الثلاثاء، 28 مارس 2017

و.. هن

و.. هن
كان يوم جمعة.
 كنت وحدي؛ ساعات النهار الأولى، سويعاتي الأهم والأبقى، ممدة على سريري كالمعتاد، بين يدي كتاب، في خاطري فكرة، وإلى جواري فنجان قهوتي.
تباغتني أصواتهن كأنني أسمعهن للمرة الأولى، يتحلقن حول بائعتين محدثين جلبة، يفاصلن على السعر، البائعتان تشاركهن الثرثرة. 
كن بالأمس يسهرن سويا، يضحكن  ضحكات عالية – أزعجتني- تشق سكون الليل، كما لو أنهن يتبادلن قول نكات فاحشة، أطفالهن يلعبون ويتشاجرون، كلما علا صوت الضحكات كلما شعرت بأشواك في روحي، تؤلمني ضحكاتهن، تؤذيني زغاريدهن التي أحيانا تنطلق لأي سبب!
لا ينتهي ضجيج النسوة حتى بعد إنصراف البائعات، تضيع مني كلمات الكتاب وتتوه الأسطر، أكاد أطل عليهن من النافذة طالبة منهن الموت، كنت كنذير يحمل بين يديه سكين يقطع بها صفحات الحياة، أسير بالموت، ولا يسير ورائي داع أو مودع.
كانت أيام جمعة.
الشوارع خالية، فرضوا حظرا على التجوال لكني التقيته، لم يخبرني النهر أن على الحكاية ألا تبدأ، تركني نهري للبحر، بحر واحد ومدينتين، شاطئ وشاطئ، يد تتعلق بكم ردائي، تعلقت بقلبي، ضحكات صافية، بلا هم، بلا تمثيل النسوة الجالسات أسفل نافذتي، جدران القلعة بالمدينة القديمة ترسل لي نذيرا لم أفهمه، الكلمات التي نقشها أحدهم عليها كانت ناقوسا لم ألتفت لصوته، حدثت البحر ونسيت نهري، وقبل السَّحَر على الشاطئ الأخر بالمدينة الأخرى إنهارت كل مدن الملح السابقة، نسيت أن البحر غادر!
عرفت شفتانا طريقهما لبعضهما، في حضرة الفجر، والشمس تحارب الظلمة، كنت أحارب روحي لتستجيب، كلما هَمَّت بحل الظلام والتسلل، يحارب الليل بآخر خيوطه ليواريها، نسمات باردة تتسلل لجسدي ورغبة في الاستدفاء بحضنه يقف أمامها خجل لا يفارقني، ظل يحاول أن يفك طلاسم روحي ويقترب، أتهرب، لا ييأس، يقترب، مرة وأخرى فكان أول شعاع مع أول تذوق للحياة، طعم جديد، لأول مرة أعرف أن شفتي يمكنهما إجادة شيئا أخر غير ما اعتادتا، ذقت حلاوة يزيد شهدها بالتكرار، ظلت شفتي مخدرتين لساعات ثلاث بعدها، ورجفة تسري بين حين وأخر في جسدي كلما تذكرت تلك اللحظة التي امتزجت فيها روحي وروحه، وموج البحر يداعب رذاذه وجهينا.
كان يوم جمعة.
 كنت في شغل عن كل شيء، نسوة البيت بالمطبخ يعددن لوليمة كبيرة، تغرقن بين أواني الطهي وصنوف الطعام، بينما أبحث عن أغنيات مرحة، أغنيات لا تشبه أغنيات النسوة الضاحكات، لكنها على الأقل أغنيات مفرحة.
لم أشارك أحدًا في صنع أي شيء، وهم يفعلون لأجلي كل شيء، كنت قلقة، مشغولة بلا شيء، هو يقترب، يختلس قُبلة، أبتسم، أفرح، إنني قادرة على الفرح.
يدعوني لأن أكف عن قلقي، القلق جزء مني، يوم الجمعة يوم مثير لكل قلق الدنيا، لا أعرف لماذا اختاره ليكون يوم فرحنا، يربت على يدي، يختلس قبلة أخرى، أمي وأختي تعملان بسر البهجة فلا تعب، لا شكوى، أطفال أختي وأخي يمرحون، وحدي أتوجس خيفة، لم يكن للشك مكان في روحي، فقط أريد أن يكتمل اليوم.
خرجت من النافذة في تلك الجمعة والغضب يتطاير من عيني، هممت أن أخرس أصواتهن العالية، قبل أن أفتح فمي أطلقت عيني عليهن، توقفت الكلمات، هدأ الغضب، أنا أعرفهن جيدا، أنا أعرفهن منذ سنين، أعرفهن مذ كنت طفلة تداعبني إحداهن، أعرف حيواتهن جميعا!
تفرغ جلسة النسوة، تفرغ روحي من الأشواك، لا يكف الصغار عن لهوهم، لا شيء أفعل، أغلقت الكتاب، أمي تناوشني كالمعتاد، قبل سنين كانت تعد العدة لزيارة أمها يوم الجمعة، كنا نخرج بعد العصر في أبهى ثيابنا، تسير بنا في طريق يرعبني، كل مرة تصمم أن يكون طريقنا، لم يكن باستطاعتي عبور الكوبري وأسفله مياه ترعة لا ترد من يزورها، رغم أنها ردت أبي! لا جدة اليوم لزيارتها، لا أب، الفراغ يقتل كل لحظاتي.
كل الأغنيات التي بحثت عنها بينما نسوة البيت يعملن وبخلت بمساعدتي حين جاء موعدها لم أجدها! كان فرحا بلا موسيقى، كانت موسيقى الروح التي رقصنا عليها صاخبة، دافئة، حية، شاركني بعض ممن كن يجلسن تحت النافذة يتملقن شمس ديسمبر، رسمن ابتسامة رضا، كانت جمعة بلا حواجز، رأينني حين أحب فلم يعرفنني رغم أنني أعرفهن.
اليوم جمعة.
شجار، الحب يقف كراقص على الجمر، يلملم الروح، يرتق التصدع، لا شيء يجدي، كل الأسباب واهية، كل حروفه كيده التي تعلقت بكمي، تبدو زاهية، تبدو قوية، لكنها في الحقيقة باهتة، بلا روح، بلا شيء، كل الكلمات بلا جدوى، جمعة وراء جمعة، خلاف بعد خلاف، لا خلاص.
اليوم جمعة.
صدع كبير، يضحكن كعادتهن، يوم الفرح، شاركنني الابتسام، لا أملك مشاركتهن البكاء المر، أأحكي..؟ لا شيء يُحكى.
لحقت بهن، تاريخ واحد، ما كرهته حدث، صرت مثلهن، سطر أخر في التاريخ الطويل البائس، بقى أن أجلس وسطهن أسفل النافذة وأشاركهن، اكتفيت بأن أطل عليهن بلا غضب، بلا موت تلقيه كلماتي، مت مثلهن، أضحك ضحكة عالية، يلتفتن نحوي، يصمتن، أيفهمن؟!
اليوم جمعة.
أقترب من البحر، بلا شكوى، هادر موجه، بدا كأنه يفهم، لا يعتذر، في حماه ألقيت دروعي وسلمت، سمح لي أن أفعل، كان طيبا أكثر مما اعتدت، تركني، لم يعكس الصورة كنهري، لو اعتذر ما قبلت اعتذاره، الهاتف يرن، أحول عيني عن الموج لهاتفي، اسمه، صورته، صوته، بلا شيء، الطريق انقطع، مساحات الصفح تقلصت، أغلقت الهاتف.

ضحكة عالية.
النص منشور بعدد مارس 2017 من مجلة الثقافة الجديدة  

حواري لجريدة السياسة الكويتية

رباب كساب: حان وقت تجديد دماء الساحة الأدبية أجرت الحوار شروق مدحت  تمردت على الظروف المحيطة ،رافضة الاستسلام لعادات وت...