يضحكه ؟!
الماء المنهمر بشدة يعوقه عن السير رغم أن المسَّاحات الأمامية لا تكف عن العمل ، يفشل في قيادة سيارته في هذا السيل المتدفق ، إلا أنه لم يتوقف وحده لقد وجد السيارة تقف وحدها أمام الجيش العرمرم الذي ظهر أمامه فجأة بجند لا يحصيها بصره ، تلمع سيوفهم تحت أضواء مصابيح الشارع يختفون خلف دروع ضخمة لا يدل عليهم غير ملابسهم الفرعونية القديمة .
يتزعمهم البطل الفار من الصفحات أحمس طارد الهكسوس .
- ماذا يريد ؟ ألا يكفي ما حقق من انتصارات خلدت اسمه في التاريخ .
صرخ عاليا : ليس هذا زمن الانتصارات ، افهموا .
قال أحمس في ثبات : ها قد عدت لك بجيشي وسنحقق الانتصار .
- ما عاد جيشك ينفع ، لقد تخاذل كل شيء ودُمر كل شيء .
- إن دمرت الأسلحة ما كان لسلاحك الخالد خلود الحياة أن يُدمر.
- لم يعد خالدا ، ولم يعد هذا زمنه .
- إنك الكاتب ، إنك الفكر ، إن مات الفكر مات الشعب .
- لقد مات فعلا .
- أحفادي لا يموتون بهم روح الثأر ، وأنت منهم يا صاحب القلم .
قالها وهو ينحني أمامه ممجدا .
قال : أنا ؟! لقد مت منذ أعوام .
اقتربت الجيوش يتقدمهم صفوف جنود تحمل ألواح البردي القديمة تزينها النقوش الفرعونية ، تدعمها الكتابة الهيلوغريفية ، وصورة للكاتب القديم ، يجبرونه أن يقرأ .
لكنه يصرخ : ما أنا بقارئ .
- ستقرأ وتقرأ وستظل تقرأ وتحمل فكرك ، إنك أنت القائد .
تنهمر دموعه على ألواح البردي التي امتزج محتواها به ، وبأفكاره المستعرة برأسه ، تفيق الروح المحتضرة بداخله رويدا رويدا ، يمسك بريشة ومدادٍ من دمه ، ويخط كلماته العربية الفصيحة تعانق قديمه المجيد .
يصيح الجند مهللين فرحين .
يعرف أحمس أنه ما خُلق لينهزم .
يصافحه ، يهبه قلادة النيل ثم ينصرف ، ليجد الرجل نفسه وحيدا في سيارته ، التفت حوله لم يجد أي منهم لم يجد غير أوراقه وقلمه ، امتدت يده إليهم في لهفة وشوق ، شرع يكتب وصوت المطر موسيقى تبعث في الروح ما كان قد مات .

رباب كساب
8/5/2008

السبت، 3 مايو 2008

لا


لا

استعارت كلماته ، رسمت على وجهها ضحكته .


واصل غروره ، استمر في عنجهيته ، وإطلاق أوامره .


ذات يوم شعرت بالتلاشي .

أقسمت أن تتجرأ

وفي تلك اللحظة التي قالت فيها : لا .

سقطت كل ألوية الحب المزعوم .

رباب كساب
25/4/2008

الأربعاء، 23 أبريل 2008

مادة خاملة


مادة خاملة


استحال لقاؤنا في نقطةٍ ، بحثت كثيراً عما جمعنا فوجدته حرفا وكلمة لم تكن بعد بقاموسي ، وأطلت النظر في عينيه علني ألمحني .
أسرتني تلك الضحكة المنبعثة من عميق نفس يملؤها كثير من التخبط والضياع ، كانت مختلفة مع ذلك الحزن المطل من عينيه .
أقصر الطرق بين نقطتين الخط المستقيم هكذا أفكر .
معه تعلمت أن هناك طرقاً يمكن للمرء عبورها ، أزقة وحوارٍ ، وأن هناك كبارٍ يمكن أن تختصر الطريق .
التفت إلى أيامي الماضية لم أجد غير فتاة لم تعرف غير نفسها وعالمها المغلق عليها .
في تلك الغابة الرائعة التي هي مشاعره عرفت الحياة .
تسلقت يده الممتدة عبر الأيام ، لم أكن بحاجة لجهد فلقد بذل هو كل الجهد حتى وصلت إليه .
لأول مرة ألمح وهج عينيه ، وفرحة لقاء بعد طول انتظار .
أخذني من يدي وانطلق بي عبر مروج وآفاق لم تمر بي ، سرنا على كل حرف جمعنا ، وطأنا كل حزن هزنا بكثير من الكبرياء صعدنا تلا من الهموم وانطلقنا لأول مرة بعيداً عن كل الناس في ذلك المكان المخبوء عن عيون الناس إلا العاشقين وجدنا أنفسنا .
لغة الصمت أكثر تعبيرا من كل الكلمات ، في حضرته أصمت طويلا ، وأتلذذ بكلماته الضائعة المتخبطة ، كان لحنا متفردا في نغماته .
استفقت على يد تلكزني تدعوني لأصحو من سباتي ، كانت يد أختي التي تخبرني بأني سوف أتأخر على موعد عملي .
ملعون عملي هذا !!!!!!!
امتدت يدي لها ضاربة في غيظ وكلماتي المحتدة الغاضبة تكاد تحرقها ، ولكنها لم يكن لها ذنب ، من أدراها أني كنت أحلم به وأني معه ؟!!
خرجت لعملي وكلي رغبة في العودة للنوم وللحلم به من جديد ، صرت كلما أغمضت عيني واستسلمت للنوم أرجوه وأتمنى لقاءه ، ولكنه لم يأت ولم يصادفني وجوده .
أنكرتني سماء الحلم وحرمتني فيضها .
أسبوع أتلمسه بين كل أحلامي ولا أجده حتى يئست ونسيت ، مضت بي الأيام وأنا كما أنا بين عملي والبيت .
في معملي وبين أنابيب الاختبار أجد مواداً تتفاعل وألوانا تختلط ، لابد من أن يكون هناك تفاعل وإلا أصبحت المواد خاملة ، لم أحب يوما المواد الخاملة !
خرجت قبل انتهاء دوامي راغبة في السير إلى جوار هذا الشريان الذي كلما نظرت إليه أحس معنى الحياة ، كثيرا ما أحدثه ويسمعني وأحيانا يلقي لي بحبال نجاة من مآزق شتى .
سرحت بعيدا وأنا أبثه شكواي كالعادة ، فإذا بيد أخرى تفيقني من سرحتي ، ما الأمر أكل البشر اتفقت على ازعاجي ؟!
التفت إلى المقتحم الجديد فإذا به صديق قديم لمحني فأراد إلقاء التحية ، كان وجهه المهموم غريبا عليّ لم أره يوما هكذا ــــ لم أره منذ أمد ـــ كان أكثرنا مرحا وإقبالا على الحياة ، جلسنا طويلا لنتحدث لم يكن بمقدوري أن أخبره أني متكدرة لأني أبحث عن بطلٍ جاءني في حلم ، سمعت شكواه حاولت المساعدة إلا أنه يصر على أن كل الطرق مسدودة .
تركته وأنا أحمل على كاهلي بعض ألمه ، لازال النيل يسمعني عرفت الآن أنه يضحك عليّ ( اللي يشوف بلاوي الناس تهون عليه بلوته ) دائما أمي تردد هذا المثل .
غارقة في ذاتيتي فلم أنظر حولي وأرى ، اليوم فقط وضعني صديقي أمام نفسي ووجدتني خير مثال للمادة الخاملة ؟
وصلت البيت وأنا أبحث عن كل تليفونات من أعرف من أصدقائي المهجورين ، اتصلت بالكثيرين .
كم أنا بعيدة عن العالم !!!!
- الهاتف الذي طلبته غير موجود بالخدمة ، الرقم الذي طلبته غير صحيح أعد المحاولة .
كلمات صدمتني ، لم أجد أحداً .
خرجت في دهشة من أمي وأختي اللتين تعلمان أني لا أخرج أبدا بعد العمل ، لم يسألاني إلى أين فهما مدهوشتان بما يكفي لعدم النطق بأية كلمة .
سرت بين الناس وكأني أسير في الشارع لأول مرة ، وجدتني لم أكن أرى ، أكان يعميني الزحام ، أم أنني كنت وحدي في الكون ؟
فوق أحد الكباري وجدتني أقف وحيدة رغم كل المارة لكنهم لم يروني ، لم يلمحوني وكأني ليس لي وجود ، ووجدتني في لحظة أعتذر لهم وأبكي ، وأعد بأني لن أكون مادة خاملة ، لكن لم يسمعني أحد .

رباب كساب
19/4/2008

الجمعة، 18 أبريل 2008

حالات حب


حالات حب


جلست إليه ذات يوم أتطلع إلى وجهه الذي أعشق تفاصيله ، وجدتني أسأله : لماذا تهواني ؟
نظر إليّ بعينين ملؤهما الحنين ولم يتكلم ، ربت على كتفي وابتسم ، قَبّل جبهتي ومضى .
تركني والسؤال ،وفي عينيّ تفاصيل وجهه الذي أعشقه .



**********


قالت لي في خفوت : أحبه ولا يهواني .
كيف عَرَفَتْ أنه لا يُحبها ؟
تعتقد أن صمته الدائم هو السبب ، لم يقل لها يوما أحبك .
لم أجد لديِّ ما أقوله لها .
جاءتني بعد أيام تحمل بشرى لقد قرر الزواج بها .


**********


ساعات من الانتظار ، أيام من الألم ، إنه بعيد ، مسافر أرهقه السفر ، أراه يوما ويغيب عشرا .
صَرَخْت به : كرهت بعدك .
لم يكن بيده حيلة ، هكذا هو شئت أم أبيت .
مَدَّ لي يده بوردة وقبّل يدي وقال : إلى لقاءٍ قريب .
أغمضت عيني وتركته يمضي .
مرت أيام وراء أيام ، شهور أعقبتها شهور ، تصلني منه خطابات ذات كلمات يسيرة يتضاءل عددها خطابا بعد آخر .
عاد بعدها وفي يده وردة لم تمتد لي يده بها ، امتدت لمن تتأبط ذراعه وهو يقبّل يدها.


**********


في غفلة مني تركتها تحتل مكاني لديه ، أنا السبب ، فتحت لها ثغرة نفذت منها إليه .
كم حذرني ولم ألتفت . اليوم هي معه وأنا عنهما بعيدة .
وصلتني دعوة الفرح ، واحدة من المدعوين كنت .
في عيون الناس من حولي سؤال : كيف ؟!!!!
مددت يدي اسلم عليهما وأقدم التهاني وأعزي نفسي فأنا من ضيعهما .


**********


أسوار بنيتها ما استطاع أحد تسلقها ، لم يتمكن مخلوق من حل ضفائري ،والصعود إلى برجي العالي ، حين أرخيت الضفائر ، حين هدمت الأسوار ، وجدتني أعجز عن الإمساك بالمشط لأمشط شعري ، ولا عن مواراة الشيب الذي غزاه . فلقد فات الوقت.


**********


طفلة أنا لازلت في مرحلة الحبو ، نظر لي نظرة مُشفقة وهو يقول : اكبري .
كنت أسمع كلماته دائما وأظنها ألغاز ينطق بها ، ماذا يريد ؟ أنا كما أنا لن أتغير لأجله ، إذا أرادني عليه أن يتحملني .
ذات يوم جاءني بصحبة أخرى سألته عنها قال : حبيبتي .
أعطاني مصاصة ومضى .


*********


في يوم بحثت عن المجهول ، خرجت للدنيا الرحيبة ، ألقيت بنفسي في حضن أول من قابلني .
بين أحضان كثيرة تنقلت . كلمات ، كلمات ، لا شيء سوى الكلمات ، قسوة وآهات ، دموع أغنيات .
على جدر جسدي ارتسمت علامات وخطوط ، كلٌ كان له إمضاء ، جراح غائرة ، وكان السبب أني سمعت وارتحت لأول الكلمات .

رباب كساب
24/8/2007

السبت، 12 أبريل 2008

دنيا

دنيـــا

إنفجار ........ رصاص يتناثر ......... كلمات هوجاء...... أصوات تتبعثر على موائد نقاش وصور لا تكف القنوات الفضائية والأرضية عن نقلها .
دخان سجائر تتوالى ، أحجار نراجيل تتتابع ونظرات تسعى للإلتقاء ، أفكار تتلاقى وأخرى تتباعد ، نقاشات تحتد .
أحباب يختلسون اللمسات والنظرات ذات المعنى .
ضحكات تعلو مع كثير من النكات التي تنطلق من أفواه حزينة وقلوب يشغلها الهم .
جنازة طفل قتله التتر عمدا ، دموع أم ثكلى وأب يحمل على كتفه مدفعه الرشاش ، صراخ نساء تنعي الميت متشحات بذكرى موتاهن .


تتجه العيون نحو الشاشة ، وجه البريء الملقى على العالم يثير في أنفسهم الاستفزاز ، ملامحه الطفولية الميتة جعلتهم يرونه شابا يمسك علم بلاده ويضحك في زمن آخر .
يشجبون ، ينددون ، يتظاهرون ، يعودون لجلستهم على المقهى ذاته يتضاحكون ، تتتابع أحجار النراجيل ، يعانق دخان سجائرهم سماء حلمهم المفقود .
ضحكاتهم تعلو ......... وتعلو يتلقف صداها الهواء .

رباب كساب
11/4/2008

الجمعة، 28 مارس 2008

السيدة


السيدة



ضحكة ماجنة علا صداها أرجاء المكان ، نظرة غاضبة من عين تلقت سخرية الضحكة بصمت معتاد .
صمت يُغلف المكان ، وتبادل نظرات اتهام ، ودفاع ، وهجوم رغم طول الوقت بينهما وقد تعدت الساعة الواحدة صباحا .
طالت الجلسة ولا فائدة كلاهما يدور في رحى لا تكف عن الدوران ، يتعمدان ستر الكلام ويتركان العين تنطق بما عجز عنه اللسان ، ولتفعل ما على اليد المشلولة فعله .
خصمان تجمعهما دائما طاولة البحث عن حل لمشكلة أبدية لا تُحل .
حاول إنهاء الليلة بما هو مفروض عليه عَلَّه يظفر بشيء !!
دنا منها ، مدَّ يده ومرَّ بأنامله على وجنتها الحريرية ، تَمنَّعت ، وانفلتت كأفعى ، وهي تلامسه برفق مقصود .
عاد لجلسته رغم حر الشهوة الذي تَملَّكه ، هي الوحيدة التي تملك الحل ، سيدة الدنيا وهو عبد من عبيدها .
كم تملقها وكم صدته ، تُلقي له بالفتات ، وتفعل فقط ما تريد ، الجميع يهب العطايا ويخدمون بفناءٍ عظيم فقط هي تأمر .
وعلى سرير الدنيا تأخذ لذتها ممن تريد ، كثيرون هم عشاقها ، لا .... متملقيها ، خدامها حاجتهم إليها تدفعهم دفعا لها .
كادت الليلة أن تنتهي دون أن يفعل شيئا ، الكل ينتظره ليعلمون نتيجة اللقاء ، وهو بين نارين ، نار مطالبه لديها ، وناره التي أشعلتها لتوها ؛ ليتها تطفئها !!
حين تفرج عنه سيخرج لهم ويقول أنه فعل كل ما في وسعه وأنها أرخت حبالها تلك المرة ، وفي المرة القادمة ستوافق على كل الطلبات التي قدمها لها أليس هو أثيرها كما يعلمون ؟!!!!!
لا أحد يعرف أنه .........
سارع بسؤال نفسه : هل ستكون هناك مرات قادمة ؟!
- نعم ، هي لعبتها من البداية .
تملق ، وطلبات ، ومداعبات تسبق كل رفض ، واستجابة فقط لضئيل ما طُلب .
أيقظته من شروده ضحكة أخرى تعلن أنه قد حان موعد إنصرافه ، فلقد أذن ديك الصباح لتسكت شهرزاد عن الكلام المباح ولتستعد السيدة لنقاش آخر .

رباب كساب
28/3/2008

الخميس، 27 مارس 2008

عازفة الفلوت


عازفة الفلوت


عندما أًبصَرتُه دائما في الصف الأول تذكرت ذلك المعجب الذي احتل صف مسرحها الأول ،وكذا بيتها ولكنه لم يكن بالدكتور حفناوي ولا هي بأم كلثوم .
كانت عازفة فلوت مغمورة في فرقة موسيقية وهو واحد من رواد المسرح ومن عشاق الموسيقى الكلاسيكية ، نادرا ما تفوته حفلة .
كما كان من النادر أن تعزف هي منفردة فيتعرف عليها الجمهور .
ذات يوم وهو في طريقه إلى داخل المسرح جذبه عزف جميل لمقطوعة ساحرة ، استوقفته الموسيقى ورآها لأول مرة .
كانت شبه مُغيّبة ، يأخذها اللحن بعيدا عن الكون فانفصلت معه إلى عالمٍ آخر ، عالمٌ من السحر اللا مرئي ، فحلقت بمنأى عن الأرض .
وقف يستمع إليها وقد غاص في بحارٍ من الخيال لم يخرجه منها إلا توقف صوت الموسيقى ، فاستفاق باحثا عنها ولم يجدها فشعر كما لو كان بحلم ٍغريب .
دخل المسرح وبدأ الحفل ،مبتدئا وصلة الاستمتاع برائعة من روائع شوبان الساحرة ، فإذا بعينيه تصطدم بها مرة أخرى وهي في مثل غرقها الأول ، لا تشعر إلا بآلتها في حضن شفتيها تتحرك أصابع يدها عليها في خفة ومهارة ، وباللحن الذي تعزفه وبيد المايسترو التي تحركهم جميعا .
تمنى لو يحدثها ، لو يبدي إعجابه بعزفها ، حاول اللقاء بها بعد الحفل ، لم يتمكن .
كان المسرح مزدحما بالناس فلم يرها وسط من خرجوا ، حين سأل عن أعضاء الفرقة علم بانصرافهم .
عاد خائبا ، وإن كان لم ينس عازفة الفلوت .
في موعد الحفل التالي ذهب حاملا زهور الزنبق وعصفور الجنة والجلاديولس متمنيا لقاءها ، ذهب مبكرا عن موعد الحفل بحث عنها لم يجدها ولكن أثناء الحفل تجلت وصابها الحظ وعزفت منفردة فصفق لها بشدة .
بعد الحفل التقيا ، أعطاها الورود وهنأها مبديا إعجابه بها وبعزفها ، قبلت زهوره وشكرته .
انصرفت تاركة بداخله إحساسا لم يفسره إلا بعد أن باتت تلك الفتاة تشغل كل فكره ، صمم أن يتحدث معها ، يُعرّفها بنفسه ، يدعوها للعشاء ، أي شيء ، المهم أن يقترب منها ويستمتع بتلك الابتسامة التي سلبت لبه .
تبع الفرقة أينما ذهبت ، حاول كثيرا أن يجدد اللقاء ولكن الفشل حليفه في كل مرة .
لم يمل من إرسال زهور الزنبق والجلاديولس وعصفور الجنة التي تحمل توقيعه ، ورغبة في اللقاء .
وأخيرا وبعد عناء رآها بعد الحفل ، انتشى قلبه ، فرح ،شد الخطو نحوها ، فإذا بصوت ينفذ إلى أذنه ، صوت صغير قطع عليه الطريق إليها وهو يعدو نحوها مناديا إياها : ماما .
لحظتها سمرته المفاجأة مكانه ورآها تحمل صغيرها مقبلة إياه وتستقبل من أتى به في حضنها وهو يقول لها : كنت هايلة النهاردة .
مضت في صحبة زوجها وابنها .
لكنه ظل في الصف الأول في كل حفلاتها ، حاملا زهور الزنبق وعصفور الجنة .

رباب كساب
6/1/2008

الجمعة، 21 مارس 2008

اعتذار


اعتذار



في ذلك الصباح لم أكن بعد قد نفضت غطائي عني حين قفزت الشمس لحجرتي مخترقا نورها جميع أرجائها ، ودفعتني لكي أصحو حتى قبل أنْ يرن هاتفي في موعدي المحدد كل يوم .
في تلك اللحظة بين الصحو والمنام أحسست بأني اضحك من قلبي ، أكيد كان ذلك حلما ودّعته حين فتحت عيني .
حاولت أن أتذكر الحلم ولكن دون فائدة ، فلقد ولىّ تاركا في نفسي بعضا من البهجة استحسنتها ، إحساسي بالبهجة سوف يجعلني أسعى لمحو أثار غضب الأمس .
التفت نحوه وهو يرقد إلى جواري ، لازال غائبا في عالمه الخاص ، كنت أحسه حين ينام بأنه يهرب إلى دنيا أخرى ــ قد لا أكون شريكته بها ــ ولكني لا ألومه عليها ، أحب كثيرا تأمله وهو نائم .
لكم هو وديع بريئ كطفلِ ، أما في صحوه فهو جبار حتى في أرق لحظاته .
في إحدى المرات دمعت عيناي إثر نظرة غاضبة وجهها إليّ ؛ ولكم هو كثير غضبه هذه الأيام .
ليلة أمس تشاجرنا ، هو السبب فلقد أصبح دائم الغضب من كل شيء ، لا ذنب لي في أنهم يتجاهلوه في عمله ، وأنهم يضيقوا عليه الخناق حتى يُحيل حياتي معه إلى جحيم .
لم يعد يعجبه طعاما أعده ، ولا غسيل ملابسه ، ولا ترتيب المنزل ، لا شيء صار يعجبه .
- كلهم يسعون لتدميري ، نفذوا إلى رئيس مجلس الإدارة ، وشوا إليه بكثير من أكاذيبهم ، شوهوا صورتي ، فقدت حظوتي لديه .
لم يعد يمسك أعصابه ، يخرج جم غضبه أمامي ، وأتحمل فأنا الوحيدة التي تعرف كم يحب عمله ويخلص له .
ولكني بالأمس لم أتحمل ، فاض بي الكيل فصرخت بوجهه بكل ما أملك من قوة ، وقد نفذ صبري ، لم أبك هذه المرة ، لم أدع دموعي تنهي الموقف .
ظل حبيس حجرة مكتبه لساعةٍ متأخرة حتى جاء متسللا للفراش معتقدا أني نائمة ، لكني لم أنم فكيف أنام دون أن أتأكد أنه بجانبي وأشعر بأنفاسه الدافئة تتسلل إلى وجهي فأستشعر أمانا وسكينة .
لازال نائما ولازالت عيناي تراقبانه ، مددت يدي أسير بها في هدوء على وجنته ، وتركت أصابعي تعبث بخصلات شعره الناعمة حتى فتح عينيه بصعوبة ، أعلم أنه لم ينم جيدا ، ابتسمت له ، بادلني الابتسام وعينيه تحمل اعتذارا وخجلاً جعلني أطبع قبلة على جبينه ثم أهب واقفة أمشط شعري وأقول : هيا ستتناول أجمل إفطار اليوم .
نفض غطاءه وسحب جسده ببطء لأعلى مسندا ظهره للسرير وقال : أحبك .
أحبك ، دائما بعد كل شجار لها طعم آخر ومذاق هو الأروع ، تكون محملة بعطف وحنان ورجاء واعتذار .
لم نفتح أمر شجار الأمس ونحن على المائدة ، ولا بعدها ، تناسيناه كأن لم يكن ، خرجنا كُلا إلى عمله ، في منتصف اليوم رنَّ هاتفي بالرنة المخصصة له فسارعت بالرد عليه قال : سأمر عليكِ الآن .
لم يعطني فرصة حتى لأسأله : لماذا ؟
قبل مرور ساعة وجدته أمامي ، اصطحبني لمكان هادئ لم نذهب إليه من قبل ، جلس إليّ يغلف الصمت وجودنا ، الدهشة تلجم لساني ، وهو بدا كما لو كان حائرا يبحث عن كلام ، نظراته زائغة ، يحمل وجهه تعبيرات عجزت عن تفسيرها .
قطع الصمت مجيء النادل ليسألنا : ماذا نطلب ؟
لم يسألني عما أريد طلب له ولي ذات الطلب ، لم أناقشه فأنا أعشق ما طلب .
ابتسمت بعد انصراف النادل وسألته : خيرا ماذا وراء تلك الدعوة الجميلة ؟
ابتسم ابتسامة عريضة وقال : أبدا ، اعتبريها اعتذار .
- ما أجمله من اعتذار .
لم نذهب إلى البيت بعد الغداء ، ولا بعد العشاء ، ظل بنا ننتقل من مكان لآخر ، لا يريد الذهاب إلى البيت ، لكني وبعد انتصاف الليل أخبرته أني مرهقة وبحاجةٍ للراحة .
امتثل لرغبتي وعاد بنا وما إنْ دخلنا وأغلق الباب خلفنا حتى قال : لقد فصلوني اليوم من العمل .

رباب كساب
21/3/2008

أنا وهو والعَلَم


أنا وهو والعَلَم


لا تذكرني بمن أنا ، فأنا أعرفني تماما ، كلما التقت عينانا أحس بعينيه تصر أن تذكرني بماض كنت عليه ، ماض تناسيته وأصررت أن أنساه .
قابلته أول مرة وقد أمسكت العلم هاتفة : تحيا مصر .
لم أكن بمظاهرة أنادي بالحرية وقت الاحتلال أو حتى الآن ، وإنما كنت لتوي خارجة من استاد القاهرة الدولي بعد مبارة هامة فاز بها منتخبنا الوطني .
فصل العلم بين وجهينا في زحام هو الأصعب والأشد .
تعلقت عيناي به ، وشدتني نظرة الإعجاب بعينيه .
ألوان علم مصر الأسود والأبيض والأحمر ، ثلاثة ألوان لكل منهم أثرا كبيرا في نفسي ، كم كنت فخورة بي وأنا أقف في ثباتٍ وجرأة في منتصف فناء المدرسة أُحيي العلم كل صباح ، للعلم مكان لا يُخطئه في قلبي .
كانت أيام ، ويوم كنت أحيي العلم هاتفة تحيا مصر كنت أهتف ......... ما علينا ، لا أريد أن أتذكر ذلك .
في ذلك اليوم ارتبط وهو بأجمل قصة حب تحاكي عنها كل من يعرفنا ، وفوجئت أني وهو زوج وزوجة .
سريعة أيام عصرنا .
- صباح الخير يا سماح .
- صباح الورد يا حبيبي .
دخلت وأشرف دنيا غريبة كنا من أشد المعارضين لها ، اصطدمنا بالأيام بشدة ، واقع مرير استحق أن أمسك بالعلم حينها وأصرخ : أين أنت يا مصر ؟
ولكني من أجل عيون يوسف الصغير ، تعلمت الصمت ، وصنعت له لفافات بالعلم .
وودعت ماض كنت فيه سيدة نفسي .
أشرف يبذل الكثير من أجلي وأجل ولده ، يدور في رُحى لا تكف ولا تهدأ ، يعود كل مساء حاملا همومه وتعبه ، يلقي أحيانا بحمله في حضني ، وأحايين كثيرة لا يدعني أشاركه يظن أنه بذلك يرأف بي ، ولكني أحسه .
كل يوم الحياة تزداد جشعا ومطالبها لا تكف ، ولم أعد وهو ويوسف صارت هناك ضحى ، لم نعد نذهب لحضور مباريات أو حتى ندخل سينما ، اختفى العلم .
وبات عليّ كل يوم أن أقول : عمار يا مصر .
وأودع زوجي لدى الباب بابتسامة تعينه على ما هو فيه .

رباب كساب

الخميس، 13 مارس 2008

رحلة ليلية


رحلة ليلية


قد قارب الليل الانتصاف ، حين خرجت إلى شرفتها تاركة صدرها يستقبل نسمات تلك الليلة اللطيفة . دخل الهواء نقيا منعشا أرادت استبقاءه في داخلها إلا أنها لم تستطع ، فسارعت بطرده واستنشاق غيره بسرعة شديدة ، رغم أنه لن ينضب .
كانت رأسها تضج بكثير من الفِكَر التي لا تكف عن لكزها كل حين ، إلا أنها قد أخذت عهدا مع نفسها أن تصمت ، وألا تبوح بأي شيء ؛ لن تدون كلمة ، ولن تكتب حرفا ، ولتصمت أيضا تلك الأفكار العابثة التي تجعلها ترفل في سرابيل من الألم كلما تذكرت تفاهتها .
- تفاهتها !!!!!
توقف عقلها برهة أمام الكلمة وانطلق بسؤاله الذي يحاول به نسف تلك الإهانة التي وصمت بها عمله ، أما أفكر به تافها ؟!!!!!
كانت وكأنها تحاربه ، دخلت معه مبارزة لن يخرج منها إلا فائزا واحدا . إنها تقوده للجنون كلما رفضت أن تخرج ما به من أفكار حتى صار قدرا يغلي ، تزيد حمم الأحاسيس والمشاعر والدوافع بداخله ولا تحس به ، لماذا تعامله هكذا ؟
سؤال آخر انطلق منه عَبر قلبها عله يستحلفها أن تجيب ، حتى صدرها الذي يعب الهواء عبا صرخ بها وقال ليس هذا هوائي ، ولا تلك النسمة التي تصافح عظامي هي الحياة بالنسبة لي .
- حتى أنت !!!!
كل ما بها أراد أن يتنفس وهي أبدا لا تريد ، تتشبث بالموت حتى النهاية ، تمنع أسباب الحياة حتى أوشكت على الاختناق .
لازالت بالشرفة وقد قاربت الساعة أن تدق الثانية من صباح اليوم الجديد ، حين شعرت بيد تربت على كتفها ، تملكها الرعب فهي وحدها مَن هذا الآتي ؟
التفتت بغتة تنظر إليه ، لم تصدق عينيها أحقا أنت ؟!!
سيل من الدموع المحبوسة قد انطلق وهي تدفن رأسها بحضنه الذي افتقدته كثيرا ، أحقا أنت ؟!
لم تكن تكف عن ترديد السؤال .
مَسَّد شعرها المهوش بيديه كما كان يفعل دائما ، ثم حمل وجهها على طرفِ سبابته لينظر لعينيها المغرورقتين بالدموع وقَبَّل جبهتها فعادت لتدفن رأسها بصدره مرة أخرى .
حملها معه وقد فرد جناحيه ، حلقا معا في سماء المكان وهي فرحة منتشية ، شعرت بخفتها كلما صعد بها لأعلى ، أجلسها على كتفه ، طار بها من مكان لآخر قاصدا دنيا بعينها .
دخل بها حواري وأزقة ، أحياء ما هي بحية ولا سكانها بناس .
سألته مندهشة : أين نحن ؟ من هؤلاء ؟
لم يجب ، بل ملأ عينيها وعقلها بمشاهد ، ومشاهد فرضت ذاتها ، واصل اندفاعه وطيرانه من واد إلى آخر ، ومن مدينة إلى مدينة ، ومن قرية لأخرى .
وهي تواصل تعبئة عقلها الذي كَفَّ عن الاستيعاب ، وقلبها الذي اعتصره الوجع ، وصدرها الذي لم يعد يدخله هواء .
رحلة طويلة كان فيها البراق ، ولكنها لم تكن برسول ؛ كانت أضعف من تلك المهمة التي أوكلها لها ، سألته لماذا ؟
لم يُجب ، فقط أعادها لشرفتها مرة أخرى ، قَبَّل جبينها ، وانطلق من حيث أتى مبتعدا بأقصى سرعة .
نظرت لساعتها وهي لا تصدق ما حدث ، أكانت تلك الرحلة خارج حدود الزمن ؟!!
عقارب ساعتها تشير إلى الثانية صباحا .
لم تكن تدري ماذا تفعل ، فَجَّربداخلها بركان انطلقت حممه بلا توقف ، تصاعدت حتى فمها ألهبته ، وكذا عقلها ، كما حرقت قلبها ، فسارعت إلى أن تتنفس ،أمسكت بالقلم ، ووضعت سنه المدبب الرفيع الذي تنتقيه بعناية على الأوراق ، تركت روحها الميتة تعود للحياة ، دون خوف أو رهبة .
طرد عقلها أفكاره القديمة ، وعلل الحب المقيتة ، استفاق من مشاهد نشرات الأخبار المعتادة ، تمحور في تلك الرحلة التي وضعته أمام ما لا يتوقع ، وشاهد ما لم يتخيل ، تلك الرحلة التي حَمَّلته أوجاعا ، وخلقت منه سيفا قرر أن يكون محاربا بيد فارس في زمن قتل كل فرسانه .
وحين تبددت ظلمة الليل وبان الخط الأبيض كانت لازالت تمسك بأوراقها تخرج كما من الآهات المحبوسة في صدور من رأتهم .
بعد انتهائها وضعت القلم وتنفست بعمق .
فجأة فتحت عينيها التي أخذت تتجول بالمكان متعجبة ، وشعرت بيديها تنفض الغطاء عنها في روتينية تعهدها باحثة عن الساعة التي أشارت إلى السابعة صباحا موعد استيقاظها اليومي .
رباب كساب
13/3/2008

حواري لجريدة السياسة الكويتية

رباب كساب: حان وقت تجديد دماء الساحة الأدبية أجرت الحوار شروق مدحت  تمردت على الظروف المحيطة ،رافضة الاستسلام لعادات وت...