الاثنين، 13 نوفمبر 2017

البطل الذي لم أكتبه رواية


البطل الذي لم أكتبه رواية
الأربعاء .. سوق المدينة، النسوة يتجهن إلى تلك الشوارع الضيقة الممتلئة بالباعة الذين يأتون إليها مرة كل أسبوع، أول مرة اصطحبتني أمي للسوق كان بعد إلحاح كبير، صديقاتي الصغيرات كن دائما مع أمهاتهن، يعتبرنها نزهة، يفرحن بكثير من الأشياء التي يحصلن عليها ويروين لي ما شاهدنه في السوق، وكيف أقنعت كل واحدة أمها بأن تشتري لها بعض الحلوى أو كوب عصير، يحكين الكثير ويتركنني أعيش على أمل أن يأتي أربعاء وتأخذني أمي للسوق، لكن أمي لا تذهب مثلهن كل أربعاء فهي امرأة عاملة ليست كأمهاتهن، وحين يأتي موعد خروجها من العمل يكون السوق قد انفض وذهب الباعة بعد أن باعوا بضاعتهم.
حتى جاء أربعاء صيفي فقررت أن تستجيب لإلحاحي وتأخذني معها، تغلبت الدهشة على ملامح الخوف من الزحام، من النسوة الكثيرات والرجال، من الباعة الخشنة ملامحهم والبشوشة، من الضيقة صدورهم وأصحاب اللسان المعسول، من تلك النداءات المميزة على كل صنف ولون.
أمي تنتقي متطلباتها من الخضر والفاكهة بينما أنا لا أحمل سوى عينين متطلعتين من خلف النظارة الثقيلة معدنية الإطار إلى الناس - شغلي الشاغل حتى الآن – تصر على أن أكون خلفها تماما، وبينما أسير خلفها ألمح وجوها أعرفها، أشير لبعض صديقاتي اللاتي يصاحبن أمهاتهن لأقول لهن ها أنا قد جئت مثلكن إلى السوق.
تتوقف أمي لتسلم على واحدة من معارفها بمودة، وتلتقي بأخرى قد فرقت الأيام بينهما فتقابلها بشوق كبير، يجاورنا رجل فيبتسم لها ملقيا السلام ومرسلا سلاما أخر لأبي ثم يمضي مسرعا مخترقا الزحام الشديد، بينما أنا أراقب تلك الموازين التي لا تكف كفوفها عن الهبوط والصعود، نفس كفتي الميزان اللتان يلاحقنني فأسعى جاهدة لاتزانهما، لاتزان الكون من حولي، إلا أنه لا يتزن أبدا!
أقف مسمرة أمام بائعة السردين المملح، تحاول أمي التحرك وتدفعني للحركة لكن بلا فائدة لقد جئت خصيصا لأجله، تشتري لي منه، لكني لا أتحرك، إنني أريد ذلك الصغير أصفر اللون، فتبتاع لي قرطاسا صغيرا أفرح به كأنني نلت أكبر قطعة شيكولاتة! ممنية نفسي بإفطار عظيم بهذا السردين الصغير والخبز البلدي الطازج الذي نشتريه في طريق العودة.
كان السوق مبهجا بالنسبة لي حينها.
تغير سوق الأربعاء ليصير يوم الجمعة، وانتقل مكانه، ثم أصبح سوقا دائمة يومية، إلا أن السكان البعيدين عنه لا غنى لهم عن الباعة المتناثرين في أرجاء المدينة.
سنوات لم أعرف شيئا عن السوق، بعيدة تماما عن كل مظاهر الزحام ولقاءات النساء، أبي وأمي وأخي كانوا يقومون بشراء كل ما يحتاجه البيت، بينما أغرق في عالم بعيد خال من كل هذا حتى ظن الكل أنني لا أعرف كيف أشتري كيلو طماطم! وكان الأمر محل نقاشات كبيرة، وغمز ولمز دائم!
بعد كل هذه السنوات التي ليست بالقليلة بدأت مرحلة جديدة ورحلة إلى السوق شبه دائمة، بالتحديد بعد وفاة أبي وعمل أخي وخروج أمي للمعاش، بدأت الرواية التي عشت عمري وأنا على هامشها تماما، بقى أن أقوم بدور المشتري الشاطر الذي يعرف كيف يبتاع كيلو الطماطم، كيف ينتقى احتياجاته دون أن يصبح فريسة لبائع انتهازي، هذا الوضع الذي يحمل شبهة إجبار أشعرني بمزيد من الانفصال، وبعض كراهية، فأنا أذهب لأنني أحتاج؛ لم أعد أذهب من أجل البهجة والسردين المملح.
حاولت أمي أن تركن بالمهمة لواحدة تشتري لنا احتياجاتنا فما كان مني إلا الاعتراض، الاحتجاج والثورة التي اعتبرتها هي غير مبررة فهي تبحث عن راحتي أنا المتذمرة الدائمة، بينما كان تبريري أن لا أحد يعرف احتياجتنا سوانا، لا أحد ينتقي لنا.
كان عليِّ أن أفهم قبلا ماذا يعني أن يفرد البائع طاولتين أو أكثر لنفس الصنف لكنهم ليسوا واحدا، فأنا أفضل ما في واحدة من الطاولات الثلاث بينما جارتي تفضل الثانية وزميلتي تنتقي من الثالثة! وتطلّب هذا بعض رحلات بلا شراء لأعرف أن ألف باء ( اختيار، انتقاء، ذائقة، حب) تتعلمها في السوق.
كل من كان يظن بي فتاة مرفهة تغيرت فكرته وهو يرى ما أحمل من أكياس في طريق عودتي من السوق، زميلاتي اللاتي اعتقدن لسنوات أنني لا أصلح لما تصلح له النساء رأين بعيونهن أنني أستطيع انتقاء الأجود بل وإن ما أختاره وأطلب من البائع أن يزنه يكون مضبوطا ميزانه، فتقول إحداهن ضاحكة : إيدك ميزان فأبتسم بثقة وأقول : وبرجي ميزان.
شيء وحيد لم أتعلمه من النسوة رفقة السوق .. الفصال، لا أعرف كيف أدخل في مناهدة على سعر، أجدها كبيرة أن أفعلها، لازالت بي بعض رفاهية لم أتخلص منها.
ثم ذهب سوق المدينة مع انتقالي للعيش في العاصمة، وفيها صار السوق إجباريا، لكنني أحدد متى أنزل إليه، تتحكم بي حالتي النفسية وليس احتياجي، فأنا أستطيع الاستغناء، أستطيع التجاهل لأيام، وصرت أتعامل مع باعة مختلفين، ليسوا كالفلاحين الذين يأتون من القرى المجاورة لنا، وباتت مشكلتي الأعظم معهم هي تذمرهم من الكميات القليلة التي أرغب في شرائها، أو أن بعضهم يرفض أن أنتقي بيدي ما أريد، مرات ألقي ببضاعتهم في وجوههم وأمضي بعيدة، مرات أتحمل ضيقهم مني ويتحملون هم طلبي القليل، ومرات أستسلم وآخذ أكثر من احتياجاتي لأنني استسلمت للسان حلو، ووجه بشوش، ومزحة صغيرة، فأحمل ما لا أريد بكلمة.
لازلت أصر أن البائع الجيد هو من يستقبلك جيدا، من يضحك عليك وأنت تعرف ذلك وتبتلعه فأنا أحب المثل الذي كانت تردده أمي على الدوام ( لاقيني ولا تغديني).
ومع تكرار المرات التي أذهب فيها للسوق أجده أحيانا كثيرة يضحك، يقيم أفراحا تعلو فيها الزغاريد فأحمل من كل شيء تقريبا، ليس فرحا بالمعنى الحرفي ولكنه طزاجة مبهجة، إنك تجد الخضروات من فرط طزاجتها ولمعانها تحملك لأودية من الفرحة، بريقها نور يشق طريقا لقلبك فأشتري وأشتري حتى تعجز يدي عن حمل ما اشتريت، لا أعرف نساء كثيرات تحمل لهن طزاجة لخضر هذا النهم في الشراء، أو تصيبهن تلك البهجة التي تصيبني.
لا أعرف واحدة تدخل السوق وتخرج دون أن تشتري شيئا رغم أنها تحتاج لأشياء دفعتها للذهاب لمجرد أن وجوه الباعة تثير في نفسها قلقا وضغينة.
لا أعرف واحدة منهن تخرج من السوق دون أن تشتري شيئا لأن الخضر والفاكهة لا ينادينها ببريق يسلب إرادتها فيدفعها دفعا للشراء!
لا أعرف واحدة منهن تسعى للحكايات، من منهن تعرف رانيا ذات النصف خطوة، تلك العرجاء التي تنفق على أطفالها وزوجها المريض ، وتبيع ما تستطيع نقودها القليلة شراؤه من تجار الجملة لا ما تحب أن تبيع.
لا أعرف من منهن تعرف رشا البائعة الشرسة صاحبة اللسان اللاذع والوجه الذي يفارقه الجمال، رشا التي قد تغيب عن السوق وتدع أختها التي لا تقل شراسة عنها تأخذ مكانها لأنها في زيارة لزوجها السجين!
من منهن يا تُرى تعرف بائعة أنقذت زميلة لي ذات يوم من ضائقة مالية اضطرتها أن تبيع واحدا من طيورها التي تربيها فوق سطح بيتها، فذهبت تسأل عن امرأة اعتادت أن تبيع لها، لم تكن موجودة في ذلك اليوم ومع الإلحاح في السؤال فهمت البائعة الحذقة ابنة السوق أن زميلتي في ضيق فأخرجت كيس نقودها المعلق بحمالة صدرها وأخرجت لها نقودا وأصرت أن تأخذها وتعيدها وقتما يأتي الفرج!
من منهن تعرف الخضري المسيحي الذي يستقبل الجميع بود بالغ ويستقبلها هي بحفاوة وبمزيد من الود حتى أنه يعرض عليها في كل مرة أن يوصل المشتريات إلى حيث تريد بينما يفتش في رسغها عن صليب يؤكد له انتمائها لنفس طائفته فتزيد حيرته ولا تجيب عن سؤاله الساكت عنه وقد فهمت تودده.
لا أعرف غيري حين أشعر بالوحدة تحطم سكوني الداخلي فأجدني أذهب للسوق! وأظل أنظر للبضائع بلا نية حقيقية في الشراء، أغدو وأروح في المكان، أذوب في الزحام، أرقب الباعة والمشترين، أتأمل البضائع كلها، أجد بعضا منها يحدثني أحيانا، يداعب مخيلتي بأكلة شهية، أفكر بما أحتاج للبيت، لكنني لا أقدم على شراء أي شيء إلا شيئا قد كنت أبحث عنه ووجدته مصادفة، وأظل في السوق حتى أقضي على ذلك الشعور الغريب الذي تسلل إليِّ، فأعود إلى بيتي وقد ملأتني حياة السوق بما يرتق ثقوب الروح التي ظهرت فجأة.
لكنه سوق وحيد هو الذي أشعر معه بذلك، سوق لكل شيء وليس للفاكهة والخضر فقط، إنه يمتلئ ببضائع من كل شكل ولون، خضر، فاكهة، أسماك، أدوات منزلية، ملابس، مفروشات، حقائب، أحذية، بقالة، لحوم، كل شيء، جاء سكني الأول إلى جواره فكان متعتي الكبرى وحين انتقلت بالسكن لأبعد عنه قليلا أجدني أذهب إليه بين حين وأخر لأجدد متعتي معه.
إن أجمل ما اشتريت وألذ وأطيب ما ابتعت كان منه، أول أشياء لبيتي لم تقم أمي بشرائها كان منه، إن رغبت بشيء ولم أجده أيقنت أنني سأجده هناك ويحدث أن أجده بالفعل، ليس عليك إلا أن تخرج من محطة مترو سعد زغلول لتجد نفسك في قلب السوق الآسر.
حين صدر ذات يوم قرار بفضه، أصابني الحزن، فظللت أتتبع الباعة الذين اتخذوا من الزوايا الضيقة ملاذا لهم، أنتظر عودتهم ويوم عادوا كانت فرحتي غامرة.
إن السوق هو الرواية التي ما كنت يوما بطلتها، لكنه بطل روايتي التي لم أكتبها بعد.
رباب كساب


نشر المقال ضمن ملف عن السوق بمجلة الثقافة الجديدة بعدد نوفمبر 2017

الأربعاء، 16 أغسطس 2017

شعب طفل بصفة دائمة .. مقالي على البوابة

شعب طفل بصفة دائمة
تتحرك بينهم، ترصد حركتهم الواهنة، تتعجب، تفكر كثيرا، لا تعرف كيف تنقلك خطوتك، لا حدس، لا شيء يمكنه أن يضعك في بؤرتهم، تكتفي بالصمت، مثلهم تماما.
ينقلك صمتهم إلى دوائر أعظم من اللامبالاة، تقترب من أن يصبح لا وجود لك على الإطلاق، ثم تبحث في وجوههم فتجد أنه من الصعب الاستمرار في اللامبالاة، إن شيئا ما في صمتهم وعزوفهم يدفعك للبحث، للمرور عليهم، لوخزهم حتى تستخرج كلمة، لكنهم واهنون .. صامتون؟!
ألا يكفي هذا الوهن لتكف عن تعذيبك لهم ونعتهم بما ليس فيهم؟ جزء من قديمهم لا يجعلك تصدق، أعرف ذلك، تصرخ وتقول إنهم في الأصل جبارين، قادرين...لا تحمل أحدا ظنونك. 
لكن ألم تعرف أنَّ في بعض الصمت قوة، وأنك لا يجب أن تطمئن لهم كثيرا، إنها القوة التي تجعل عدوك يتمادى ظنا منه أنك ميت، أن لا وجود لك، الصمت الذي يجعله قلقا، لا ينام لا يعرف من أين ستأتيه الضربة، فيوجعك ويتألم هو. كيف تحكم هكذا دون أن تعرف أنَّ من تتكلم عنه يحترف القدرة على الصمت القاتل؟! قبل أكثر من مائتي سنة، جاء أحدهم حالما بالامتلاك، راغبا في استكمال امبراطوريته العظيمة، جاء حاملا عَلَم امبراطوريته، مطبعة، علماء، بجانب جيوشه، جاء مستعمرا يضع مبررات واهية لقدومه وقد أتى باغيا، غازيا.
في كتاب علماء بونابرت في مصر للكاتب المولع بمصر (روبير سوليه) يذكر أنه حين عرض علماء بونابرت تجاربهم الخارقة في حينها على المصريين، قابلوها بلامبالاة أغضبت المستعمر الفرنسي، واُتهم بسببها الشعب المصري بالجهل، بل إن عالم الجيولوجيا (دولوميو) وكان أحد علماء الحملة الفرنسية على مصر قال : هذا الشعب لا يتسم بحب الاستطلاع أو الميل للمنافسة، فإن لامبالاته التامة أمام كل أمر غريب عن أحواله أو عقيدته أو أعرافه .. ربما كان أكثر ما أثار عجبي ودهشتي في أسلوب وجوده! .. فلا شيء يثير استغرابه .. لأنه لا يولي أي اهتمام لما لا يعرفه.
وعلى النقيض من ذلك رصدت جريدة أنباء مصر التي كانت تصدر في ذلك الحين ملحوظة لكبير الأطباء الفرنسيين (ديزجيت) أبدى فيها رأيه قائلا : إن مجرد الانتباه البسيط لكل ما يحيط بنا يوضح تماما أن المصريين يستفيدون من دروسنا، وإذا كنا قد لاحظنا أنهم متأخرون بحوالي عدة قرون .. فإن عقولهم المقلدة ومهارتهم قد جعلتهم يكسبون قرنا كاملا في مدة عام فقط!
لم يكن تجاهل المصريون لعلوم المستعمر غير أسلوب حماية لهويتهم، محاولة مقاومة لاستعمارهم، وقد استمر الشعب في لامبالاته تلك حتى فاجأ المستعمر بثورة القاهرة الأولى والتي كان سببها الرئيسي بعض التغييرات الاقتصادية المجحفة.
وفي سبيل السيطرة على مصر قام رجال المستعمر بمحاولات تشويه للشعب فقال واحد من فرسانه ويدعى (تيودور دي لاسكاريس) : أن مصر لم تنضج بعد، من أجل استيعاب مبادئ الجمهورية!
كل من له فكر استعماري ديكتاتوري يظن أننا شعبا غير مؤهل لشيء، لسنا مؤهلين للديمواقراطية أو لأي حياة كريمة!
الغريب أنه بعد الاحتلال الانجليزي والصراع الفرنسي الانجليزي للسيطرة على مصر كانت أغلب الصحف والمجلات الناطقة بالفرنسية الصادرة في مصر كانت تناضل من أجل إنهاء الاحتلال البريطاني لكنها لم تكن تؤيد الاستقلال، إذ يرى الفرنسيون أنه ليست لدى المصريون القدرة على حكم أنفسهم بأنفسهم!
ورغم محاولات التعاطف مع المصريين ضد المحتل الإنجليزي كما ذكر روبير سوليه في كتابه مصر ولع فرنسي حيث كتب أن جريدة لو بوسفور قد نشرت أن المصريين (طيبون، عقلاء، متسامحون)، لكن هذا الاطراء لم يخف فكرتهم المترسخة تماما بأن المصري (رجل ضعيف الشخصية، سلبي يخضع بسهولة إلى جميع أنواع الهيمنة)، ووصلت بهم الصفاقة لوصف المصريين بأنهم (شعب طفل بصفة دائمة).
وقد قال (لوجيد جان) في دليله السياحي عام 1894 بأن (جوهر الطبع المصري هو الطيبة المتهاونة، والميل نحو قبول كل شيء بلا تذمر، الرضا بالأمر الواقع مهما كان).
بينما قال الكاتب الفرنسي (أوجين فرومانتان 1820 - 1867) عن المصريين (هذا الشعب وديع، مرح إلى أقصى حد بالرغم من بؤسه ومن خضوعه . إنه يضحك من كل شيء، ولا يفور غضبا. صوته مرتفع ويصرخ كما يكثر الإشارات والحركات مما يجعلنا نعتقد أنه غاضب، في حين أنهم يضحكون) .
هذا بالإضافة لنشرهم كتبا مليئة بالضلال ومشحونة بالشتائم تبعا لوصف ابن جلدتهم روبير سوليه.
لا أتعجبهم حقيقة ليس على المستعمر أن يبجل شعبا جاء له غاصبا، بل إني أتعجب من هم من أبناء هذا الشعب ولا يعرفونه، يقللون من حجمه ومن قيمته، يبذلون قصارى جهدهم ليهدمونه ويصدرون فكرة أنه لا يستحق شيئا من طيب العيش ومن كرامة الحياة، من قال إن الشعب غير جاهز للديمواقراطية كان مصريا! ومازال بعضهم يردد ذلك ويتعامل معنا على أننا غير ذي أهل، يتحدثون بخطاب أغلبه يتعامل معنا كأننا أطفال رغم أن أطفالنا يتخطون مستوى خطابهم بمراحل كبيرة إنهم أطفال القرن الحادي والعشرين لكنهم لا يعرفون للأسف!

الاثنين، 14 أغسطس 2017

بيكيا نص جديد بجريدة الحياة


بيكيا
يتنامى إلى سمعها صوت مشتري الروبابيكيا بينما تجلس أمام التلفزيون تشاهد فيلماً قديماً. لم تكن مصادفة أنْ يعلو صوت مشتري الروبابيكيا القديم صائحاً (بيكيا). في تلك اللحظة التي تغني فيها سعاد حسني وحسن عفيفي: (عقول قديمة، أفكار قديمة، أمخاخ قديمة... قديمة للبيع).كل ما لديها جديد، لم يكن لديها ما يصلح لمشتري القديم. جذَبت حاسبها المحمول ناحيتها، تحركت يدها بسرعة وتوتر على الأزرار، فتحت ملفات قديمة، نازعتها مشاعرها وهي تمر على كل الملفات، بينما الرجل يصرخ (بيكيا) قارعاً جرس دراجته، سألت روحها هل يأتي يوم ويشتري منها تلك الملفات (صور، فيديوهات، أغنيات، رسائل... الكثير من الرسائل)؟

ستصنع له قصصاً من كل صورة وكل أغنية بل وكل رسالة، ستروي له ما يشجع المشترين ويجذبهم لبضاعته، هل يرضى بشراء قصصها القديمة؟ قد يأتي يوم وتسير في الشوارع قارعة جرس دراجة مثله منادية: قصص، صور، ذكريات قديمة للبيع. قبل أسابيع صعد إلى جارتها التي أرادت أن تبيعه بعض مخلفاتها. كانت تقف معها يستندان إلى السور في المسافة الفاصلة بين شقتيهما. سألته بسذاجة أتشتري الذكريات؟ كان عجوزاً بما يكفي لفهم ما تقول، انفرجت تجاعيده وبانت أسنانُه الصفراء المحطمة؛ وقال: الذكريات شرايين سُدَّت فوهاتُها. فهمت مقصده وقالت: والشرايين الاصطناعية لا تمتلئ. ابتسم الرجل ونزل السلم بقديم الجارة قائلاً: كل وعاء يُملأ بما يناسبه وكل مشتر يبحث عن ضالته في جديد حتى ولو كنت أنا بائعه. كانت تعرف أنَّ سوق الذكريات ليس بسوق.

إنه مجرد جلسات نميمة لعواجيز تركهم الزمن وراءه. اندفعت داخلة شقتها، أحكمت غلق بابها، وقفت أمام المرآة، بحثت عن الزمن، عن تلك الشرايين المستبدلة، عن الذكريات الساكنة ملامحها، لمست بأطراف أناملها التجاعيد حول فمها وعينيها، أيقنت أنه آن الآوان لتصاحب هؤلاء في جلساتهم. ستجالسهم لتحكي، ستخرج لهم الألبومات الملصق عليها كل التواريخ والمناسبات، ستُعرفهم كم عملت لليالٍ طويلة في الأرشيف. ستفرغ في جلساتهم ما كان في الشرايين والأوردة، وستخرج ما ظنت أنه ذهب حين استسلمت لمبضع جرَّاح ماهر. نامت كفريسة طيعة وتركت له جسدها، قلبها. كانت تعرف أنه لن يتمكن من اختراق روحها بمبضعه. كل ما سيفعل أنه سيبدل شرايينها بأخرى خاوية، بلاستيكية.

لم يصدقها الجرَّاح الماهر حين قالت له أنه فشل، الشرايين البلاستيكية يتحكم بها عقل ما زال نابضاً بحس الذكرى، ما زالت يدها تمتد للألبومات ذات التواريخ، لحاسبها الذي يحمل بعضها، لصفحاتها التي تحمل الرسائل جميعها، لفنجان قهوتها الذي كان أول هدية للبيت الذي لم يكن. يوم قصدته تخيلت أنه قد يقدر على المحو بالتغيير، بتغيير الشرايين التي تجري فيها دماء تحمل هواها، تفاصيلها، دموعها. ظنت أنها بذلك ستنسى تلك الشوارع التي كانت لهما. هنا كانت ضحكة وهناك دمعة. هنا كانا كراقصين تحملهما المتعة ويغطيهما العشق. وهناك كان شِجار وخِلاف يذوب بمجرد أن تتلاقى الأعين. هنا كانت أغنية في ليلة مطيرة بينما الشوارع خالية إلا منهما، وهناك كانت أغنية أخرى بينما ليالي الصيف عامرة والعشاق مثلهما كُثر، فتتلاقى الأوجه وتتعانق الابتسامات ويترنمان بكلمات (في يوم وليلة خدنا حلاوة الحب كله في يوم وليلة) كانت أغنيتهما كلما ذهبا وعادا. كانت هي البداية. هنا تشابكت أيديهما وهناك حملهما رصيفان - كل بغضبه - وعند تقاطع الطريق تعود لحضنه. كانت ساذجة كما كان يعتقد تماماً، ساذجة حتى في محاولتها النسيان، حمَّلت الطبيب كل حماقاتها، صرخت فيه بفشله ومضت.

في لحظة اعتراف أقرت أنها كانت ترغب بفشله، أقرت أنها وهبت روحها حقا لأماكن الذكرى، للرصيف الذي يُهديها الكلمات متى صعدت إليه ويأخذها عنوة بمجرد نزولها عنه، وأن جسدها كله لو تحول لآلة بلاستيكية لن ينسى !

لقد وهبت حلمها لحلم مزدوج لم يذهب معها حين انصرفت، ظل هناك معلقا بحلم أعرج، وقصة بدأت لتنتهي!

لازالت سعاد تغني ( بيكا . بيكيا .. هدوم قديمة، طرابيش قديمة، عقول قديمة، أفكار قديمة، أمخاخ قديمة .. قديمة للبيع أشكال روبابيكيا تصلح للبيكيا).



ضحكت بشدة وهمت أن تقبض على دمعة هاربة لتعود بها لسجنها غافلتها زفرة قوية هربت من بين ضلوعها حاملة كل ما أرادت قوله، حمل الهواء ما خرج منها بينما تضغط بأصابع يدها على موضع العملية الفاشلة ثم أمسكت بالهاتف وهمت أنْ تكتب رسالة جديدة، حينها صرخ العجوز بقوة ( بيكيا .. بيكيا) فأرجعت الهاتف إلى جوارها في صمت.
رابط النص بجريدة الحياة بعدد 14/8/2017

الأحد، 6 أغسطس 2017

ويكتب نفسه شقي .. مقالي على البوابة

ويكتب نفسه شقي
لا زال المثل الشعبي يحرضني للبحث عنه وعن فلسفته، خصائصه، كل ما يحمله لنا من دلالات غير خافية، ارتباطنا بالمثل الشعبي جعل لدينا مخزونًا كبيرًا من الأمثال في الحب، الفقر، الصبر، الحرية، الغربة، الحظ، القدر، الموت.
يقول محمد إبراهيم أبو سنة في كتابه فلسفة المثل الشعبي، أن الفلسفة الشعبية لا تحاول أن تقدم نفسها من خلال مخطوطات مسطورة أو مؤلفات جامعة كالفلسفة الكلاسيكية المدرسية وإنما هي أقرب ما تكون إلى الرحلة الوجدانية الشفاهية، تجربة من تجارب الصفاء الإنساني.
وفي تعريفه للمثل الشعبي يقول أبو سنة: "هو موقف صادق يختزن وجهة نظر قد لا تكون الامتداد الأيدولوجي السليم ولكنها تحمل غبار التجارب الاجتماعية المادية والمثل كتعبير يصوغ الموقف المادي بلا وساطة نظرية".
وأشار "أبوسنة" أن المثل يمتاز بخصوبة تصويرية كما أنه يمثل حركة القوانين الأساسية للتطور الاجتماعي، مضيفا إلى أنه لن نجد سوى المثل في حقيبة التاريخ يمثل وعاءً جيدًا يحفظ لنا تراثنا النفسي الخالد بصدق منذ كان الإنسان يقاوم على شاطئ النيل هجمات الطبيعة الصارمة وصعوبة العثور على إمكانيات العيش في ظل تلك الظروف المبكرة من تاريخنا، وإلى جانب شموله فهو صادق في دلالته الواقعية وهو كذلك أغنى موضوعا وأفعل أثرا. 
وقد أوجز أبوسنة خصائص المثل في : 
- الصبر: تلك السمة التي اكتسبناها كشعب زراعي اعتاد الصبر منذ تعلم أن يبذر بذوره ليحصل على ثماره، وفي الصبر فرج، فهو مفتاح الفرج وباب الجنة "الصابرين لهم الجنة"، ورغم ما ظهره أمثال الصبر من تواكلية إلا أن الروح المصرية التي ترفض الاستسلام تقول "العاجز في التدبير يحيل عليه المقادير".
- الصوفية السلبية: يرى أبوسنة أن المثل يبدو في ثوب أخلاقي تعليمي لا يساعد كثيرا على إنضاج الروح الثورية وإشباع الحاجة الملحة للتمرد والتحرر، التسليم للمؤسسات الدينية وإلباسها ثوب التقديس مع البساط الأخلاقي مهد العقلية الشعبية لاستقبال الفروض الغيبية، مع استيلاء الصوفية على المثل الشعبي فوجهته للبعد عن زخارف الدنيا "لأنها فانية ومحدش واخد منها حاجة".
- الهزيمة: يرى أبوسنة أن كل الظروف التي أحاطت بالمجتمع المصري من قهر وألم واستعمار كانت سببا رئيسا في تخريب الاقتصاد، وكذا خنق الروح المعنوية وبث الانهزامية مما أدى إلى تراجعنا وتراجع ثقافتنا، وتلك الروح الانهزامية قد تأثرت بها فلسفة الشعب مما خلق وجهة نظر غير سليمة أدت إلى أحكام سلبية ورجعية ومتسامحة "على قد لحافك مد رجليك"، "اللي ما يرضى بحكم موسى يرضى بحكم فرعون"، "إن كان لك عند الكلب حاجة قول له يا سيدي"، "إن انهدم بيت أخوك خد لك منه قالب". 
- الفكاهة: وهي ما تحدثنا عنها في المقال السابق من وجهة نظر الباحثة دكتورة عزة عزت، في هذا الشأن يرى أبو سنة أن الفكاهة ظهرت في أدبنا كلون من ألوان النقد غير المباشر، فهو يرى أن الفكاهة نفسها هي النقد بطريقة عرض الأخطاء في صور هازلة، وأتفق معه في أنها تفريغ يصب فيها المرء إحساسه بالمرارة "الجعان يحلم بسوق العيش"، "ادلعي يا عوجة في السنة السودة"، "إيش تقولوا في جدع لا عشق ولا اتمعشق؟ قالوا يعيش حمار ويموت حمار".
وفي إيجاز أذكر بعض النماذج للأمثال الشعبية المصرية: 
قالوا عن البخت، الحظ: قيراط حظ ولا فدان شطارة.
ساعة الحظ ما تتعوضش.
قليل البخت يلاقي العضم في الكرشة.
البخت يعرف أصحابه.
جيت أدعي عليه لقيت الحيطة مايلة عليه.
وقالوا عن المرأة والزواج: خد الأصيلة ولو كانت على الحصيرة.
خد المجنونة بنت العاقلة ولا تاخد العاقلة بنت المجنونة.
من كترت بناته صارت الكلاب صهراته.
وعن الحب قالوا في المثل: حبيبك يبلع لك الزلط.
وبمنطق الصب تفضحه عيونه يقول المثل "الحب والحبل والركود على الجمل ما يختفي".
عاشق رأى مبتلي قاله أنت رايح فين، وقف روى قصته بكوا سوا الاتنين، راحوا لقاضي الغرام الاتنين يشكوا، بكوا التلاتة وقالوا حبنا راح فين؟! 
وأخيرا أقف أتأمل كل حرف وبداخلي غرام لذلك المصري الذي ابتدع كل حرف ونقش تجاربه بتلك الكلمات الموجزة المؤثرة، والتي تكشف جوانبا كثيرة منا ومن مجتمعنا ككل مرددة ما قاله قديمًا "حد يبقى القلم في إيده ويكتب نفسه شقي".

الأحد، 23 يوليو 2017

كأنهم فرغوا من الحساب مقالي على البوابة

كأنهم فرغوا من الحساب 
على موقع التواصل الاجتماعي فيس بوك قد تجد نفسك بين ليلة وضحاها عضوا في عدد لا بأس به من (الجروبات) التي قد لا تلائمك ولا تتناسب اهتماماتك ومن بين سيل هذه (الجروبات) هناك جروب ظريف اسمه شعبي أصيل، يختص بالأمثال الشعبية المصرية خاصة، ووجدتني لأول مرة منذ سنوات أتفاعل مع الصفحة إما بوضع مثل أو كتابة تعليق أو إبداء إعجاب وهذا الأكثر.
ثم تطور الأمر وبدأت أبحث عن الموضوع الذي يلقى هوى في نفسي منذ مدة طويلة غير أنني أعجز عن الحفظ، فأنا أدون الكثير من الأمثال وأنسى أين وضعتها.
وفي طريق البحث وجدت كتاب ( الشخصية المصرية في الأمثال الشعبية .. للدكتورة عزة عزت) بت أقرأ الصفحات بنهم شديد، فذلك المثل أو تلك الكناية أو هذا القول هو نحن، وكلما تقدمت في قراءة الكتاب كلما وجدتنا كمصريين على صفحاته، قد يكون الموروث المصري من الأمثال قد وجد طريقه عبر الحكايات والنوادر والأغاني والسفر والمقاهي، إلا أن الموروت القديم والحديث يجد طريقه في سرعة لن يتخيلها أجدادنا أصحاب الموروث القديم، فنحن بضغطة زر ننشر الحكايات، السخرية، النكات، بأسرع من سرعة الضوء، وانتشار النار على صفحات التواصل الاجتماعي.
لم تفاجئني الدكتورة عزة بحديثها عن الشخصية المصرية ومدى تطورها واعتمادها على أدبياتها الشعبية وحفاظها على طبيعتها، لكن بدراستها القيمة والمراجع الهامة التي بنت عليها الدراسة قد أكدت لي تماما ما وصلني من خلال حياتي كمصرية وبعض قراءاتي.
وقد رصد الكتاب سخرية المصريين الأصيلة كطبع متجذر فيهم فتقول (إن حب المصري للفكاهة، وخفة روحه أمر لا خلاف عليه، وهما دافعه للسخرية اللاذعة والتهكم حتى في ساعات الجد والألم، فهو يسخر من نفسه، ومما يصيبه، وكأنه يستعلي على المحن بأسلوب يبدو للعامة وكأنه وسيلة إضحاك، وإن انطوى على تلميحات لاذعة، تسخر من الحياة ومن سلوك المجتمع، وتنتقده بشدة قد تصل إلى حد الفحش أحيانا بهدف التأثير في النفس بعنف وكأنها دعوة للرفض والتعبير).
وتؤكد أن أكثر الفترات التي تنتشر فيها الفكاهة والسخرية اللاذعة هي أكثر الفترات بؤسا وقهرا، فتجلت وعلت قديما في فترة حكم المماليك، كما كانت في أوجها حديثا في الفترة التي أعقبت هزيمة 1967 ولو كان الكتاب قد صدر الآن لأكد أن ما تشهده وسائل التواصل حاليا من سخريات ونكات قد فاق كل ما شهده المصريين على مدار تاريخهم، فالنكتة أو السخرية تنتشر بسرعة كبيرة وتتبدل كل يوم مع تغيرات الحوادث المتسارعة، بنفس سرعة هذا الزمن المجنون. 
وأجدني أتفق مع الباحثة الدكتورة عزة عزت في أن السخرية والنكات اللاذعة ليست وسيلة تغيير، ولا طريقا إلى حياة أفضل، فالباحثة ترى أن هذا يعني أننا شعبا غير مدرك للعواقب، وأراه أنا التفاف على الواقع وعدم مواجهته بشكل مباشر، وأتفق وهي أن هذه السخرية هي إفراغ طاقات وأنها تستنزف مخزون الغضب فهي على حد قول الدكتورة عزة تفريغ لشحنة من الكبت والقهر والحزن، مؤكدة ذلك بما قاله ابن خلدون (أهل مصر كأنهم فرغوا من الحساب).
لكنها تؤكد أنها طبيعة المصري التي فطره الله عليها، لم تتغير منذ الأزل، بل تزداد حدة في فترات القهر، فالسخرية اللاذعة تحمل فكرة ذكية، لغة متفلسفة، خفة ظل، قدرة وكفاءة على التخيل، مدللة بما نقله هيرودوت لمقولة الشاعر الروماني ثيوكربتوس (المصريين شعب ماكر لاذع القول روحه مرحة).
وبرغم يقيني بأن السخرية مواجهة سلبية إلا أنها في حالات العجز وقلة الحيلة وفساد الآخر وسطوته وجبروته لا شيء سواها، وكلما اشتد جبروتهم وفعلهم كل ما يحلو لهم دون النظر لنا أشعر بهم كأنهم يلقون في وجوهنا نحن المقهورون قليلي الحيلة المثل الذي يقول (قالوا للقردة اتبرقعي قالت دا وش واخد على الفضيحة).
http://www.albawabhnews.com/2628421

الأحد، 16 يوليو 2017

متى تصير هاء الفقيه راء مقالي على البوابة

متى تصير هاء الفقيه راء
الجميع لا يحبون تلك المدينة الصغيرة، يتنكرون أحيانا للنسب لها بينما يذكرون أسماء قراهم بفخر، العجوز قريبتي كانت تردد (كفاية إنها بلد ملهاش ولي)، حتى سمعت هذه الجملة لم أكن أفكر أبدا بمسألة الأولياء والأضرحة، كنت ألمح في كثير من القرى زوايا صغيرة أو مدفنا في أحد الأركان، وأعرف بعد ذلك أنه ضريح لواحد من الأولياء، في كل بقعة واحد منهم يتبرك الناس بوجوده، إلا في مدينتنا الصغيرة لا بَرَكة ولا ضريحا.
ولأنني ولدت ونشأت بها لم أنشغل بفكرة الضريح أو البحث عن البركة، زياراتي كانت للأضرحة الكبيرة للتمتع بالأثر ليس إلا، أقرأ الفاتحة لصاحب أو صاحبة المكان ثم أمرر عيني على تفاصيل المسجد، شكل العمارة والنقوش، أبحث عن الراحة، قد يتعجب البعض أنني لم أجد راحتي عند الحسين، ووجدتها في مسجد بلا أضرحة، دخلته أول مرة فوجدتني أسجد وبي رغبة قوية في الصلاة، أجدها في رحاب البدوي رغم أنني أدخل دون أن أمر على ضريحه، وعند أم هاشم السيدة زينب كان العجب كله، فهي إن أرادت دعت وإن لم تُرد صرفت!
قبل سنوات ثلاث كنت أبحث عن عنوان ما ودلني الأصدقاء عليه مسترشدين بأنه إلى جوار أبي السعود، لم أكن أعرف حينها من هو أبو السعود الذي بت كل يوم من بعدها أطلب من سائق الأتوبيس أن يتوقف عنده لأذهب لعملي.
ولم أفكر به وأنا أرى النسوة لديه كل ثلاثاء، يدخلن إليه أو يجلسن مجاورات للمسجد أو في الحديقة المجاورة هن وأطفالهن، مولده بلا ضجيج أو زحام يكاد يمر فلا تلحظه.
في الجزء الخامس من كتاب الدكتورة سعاد ماهر محمد "مساجد مصر وأولياؤها الصالحين" تحدثت عن مسجده، معنونة الفصل بمسجد العارف بالله أبو السعود الجارحي (أبو السعود له جاه ومنقبة من زار ساحته يبلغ به أمله) وهو شيخ المتصوفين في القرن العاشر، توفي في عام 931هــ، وتؤكد دكتورة سعاد أنه ليس هناك تحديدا أو ترجيحا لمولده.
وعلى الرغم مما ذكره النجم الغزي في كتابه (الكواكب السائرة بأعيان المئة العاشرة) بأن أبا السعود الجارحي قاهري والده من أعيان كوم الجارح تقول سعاد إنه غير معروفة نشأته وطفولته أو شبابه المبكر، وأنه لم يعرف إلا بعد اكتمال شخصيته وكثرت مكاشفاته، وأصبح له مريدون وله زاوية في كوم الجارحي.
ارتبطت شعبية أبو السعود الجارحي بأن النسوة الطالبات الإنجاب يلجأن إليه طمعا في بركته، وينسب إليه حكاية جعلته المقصد في ذلك الشأن إلا أنني أشك في صحتها ولم أجدها إلا في دراسة للباحث صالح سعد (وتقول الحكاية أن هناك عاقرا تحب زوجها ويحبها لكنها كانت تخشى زواجه من أخرى ليكون له ولد، لم تقتنع بطمأنة زوجها ووفائه لها فما كان من الرجل إلا أن أخصى نفسه، ولكن يشاء القدير أن يزول سبب عقم الزوجة وكاشفته برغبتها في الإنجاب! فذهب الزوج إلى أبي السعود الذي أخذه معه إلى سردابه فجلس معه ثلاثة أيام ويقال ثلاثة أسابيع، صنع من الطين الذي يصنع منه القلل عضوا تناسليا ومسح عليه فعادت للرجل رجولته!) وشاعت الحكاية وانتشرت.
ولقد اجتمع القول بأن لأبي السعود بركات عدة ويقول عبدالوهاب الشعراني في كتابه الطبقات الكبرى أن أبا السعود لم يكن صفي العامة فقط، وإنما أيضا الملوك والأمراء والوزراء حتى إنهم عملوا بأيديهم في بناء زاويته، ويذكر أن طومان باي لم يتول الحكم إلا بعد مشورته، وكانت له حظوة في أيام حكمه، فأخذ يعزل ويولي ويثيب ويعاقب، لم يذكر شيئا عن الرواية الخاصة بالزوج والزوجة رغم أنه ذكر أن أبا السعود كان يعتكف في سرداب تحت الأرض يدخله في أول ليالي رمضان ولا يخرج منه إلا بعد العيد بأيام ستة، بوضوء واحد بلا أكل ولا يشرب من الماء إلا قدر أوقية كل ليلة وهذا ما ينافي الطبيعة البشرية، ويجعلني أيضا أتشكك في هذه الرواية أيضا لكنها في كل الأحاديث تقريبا عن الشيخ الذي كان يردد أنه لم يبلغ مقام مريد، ولكن الله تعالى يستر من يشاء.
ولم يكن للشيخ خليفة، وكان يقول: ليس لي أصحاب ويقول أيضا: لا تجعل لك قط مريدا، ولا مؤلفا ولا زاوية وفِر من الناس فإن هذا زمان الفرار.
وسُمع أبو السعود الذي دفن في سرداب زاويته بكوم الجارح بالقرب من جامع عمرو يقول لفقيه من الجامع الأزهر: متى تصير هاء الفقيه راء. 
وفي حديث له مع الشعراني قال: من حين عملت شيخا في مصر لي سبع وثلاثون سنة ما جاء لي أحد يطلب الطريق إلى الله، ولا يسأل عن حسرة، ولا عن فترة، ولا عن شيء يقربه إلى الله، وإنما يقول أستاذي ظلمني، وامرأتي تناكدني، جاريتي هربت، جاري يؤذيني، شريكي خانني، وكَلّت نفسي من ذلك، وحننت إلى الوحدة، وما كان لي خيرة إلا فيها فيا ليتني لم أعرف أحدا ولم يعرفني أحد!

الأحد، 9 يوليو 2017

لكل بيت أفعى حارسة مقالي على البوابة



لكل بيت أفعى حارسة
في سوق بلدتنا ما زالت بعض البائعات يحملن نقودهن في كيس يربطنه بحمالة الصدر، تمد الواحدة منهن يدها في فتحة جلبابها مخرجة الكيس، ولكثرة ما يخرجنه يبقينه خارج فتحة الصدر ظاهرًا، لكنه معلق بالقرب منهن، بينما إحداهن تعطينى باقي نقودي لمحت ما وراء الكيس علها في عجلتها الصباحية وهي تبدل ملابسها لم تنقله للطرف الآخر بعيدًا عن كيس نقودها، أو أنها تعمدت إظهاره لا أعرف، ففي الغالب كل مَن يحمل حجابًا يخفيه عن الأعين.
يقول إدوارد وليم لين في كتابه (المصريون المحدثون شمائلهم وعاداتهم) إن العرب يعتقدون في الخرافات اعتقادًا عظيمًا، وأن المصريين خاصة يفوقونهم اعتقادًا بذلك، يخشون الجن أخيارهم وأشرارهم، حتى أن العادة قد جرت حين يصب أحدهم ماءً أو غيره أن يقول (دستور) فهم يعتقدون في وجود الجن في طبقات الأرض الصلبة وفي السماء، كما يعتقدون بأن الجن يسكن الخرائب والآبار والحمامات والأفران، فإن دخل أحدهم المرحاض أو أدلى بدلوه لبئر قال (دستور، أو دستور يا مباركين) اعتقادًا بأن ذلك سوف يحميه من الأرواح الشريرة.
وإن كان "لين" الذي كتب هذا الكتاب بجزئيه في القرن التاسع عشر فقد صدر في عام 1835 يرصد ذلك متعجبًا بعض الشيء من أفعال المصريين ومعتقداتهم وأساطيرهم أيضًا، فلو كان حيًا لعرف أننا للآن ما زال الكثيرون منا يعتقدون في ذلك وأنهم ما زالوا يستعيذون من الجن والشياطين إن أراقوا مياهًا ساخنة على الأرض، وإن سقط طفل سارعت أمه أو واحدة من النساء بحمله قائلة (اسم الله على أختك قبلك) لاعتقادها بأن تلك السقطة قد أذت القرين الذي يسكن الأرض.
وما زالوا في الأرياف حين ينحرون في عيد الأضحى يغمسون كفوفهم في الدم ويلصقونها بالحائط ليطبع شكل الكف كاملًا إشارة ( لخمسة وخميسة) أحد أشهر التمائم ضد الحسد، ويفعلها سائق النقل حين يشتري سيارة جديدة فيطبع بالدماء الكف كاملًا على سيارته، أو يكتب آية (ومن شر حاسد إذا حسد) أو عبارة ( يقيني بالله يقيني)، (ما تبصليش بعين رضية شوف اللي ادفع فيا).
مثل تلك العبارات رصدها إدوارد لين، قبل قرنين، يكتبها أصحاب الحوانيت اتقاء شرور الحسد، فيعلقون ورقة قد كُتب فيها اسم الله أو الشهادتان أو البسملة أو يكتبون (يا فتاح يا عليم يا رزاق يا كريم) أو بعض الآيات القرآنية (إنا فتحنا لك فتحًا مبينًا)، (نصر من الله قريب وبشر المؤمنين)، كما أنهم يكتبون على أبواب الدور (الخلاق هو الباقي) بأحرف كبيرة كحرز وتذكرة لرب الدار بأنه بشر يتوفاه الله.
وللآن أيضًا ما زالت محال البقالة خاصة وبعض الورش الصغيرة تجد فيها تلك الآيات وهذه العبارات، غير أنني وجدت دكانًا صغيرًا في وسط البلد يعلق لافتة بعبارة جميلة (الرب يرزقني فلا يعوزني شيء) استوقفتني الجملة مثلما استوقفتني بضاعة الرجل ومحله الصغير جدًا الذي لا يُظهر حتى ماذا يبيع إلا إذا اقتربت منه أو أنك كنت تعرفه قبلًا وتقصده.
ذكر "لين" العديد من الخرافات التي يتعلق بها المصريون من أحجبة للوقاية من الشرور والحسد، وحرق العروسة التي يتم ثقب كل جزء فيها بإبرة مصحوبًا بنطق اسم من أسماء كل مَن يعرف المحسود والتي ما زالت حتى يومنا هذا، وتوقف عند زيارات الأضرحة وبعض مشايخ الطرق وما يفعله مريدوهم، وذكر أن المصريين قد خصصوا أيامًا بعينها لزيارة الأضرحة، فقال إن الرجال يزورون الحسين في يوم الثلاثاء والنساء يوم السبت بينما يزورون السيدة زينب يوم الأربعاء، والجمعة لزيارة الإمام الشافعي، وعرفت من بعض مريدات سيدة العلم السيدة نفيسة أن موعد زيارتها الاثنين.
كما ذكر "لين" أن السيد البدوي كانوا يحتفلون به ثلاث مرات في العام الواحد إكرامًا له، يحتفلون يوم العاشر من طوبة بالاحتفال الأول، والثاني في الاعتدال الربيعي والثالث بعد الانقلاب الصيفي بشهر تقريبًا في منتصف شهر أبيب، والمعروف حاليًا أن مولد السيد البدوي في شهر أكتوبر من كل عام!
ويرى لين، أن هناك عجيبة باقية من بقايا المصريين القدماء بقيت معهم فهم يعتقدون أن كل حي من أحياء القاهرة له حارس خاص من الجن على شكل أفعى.
بالفعل كان المصريون لوقت قريب يعتقدون أن لكل بيت أفعى حارسة وليس فقط كل حي، كما أن قدماء المصريين اعتبروها راعية وحامية حتى أنها كانت على تيجان ملوكهم.
 

الأحد، 2 يوليو 2017

النساء والولع بالتفاصيل أول مقالاتي الأسبوعية على البوابة

النساء والولع بالتفاصيل 
لم أفهم يوما أعمال النساء، كنت أراهن يبذلن جهدا غريبا، ينفقن نور أعينهن بطريقة تدفعني للتساؤل عن جدوى أعمالهن – أشغال الإبرة خاصة – تلك الأعمال التي تبدو جميلة، تلقى استحسانا مني قبل الأخرين، ورغم استنكاري كنت أراقب عن كثب وكيف لا وزعيمتهن أمي، وأكثر ما كان يستلفت نظري من مشغولاتهن اليدوية أعمال الكانافاه واللاسيه، تلك التي تحتاج مجهودا ودقة في العمل وعينا ثاقبة، خيوط الكانافاه كانت تستخدم في حشو فراغات خيوط اللاسيه الحريرية بعد أن يتم تتثبيتها على الأوراق بخيط عادي ثم تُحشى الفراغات برقة ودقة شديدتين، الرسوم موجودة لكن شغلها وتحويلها لعمل يدوي ليس سهلا وليست كل النساء بارعات في صنع مفارش اللاسيه ولوحات الكانافاه.
سنوات طويلة قبل أن أعرف أن هذه الأعمال هي النساء، بعد إنتهاء العمل تلمع عيونهن، تزهو نفوسهن، كتلك اللحظة التي أعثر فيها على جملة مميزة، أو حين يمسك عامل باكورة إنتاجه، صنع يديه، يملأهن الفخر وهن لا يعرفن أنهن بارعات لأنهن يعشقن التفاصيل. 
لن تروي يوما أمرا لامرأة إلا وقد اضطجعت وقالت لك : من البداية لو سمحت واحدة واحدة، لا تنسى شيئا.
كم مرة سمعت هذه الجملة من امرأة؟
المرأة تتصيد التفاصيل، المرأة تعرف مكمن الوجع ومكمنه دائما في التفاصيل، فما بالك لو كانت من تكتب الوجع امرأة، إنها تأخذك من يديك لمنطقة دموع بلا جهد كبير، تستخدم أصالتها في سرد الدقائق الصغيرة التي قد تمر على كثيرين دون أن يلقوا بالا بها، تدفعك بهوادة لتكون جزءا منها، فتتألم.
التاريخ موجود، صفحاته ملك للجميع لكن اعطه لامرأة تعشق التفاصيل، تعرف كيف تجمع الخيوط وتثبتها وتقوم بالحشو برقة ودقة وانظر ما سوف ترى. 
فعلت بي ذلك كاميلا شمسي الكاتبة الباكستانية وأنا أقرأ تحفتها الظلال المحترقة التي دارت أحداثها على مدى نصف قرن منذ سقوط القنبلة الذرية على هيروشيما ونجازاكي وحتى مطلع الألفية الثالثة، وكيف جعلتني هذه الكاتبة أرى جمالا فيما لا جمال فيه، كيف استدرت دمعي وهي تروي تاريخا إنسانيا بحتا، موجعا بحق.
وفعلته البيلاروسية سفيتلانا أليكسييفيتش في صلاة تشرنوبل وهي تغزل بدقة وتروي عما حدث عقب انفجار مفاعل تشرنوبل، سرد مليء بالتفاصيل، تلك التي تؤلم وتوخز الروح بحديث عن النباتات، عن الحيوانات، عن سلوك زوجة مع زوجها الذي تعرض للإشعاع، رد فعل طبيب، حركة جدة ارتبطت بالمكان ويجبرونها على الرحيل، حواديت نسجت بخيوط دقيقة حريرية ما إن تنتهي منها حتى تجد من بين دموعك جمالا لا يُضاهى. 
وفعلته أيضا المصرية رضوى عاشور في رائعتيها ثلاثية غرناطة التي تناولت تاريخ انهيار الأندلس، دفعتني رضوى لمناطق إحساس حقيقية لم يفعلها كاتب كتب عن نفس الفترة، لم يكن امرأة تعرف الدقائق وتنسج الكانافاه، وفعلته أيضا في الطنطورية التي تناولت الشتات الفلسطيني.
وها هي تمارسه بحرفية شديدة وبدقيق دقيق التفاصيل الكاتبة النيجرية تشيماماندا نجوزي أديتشي، تناولت في تحفتها نصف شمس صفراء الحرب في نيجيريا وانفصال بيافرا ومواجهة الإيبو للهاوسا وللمجازر التي تعرضوا لها، كانت تشيما تنسج خيوطها بدقة رهيبة وبتفاصيل دقيقة كما لو أنها تعمل على فسيفساء، كل التفاصيل الطعام، الملابس، الشوارع، البيوت، الحركة، الأفكار، المواجهات، القنابل، المخابئ، ممارسة الحب، الفشل، الرحيل، كل شيء بينما تفاجئك وسط كل هذا بجملة ( العالم كان صامتا حينما كنا نموت) تسجل دقائق الأمور لتعلن أن هناك كانت حياة وكان أناس يدافعون عن وجودهم، فتشعر معها بأنك تعدو للمخبأ، تنتظر القنبلة، تبكي لمصرع طفل، لبتر قدم، لرؤية رأس تبقى من جسد فتاة تحمله أمها وقد اختلطت ضفائر ابنتها بالدم كل ذلك بينما كان العالم صامتا يتلقى الأخبار وينتظر الموت.

http://www.albawabhnews.com/2592917

الثلاثاء، 28 مارس 2017

و.. هن

و.. هن
كان يوم جمعة.
 كنت وحدي؛ ساعات النهار الأولى، سويعاتي الأهم والأبقى، ممدة على سريري كالمعتاد، بين يدي كتاب، في خاطري فكرة، وإلى جواري فنجان قهوتي.
تباغتني أصواتهن كأنني أسمعهن للمرة الأولى، يتحلقن حول بائعتين محدثين جلبة، يفاصلن على السعر، البائعتان تشاركهن الثرثرة. 
كن بالأمس يسهرن سويا، يضحكن  ضحكات عالية – أزعجتني- تشق سكون الليل، كما لو أنهن يتبادلن قول نكات فاحشة، أطفالهن يلعبون ويتشاجرون، كلما علا صوت الضحكات كلما شعرت بأشواك في روحي، تؤلمني ضحكاتهن، تؤذيني زغاريدهن التي أحيانا تنطلق لأي سبب!
لا ينتهي ضجيج النسوة حتى بعد إنصراف البائعات، تضيع مني كلمات الكتاب وتتوه الأسطر، أكاد أطل عليهن من النافذة طالبة منهن الموت، كنت كنذير يحمل بين يديه سكين يقطع بها صفحات الحياة، أسير بالموت، ولا يسير ورائي داع أو مودع.
كانت أيام جمعة.
الشوارع خالية، فرضوا حظرا على التجوال لكني التقيته، لم يخبرني النهر أن على الحكاية ألا تبدأ، تركني نهري للبحر، بحر واحد ومدينتين، شاطئ وشاطئ، يد تتعلق بكم ردائي، تعلقت بقلبي، ضحكات صافية، بلا هم، بلا تمثيل النسوة الجالسات أسفل نافذتي، جدران القلعة بالمدينة القديمة ترسل لي نذيرا لم أفهمه، الكلمات التي نقشها أحدهم عليها كانت ناقوسا لم ألتفت لصوته، حدثت البحر ونسيت نهري، وقبل السَّحَر على الشاطئ الأخر بالمدينة الأخرى إنهارت كل مدن الملح السابقة، نسيت أن البحر غادر!
عرفت شفتانا طريقهما لبعضهما، في حضرة الفجر، والشمس تحارب الظلمة، كنت أحارب روحي لتستجيب، كلما هَمَّت بحل الظلام والتسلل، يحارب الليل بآخر خيوطه ليواريها، نسمات باردة تتسلل لجسدي ورغبة في الاستدفاء بحضنه يقف أمامها خجل لا يفارقني، ظل يحاول أن يفك طلاسم روحي ويقترب، أتهرب، لا ييأس، يقترب، مرة وأخرى فكان أول شعاع مع أول تذوق للحياة، طعم جديد، لأول مرة أعرف أن شفتي يمكنهما إجادة شيئا أخر غير ما اعتادتا، ذقت حلاوة يزيد شهدها بالتكرار، ظلت شفتي مخدرتين لساعات ثلاث بعدها، ورجفة تسري بين حين وأخر في جسدي كلما تذكرت تلك اللحظة التي امتزجت فيها روحي وروحه، وموج البحر يداعب رذاذه وجهينا.
كان يوم جمعة.
 كنت في شغل عن كل شيء، نسوة البيت بالمطبخ يعددن لوليمة كبيرة، تغرقن بين أواني الطهي وصنوف الطعام، بينما أبحث عن أغنيات مرحة، أغنيات لا تشبه أغنيات النسوة الضاحكات، لكنها على الأقل أغنيات مفرحة.
لم أشارك أحدًا في صنع أي شيء، وهم يفعلون لأجلي كل شيء، كنت قلقة، مشغولة بلا شيء، هو يقترب، يختلس قُبلة، أبتسم، أفرح، إنني قادرة على الفرح.
يدعوني لأن أكف عن قلقي، القلق جزء مني، يوم الجمعة يوم مثير لكل قلق الدنيا، لا أعرف لماذا اختاره ليكون يوم فرحنا، يربت على يدي، يختلس قبلة أخرى، أمي وأختي تعملان بسر البهجة فلا تعب، لا شكوى، أطفال أختي وأخي يمرحون، وحدي أتوجس خيفة، لم يكن للشك مكان في روحي، فقط أريد أن يكتمل اليوم.
خرجت من النافذة في تلك الجمعة والغضب يتطاير من عيني، هممت أن أخرس أصواتهن العالية، قبل أن أفتح فمي أطلقت عيني عليهن، توقفت الكلمات، هدأ الغضب، أنا أعرفهن جيدا، أنا أعرفهن منذ سنين، أعرفهن مذ كنت طفلة تداعبني إحداهن، أعرف حيواتهن جميعا!
تفرغ جلسة النسوة، تفرغ روحي من الأشواك، لا يكف الصغار عن لهوهم، لا شيء أفعل، أغلقت الكتاب، أمي تناوشني كالمعتاد، قبل سنين كانت تعد العدة لزيارة أمها يوم الجمعة، كنا نخرج بعد العصر في أبهى ثيابنا، تسير بنا في طريق يرعبني، كل مرة تصمم أن يكون طريقنا، لم يكن باستطاعتي عبور الكوبري وأسفله مياه ترعة لا ترد من يزورها، رغم أنها ردت أبي! لا جدة اليوم لزيارتها، لا أب، الفراغ يقتل كل لحظاتي.
كل الأغنيات التي بحثت عنها بينما نسوة البيت يعملن وبخلت بمساعدتي حين جاء موعدها لم أجدها! كان فرحا بلا موسيقى، كانت موسيقى الروح التي رقصنا عليها صاخبة، دافئة، حية، شاركني بعض ممن كن يجلسن تحت النافذة يتملقن شمس ديسمبر، رسمن ابتسامة رضا، كانت جمعة بلا حواجز، رأينني حين أحب فلم يعرفنني رغم أنني أعرفهن.
اليوم جمعة.
شجار، الحب يقف كراقص على الجمر، يلملم الروح، يرتق التصدع، لا شيء يجدي، كل الأسباب واهية، كل حروفه كيده التي تعلقت بكمي، تبدو زاهية، تبدو قوية، لكنها في الحقيقة باهتة، بلا روح، بلا شيء، كل الكلمات بلا جدوى، جمعة وراء جمعة، خلاف بعد خلاف، لا خلاص.
اليوم جمعة.
صدع كبير، يضحكن كعادتهن، يوم الفرح، شاركنني الابتسام، لا أملك مشاركتهن البكاء المر، أأحكي..؟ لا شيء يُحكى.
لحقت بهن، تاريخ واحد، ما كرهته حدث، صرت مثلهن، سطر أخر في التاريخ الطويل البائس، بقى أن أجلس وسطهن أسفل النافذة وأشاركهن، اكتفيت بأن أطل عليهن بلا غضب، بلا موت تلقيه كلماتي، مت مثلهن، أضحك ضحكة عالية، يلتفتن نحوي، يصمتن، أيفهمن؟!
اليوم جمعة.
أقترب من البحر، بلا شكوى، هادر موجه، بدا كأنه يفهم، لا يعتذر، في حماه ألقيت دروعي وسلمت، سمح لي أن أفعل، كان طيبا أكثر مما اعتدت، تركني، لم يعكس الصورة كنهري، لو اعتذر ما قبلت اعتذاره، الهاتف يرن، أحول عيني عن الموج لهاتفي، اسمه، صورته، صوته، بلا شيء، الطريق انقطع، مساحات الصفح تقلصت، أغلقت الهاتف.

ضحكة عالية.
النص منشور بعدد مارس 2017 من مجلة الثقافة الجديدة  

حواري لجريدة السياسة الكويتية

رباب كساب: حان وقت تجديد دماء الساحة الأدبية أجرت الحوار شروق مدحت  تمردت على الظروف المحيطة ،رافضة الاستسلام لعادات وت...