الأحد، 26 يونيو 2016

يوميات بهية (2)


لازالت تخاصمني، تخاصم أيضا مرآتها، تلك التي كانت ترى بها كل شيء، حاولت جاهدة إرضاءها، أحايلها مرات، أباغتها بما تحب، أسمعها ما تريد، أدعوها للرقص، أعرف أنها حين ترقص تلقي بهموم الكون، تتحول لمخلوق شفاف، رقصها صلاة، رفضت بشدة كل محاولاتي، أدارت ظهرها عني، لونت حياتي بالأسود، بكيت، لم أفتح صندوقها لأنشر عنها، كنت أريد لها أن تنطلق من جديد. لكني حين ذكرتها بعفاريتها، بالفناجين، بمراحلها الاستطلاعية، التدقيقية، الاستبيانية، الإحصائية التي كنت أجلس أمامها لا أفعل شيئا والدهشة تملأني إلا تدوين ما تقول وانتظار نتائجها كتلميذ بليد يتمنى النجاح، ضَحِكَت، ضحكة أعرفها، ضحكة الصفاء الكامل، ضحكة هونت عليِّ كل ما مضى، وما كنت أعانيه منها ومن الدنيا. التفتت لمرآتها وهي التي علمتني أنَّ من اعتاد النظر للمرآة هو العاجز عن النظر في مرآة روحه، أُدرك أن مرآتها ليست كالمرايا العادية، مرآة بهية روح لا تعرف إلا النقاء، أَمسَكت بالمشط وطلبت مني أن أُمشط شعرها الطويل، دققت في ملامحها من خلال المرآة، أعرف أنها رضت، لكنها تفكر، أعرفها حين تعقل شيئا وتود الإفراج عنه. بهية البراوية التي تلتقي عندها الخيوط، هي المبتدأ، الأصل الذي لا شبيه له، أمرتني في حزم ألا أقول إلا ما سوف تفرج عنه، أسرعت بالموافقة، لا تردد مع بهية حتى ولو حملت في نفسي تردد العالم كله. تذكرت حين كانت تناديني وتلقي لي من السحاب كلمة وخيط، خيط واهٍ ضعيف، قد لا يبدو له نهاية لكنها دوما تقف سندا حين توشك على السقوط، حضنها براح! تعشق نور الشمس وضحكة القرنفل وصحبة الصيف، يتجمل لأجلها فقط الخريف فتحب أشجاره التي تلقي بحمل أوراقها لتعود أجمل وأجمل في الربيع، تسكن الحلم، وإن جاء يوما وقصفت قلم الكحل وتجرأت على قص ضفائر بطول العمر تقف شامخة تفرد قلوع مراكبها ولا تنحني لريح الغدر.

رباب كساب

26/6/2016
الموضوع منشور على موقع عابر على الرابط التالي

الاثنين، 20 يونيو 2016

يوميات بهية (1)

هذه المرة تركت مرآتها ونظرت لي نظرة غريبة، لم أفهمها، لبهية دائما تصرفات لا أفهمها، تحيرني، تنقلني من مساحات الهدوء للاشيء، لأجدني أسيرتها، نظرتها أوقفت الكلمات، المشاعر، الحضور، كأني هواء، كأني ماء بلا طعم، بل جثة بلا روح، وضعت يديها في خصرها واندفع مدفعها يضرب طلقات متوالية، كأنها تقول لي: من أنتِ؟

أنا .... لم أكمل بل هي التي اعتلت خشبة المسرح وحدها، دون انتظار جمهور، دون انتظار أحد، هي دائما لا تنتظر أحدا، لا يهمها أحد، هي التي تضع الشروط، كيف أوافق على شيء دونها، كيف أقبل أن أحكي عنها دون أن تعرف أولا، حتى الحب، كيف أجرؤ عليه دون أن تكون هي من تحب أولا!

أنا ... تلعثمت، خرجت مني همهمات باهتة، غير مفهومة، لا تعني شيئا، في محاولة لتبرير موقفي بينما هي تمسك سوطا من كلمات تضربني بلا هوادة، تلقيت ضرباتها الموجعة في صمت، تقزمت فجأة وتقزمت فرحتي، أنا حقا لا شيء.

حاولت تذكر كيف بدأنا، كنت أنقل عنها، ما كنت أنا التي تسطر يومياتها، كانت هي، كنت فقط يدا تكتب، تدق الحروف على الحاسب، الحروف التي تدفع بها إليِّ، هي من تريد، البراوية حين تريد تفعل، وإن فَعَلت امتثلت، هي الأنا التي اختارت قبل ست سنوات أن تكون تحت القبة وفي بؤرة الرؤية وأن تنطق بما تحب، تلعب القطة العمياء، تجري وراء عربة الرش، وتمسك بالشماعة التي سرقوا الجاكت من عليها وتغني كما في الأغنية تماما وتزعق بشدة وتقول أنا بهية البراوية! وعليِّ ألا أتعجب، أن أتوقف عن دهشتي.

تفاجئني بفلسفتها، فأقف مكتومة، لا سبيل لي والفلسفة، تتحدث إلى أم بدوي وأم حلموس عن مبادئ القومية وشرف المهنة عن كيفية إرساء قواعد استقصاء اللامرئي وتحويله لسينما سكوب بالألوان! وتتعجب من عدم فهم السيدتين لها.

أنا أيضا لا أفهم، أسقط في شركها، أسكن حماها، تطمئن لي، تعرف أني لن أتمرد عليها وإن حاولت ستقمع كل ثوراتي وتتركني قانعة، ديكتاتورة كبيرة، لكني أحبها!

بهية لا تحب الكراسات ذات التسعة أسطر، ولا تلك التي بلا سطور، لم تكن تحب أن تترك سطرا للفراغ، تعلمت أن تملأ الصفحات حتى الهوامش لذا فهي لم تقبل يوما بأن تكون نصف حياة.

المقال تم نشره على موقع عابر 20/6/2016

حبيبي يسعد أوقاته

دعابة حنين

يوم الجمعة، إجازة، هي تصحو مبكرة، لا تترك لأهل الدار فرصة للاستمتاع بسويعات نوم زائدة، تظل تعمل بالمطبخ، تصل لمسامعي أصوات ارتطام الحلل والأطباق، صوت التنفيض، موتور الغسالة العادية ورجرجتها على بلاط الحمام، مرات تغير الموتور، مرات تغير الجسم الخارجي، مرات تغير حلتها الداخلية ولا مرة فكرت في شراء غسالةٍ جديدةٍ، لم تبدلها إلا حين أتت بغسالة أوتوماتيكية فتبدل وجه الحياة، وتبدلت حياتي أنا، لم أبق من طقس الغسيل إلا على محبتي لنشره، كنت أضعه على الحبال بفنٍ ممزوجٍ باستمتاعٍ عجيب، قد آخذ فيه وقتًا طويلًا بينما هي تتعجلني وقد اخترعت مهمة أخرى لها ولي، هكذا هي كامرأة عاملة في يوم الإجازة، سنوات العمر تمضي بلا إجازات حقيقية، لا مرح، لا خروج، طاحونة، مرات في الصيف كانت تلملمنا صغارا وتذهب بنا لحديقة المدينة، ألقي نظرة على الطاووس بخيلائه المزيفة، أمرح لرؤية النسناس، أفكر في محبس العصافير، ألعب بالكرة مع أخوتي، ثم أجلس بقية الساعات، تنفذ قوتي سريعًا، وأَمَّل أسرع.
إنه يوم الجمعة، يصحو على أصواتها المعتادة وحركتها التي توقظ الجميع، يسعل سعلته المعتادة، كان يدخن بشراهة، صدره كل صباح ينتفض انتفاضة العودة للحياة، يسعل مرتين، ثم يتمدد شاخصًا في الفراغ، كنت ألحق به وأستلقي إلى جواره حتى يُلقي غطاءه ويترك سريره، سيجارته الأولى في الحمام طقس يومي بصحبةِ جريدة الأمس التي لا أظن أنه ترك بها خبرًا دون قراءة!
يبدي تبرمه من جلبة الصباح التي تصنعها هي يوم الأجازة، بينما يعرف تماما أنه اليوم الوحيد الذي عليها أنْ تغسل وتمسح وترتب كل شيء وتعد طعام الأسبوع.
يترك البيت ويخرج، يعود بالعيش البلدي الساخن وأقراص الطعمية والفول، لا ينسى الجرجير، يدخل المطبخ يعد طبق فول مخصوص موقع بإمضائه، مذاقه يختلف عن أي فول أكلته، يسلق البطاطس، يحمر فصيِّ ثوم، يضع عليهما حبة طماطم معصورة يغرقها بالشطة الحمراء والملح والكمون ثم يهرس البطاطس المسلوقة على الخلطة طبق كان يسعدني رؤيته على طبلية الجمعة التي تجمعنا لوجبة واحدة جميعا.
مرات كنت أحب أن أعاند جلبتها وأظل في سريري في انتظاره، بعدما يعد كل شيء – يسعد بفعله ولا يحب أن يقوم أحد بدوره – وعلى وجهه ابتسامة محب، يجمع أحبته حوله، أحب تلك القبلة الصباحية، أعشق دلاله لي، حتى بعدما صرت أعمل كان يقف في انتظاري بالشرفة، وما إن يراني اقتربت يلوح لي وألوح له كأنا حبيبين مزقهما الشوق، يفتح لي الباب وقد أمرها أن تأتي بالغداء على الفور.  
تنفض يدها من غسيلها وتأتي لتجلس معنا، قد تفتعل شجارا كالعادة، يخمده بقول حاسم، أو تصمت وتدع ساعة النحس التي تسكن اليوم تمر دون انتصار بهزيمة ساحقة تحدث نادرا.
كثير ما بحثت في يوم الجمعة عن ساعة الإجابة، ما طلتها يوما، وما حققتها لي هي إلا نادرا حين كانت لا تستجيب لساعة النحس.
الجمع تبدلت، ما عاد، وما عدت، كل جمعة أغيب فيها أذكر نفسي أن الماضي لا يعود، حين أرجع إليها أكتشف بعد المسافة بين ما كان وما صرنا إليه، لا إفطار، غداءنا فيه ضيوف جدد، صغار لا يهتمون لشيء، لا يعبأون إلا لأنفسهم، صعب إرضاءهم، كنت أيضا صعبة الإرضاء، لكني كنت أهابه، هم لا يهابون أحد! لا أملك قدرته على التدليل، لا أملك صبره فقط لديِّ عصبيته وعصبيتها.
اليوم جمعة، صباح في مدينة مختلفة، مدينة لا تنام، لكنها يوم الجمعة مختلفة، إنه معي، يجلس بصحبتي على مقهاي، يدخن الشيشة، لم أفزع كما فزعت من قبل، اليوم لن أقول له دخن بعيدا عني، قد أشاهد معه مباراة للأهلي، لن أجعله يترك البيت ليشاهدها، أو أظل في الشرفة حتى ينتهي من المشاهدة، سآتيه أنا بالفاكهة التي يحب مثلما كان يفعل حين يرى العنب قد ظهر فيحضره لي على الفور، هل  نتبادل الأدوار؟
لا يمكنني مبادلته.. لا أملك قلبه.
الشوارع في المدينة التي لا تنام صباح الجمعة شبه خالية، أنا وهو اليوم وحدنا نسير سويا، أحب أن يستمتع معي بهذا الهدوء، بتلك النسمات الباردة، والسير وسط القاهرة الخديوية، أعرف أني سأجد سبيلا لنتحدث، وأجد لديه معلومات كالعادة، يفتح معي تاريخ المكان، يحدثني عن الطرز المعمارية الأوروبية للعمارات، يرصد معي التشوه الذي فعلته بعمارة المكان المحال التجارية الجديدة بلافتتها الضخمة غير الملائمة.
نفتقد جلبتها الصباحية، أصوات ارتطام الحلل، صوت الغسالة، نضحك، نضحك كثيرا ونحن نتذكر، على المقهى أترك له الجريدة ليحل الكلمات المتقاطعة، أخبره عن اللعبة الجديدة (السودوكو) ؛ لن أضايقه وأتلف كلماته المتقاطعة أو أسطرها في صفحة بيضاء، اشتريت لي واحدة – لم أعد أحل الكلمات المتقاطعة – وجلست بصحبة قلمي أحلها مثله، ماذا لو دخلنا سينما في شارع عماد الدين أو طلعت حرب؟!
لم أدخل سينما معه من قبل، ستغار هي غيرة لا حدود لها لو علمت، كان يقول علينا ضرتين، لم تفهم يوما هذا الحب، ولم أفهم يوما سر العداء، لم يعد هناك ما يثير بيني وبينها العداء.
اليوم الجمعة، هي تتصل بي، أظنها تحس الأمر، أعتذر عن المجيء، لدي عمل، لا تتفهم كثيرا الأمر، يحل الصمت، لا داعي لاستدعاء الساعة المنحوسة، كل المكالمات لا تستغرق أكثر من دقيقة وأحيانا تزيد قليلا.
أنا وحدي بدونهم، الشوارع التي تمنيت أن أعرفها معه ها أنا أسير بصحبته، يدي في يده، أخبرته أن مهمة عمله السنوية التي كان يسافر من أجلها القاهرة كل عام كان يقضيها بالقرب من محل سكني، وأني من هذه اللحظة لن  أجعله يحتاج شيئا، لن أجعلها تُحمله كل تلك الأطعمة التي كانت ترسله بها كما لو أنه ذاهب إلى مجاعة وليست القاهرة العامرة.
لن أؤخره عن الصلاة في رحاب الطاهرة، سأنهي جولتنا على عجل، وأذهب لأعد له وجبة شهية قبل أن أنطلق به لمناطق أحبها، أعرف أنه يحب الطعام الحريف، سجق زيزو في انتظار محبيه دائما، سأتلهف لأبرد فمي بينما هو لا يهتم فالأمر بالنسبة له عادياً.
أبحث عن مقهى أحبه بين مقاهي شارع المعز، جلسنا، طلبت قهوتي وطلب شاي خمسينة، من نظرةِ عينيه عرفت أنَّه أحب المكان وأني اخترت اختيارا صحيحا، أخبرني عن زياراتٍ سابقة للمكان، ذكر لي تاريخها، تمامًا مثلما كان يذكر لي متى وكيف فقد كتابًا لكن بغير حسرة فقد كتاب، تتهادى ذكرياته كما موج النهر.
لن أعرفه بصويحباتي، له رأي لا يتغير ( البنات تفسد بعضها البعض) سأل عنهن، ذكرت أسماءَهن، رويتُ حكاياتهن، لمحتُ في عينيه الدموع، الألم، لم أتركه يتألم نقلت دفة الحديث لموضوع أخر.
الشوارع امتلأت، ما عادت جمعة الصباح، هي تجلس الآن أمام التلفاز، تتابع برامجها المعتادة، بينما نحن نخترق الزحام في شارع 26 يوليو، يضحك وهو يتذكرها وهي تعرفه باسمه القديم شارع فؤاد.
هي أيضًا لها ذكريات حياة لسنوات أربع قضتهم في تلك المدينة، في نفس مكان إقامتي، هل أعيد التاريخ، أم أن لي من نصيب أيامهما نصيب؟!!
المساء حَلَّ قبل ساعات ولم آخذه لكل المناطق التي أحب، كنت أزور معه أماكن كثيرة أحببتها وزرت بعضها بعد ذلك وأكثرت، لكني لم أقف معه على شاطئ النيل، ها أنا معه بقرب النهر، أتت صغيرة متطفلة أعطته وردة ودعت الله أنْ يخليني له، ضحكنا، ضحكنا كثيرا.
انتهى اليوم، هل تذَّكر أنه يوم جمعة، وأنه معي؟!!
في جلسته على السرير الوحيد بالبيت كان هادئا، ثمة مسحة من نور على وجهه الأسمر، ابتسامته النادرة أضاءت محياه، أأسعدته؟ قد أكون فعلت.
 أغمض عينيه، أظنه نام، لن أوقظه!
تم نشر النص بعدد فبراير من مجلة إبداع 2016

سرير أبيض

اليوم جمعة، حجرة واسعة، سرير أبيض، انعكس نوره في عيني، وضعت حقيبتي على الأرض جانباً، توجهت للمقعد أسفل النافذة وعيناي لا تفارقان الأبيض الفسيح، لم يقل لهم أحد إني لا أحب الأَسرّة البيضاء!.
كان يوم جمعة، حجرة ضيقة، سرير أبيض صغير، ترقد عليه في وداعة، لم أكن أعرف ما بها، كل ما أذكره أني رأيتها قبل ذلك جالسة وسط نسوة كثيرات، أختي رضيعة على يدي أمي، بينما أنا أنزوي في ركن بعيد بفستاني الوردي وضفائري ذات الشرائط، لا أحد يحس بي، سمراء صغيرة قصيرة تتخفى وراء ستارة سميكة من القطيفة، أرقبهم جميعاً.
دموع كثيرة تنهمر، آهات تشق الصدور، هي كانت تلطم خديها، لونها الأبيض كان شاحباً، تردد كلمات لوم لا تنتهي لروحها فقط، لم أكن أعرف لماذا تلوم نفسها.
أخذت وقتاً طويلاً لأقترب من السرير الأبيض، وقتاً كان كافياً لأهزم قلقي، رعبي، كراهيتي، جميعهم تركوا الحياة وتركوني على سرير أبيض.
أخذت مكاناً صغيراً، وضعت الوسادة خلف ظهري، ارتكنت إلى الحائط الخلفي، وبحثت في القنوات عن فيلم قديم كالعادة، جزء مني ذهب إليها، إلى صورتها المعلقة على الحائط في غرفتها الواسعة ذات الأرضية الخشبية، كانت ترتدي «تاييراً» أخضر، وجهها الأبيض النضر ونظرتها المتعالية كانا يبعثان في نفسي الرهبة، عيناها الضيقتان كانا بعمق جب كلما صرخت بداخله غاب صوتي طويلاً حتى عاد، وجه يختلف عن ذلك الغارق في دمعه، اللائم لنفسه في نهار جمعة بعيدة.
يوم جمعة انتظر أبي أن يأتي الصبي الذي اقترب من السابعة عشرة من عمره كعادته، كنت أيضاً أنتظره، رؤياه بهجة، شيء ما يجذبني نحوه، كان في لونها لكن عينيه واسعتان، له شعر أجعد، ذقن مدببة، جبهة عريضة، روح نقية، ابتسامة عذبة، يحملني ويضحك، أضحك وأكف عن بكائي، أهدأ بصحبته.
مازلت أذكره، وأذكر يوم جاؤوا بخبر عنه، نزل أبي السلالم عدواً، شاهدته من النافذة يكمل ارتداء قميصه في الشارع وهو ينادي عليه، لم أفهم شيئاً، لكن حين جاء يوم الجمعة، كان الأسود شريكاً، البكاء والنحيب مصاحباً للجميع، الذهول أيضاً على الوجوه، أختي الرضيعة كثيرة البكاء كانت صامتة.
أما هي فقد أذابها الحزن، لم تره، لم تسمع صوته، لم تحتضنه، جاءت في طائرة من بلد آخر، أمرضتها الحسرة، فسكنت تلك الحجرة الضيقة وذلك السرير الأبيض، لأول مرة كنت ألتقي بهذا الأبيض، بدا لي لوناً رسمياً، لوناً للغربة، للمرض، للموت!.
أخذني أبي الذي ماتت ابتسامة عينيه إلى المدينة الكبيرة، كنت فرحة بركوب الحافلة، الطريق، وعمود الطعام الذي ملأته أمي بمأكولات شهية، كانت ترقد على سريرها الأبيض، لم تحس بنا، كانت بعيدة، جلسوا حولها، المكان شاحب كالمرض، انسحبت تدريجياً نحو النافذة ومنها إلى الحديقة، للورود، للأخضر، بت هناك فترة ألعب بينما هم يلتفون حولها، سألت عنه، كانوا يخفون كل شيء، يتجنبون الحديث، يمررون عبارات غريبة لا أفهمها، مرة عرجت على النادي، وجدت صورته هناك صورة كبيرة بالأبيض والأسود ، كان بطلاً للعبة من الألعاب، وقفت أمامها وشوقي إليه جعلني أحدثه، أسأله عن الغياب، عن الضحكات التي ما عادت تعرف طريقها إلينا، عن أبي الذي ما عاد أبي، كانت أصواتهم تقطع علي حديثي معه، جذبت يد أبي لأسأله عن الشريط الأسود الموضوع على طرف الصورة، ما جاءتني إجابته لكني سمعت نشيج البعض وكلمات حسرة كثيرة.
ترى لو ... ؟!! السنون بعيدة، الجمعة تلي الجمعة، ما عادت عمتي ولا عاد ولدها الذي لم يأت يوماً ليصطحبني لنلعب وسط الأخضر، ما عاد ليحملني لنعبر شريط القطار، ما كان لنا أن نعبر شريط الحياة معاً. 
السرير الفسيح المريح كان شوكاً، ذكراه وذكراها وصورة أبي الأخيرة تداهمني. كلما جلست انتفضت، اتصلت بخدمة الغرف غاضبة عليهم أن يأتوني بسرير غير الأبيض، ألقيت بكلماتي دفعة واحدة وأنا أكاد أصرخ بهم، لم يفهوا شيئاً من كلماتي التي أعدتها مراراً قبل أن يأتيني صمتهم ثم صفارة طويلة!.

المقال منشور بمجلة العربية بعدد يناير 2016

حواري لجريدة السياسة الكويتية

رباب كساب: حان وقت تجديد دماء الساحة الأدبية أجرت الحوار شروق مدحت  تمردت على الظروف المحيطة ،رافضة الاستسلام لعادات وت...