ذات مساء
تسللت رائحة القهوة إليّ فأرسل عبقها لعقلي إشارات نبهته ، كما نبهت حواسي لتلك المتعة المنتظرة حين تتلامس رشفات القهوة وفمي .
تلك المرة فشلت في الحصول على البُن الذي أحبه ، تكاسلت كالعادة فأحضروا لي ما وجدوه فما كان مني إلا أن نطقت بعبارات الشكر غير شاكرة .
وحدي في شرفتي ، وفنجان قهوتي ، وذلك الكتاب الذي انتقيته من بين عشرات ينتظرون دورهم في القراءة .
لم تتبدد حالة السأم ، ولم تنعشني قهوتي .
رنوت ببصري بعيدا حيث السماء الفسيحة ، لازال قرص الشمس يشغلها ، أحمره البرتقالي ينذر بأفوله ، لكني أتعلق بنورها .
يعشقون سكون الليل ، وأهوى صخب النهار .
استمرت مناجاتي للشمس حتى غربت في خلفية للوحة باهرة الحسن ، ناطقة أركانها بالجمال ، تصاحبها موسيقى تنطلق من كل شيء ، موسيقى الطبيعة الساحرة .
رنّ جرس الهاتف ، أيقظني لأُخرج كياني من تلك اللوحة التي كنت جزءاً رئيسيا منها .
استمعت لمحدثي ، كانت أختي ، اختارت هذا الوقت لتثرثر ، تركتها تثرثر وتباينت ردودي عليها بين آه ، أيوة ، فعلا ، كان لازم .........
دون أن أزيد ، أو أفتح أية موضوعات ، كانت بي رغبة للحاق بلوحتي ، واحتلال مكاني قبل أن يشغله غيري .
عقد النجوم التي أظهرها الظلام كان تاجا في مفرق شعري ، أغلقت الهاتف لأعدو نحو الشرفة استحضر ما فاتني ، وأتواصل من جديد .
تنادي عليّ واحدة من الجارات التفت إليها ، طلبت مني أن ألملم غسيلي حتى يتثنى لها نشر غسيلها ، تنشر أو لا تنشر ، ماذا يفعل إذن مجفف غسالتها ؟!!
قلت لها : حاضر .
عدت حيث تركتني .
نور المصباح المتراقص على صفحات الكتاب زادها صفرة وزادني ابتعادا ، لم يكن كشمسي يضيء نورها كل شيء حتى الصفحات المصفرة .
عادت الجارة تنادي ، في تلك المرة كانت تستأذني لتجلس معي قليلا .
أعلم أن جلساتها غير قصيرة ، فهي تطول ، وتطول ولا ينهيها إلا رؤيتها لزوجها من الشرفة عائدا ، أو حين تسمع دبيب خطواته على السلم .
مرات كنت أجلس معها وأدعو الله في سري أن يعود زوجها بين لحظة وأخرى ولكن دون فائدة ، من الواضح أنه يعلم مصيره فيبتعد قدر الإمكان .
هي سيدة طيبة لا أنكر ، لكنها خاوية جدا ، لا تجمعني بها أية هموم مشتركة .
تشكو دائما وحدتها ، وغياب زوجها ، وحرمانها من الأطفال ، وكان هذا سببا في أني لا أردها رغم ضيقي بحديثها .
لم يعد الزوج ، أوشك الليل الانتصاف ، ترجمت ضيقي لموجات تثاؤب متعاقبة ، لكنها لم تحس ولم تشعر بالوقت الذي كنت أحصيه بالثانية ، متسمعة فيه دبيب أية خطوات علها تكون خطواته فتهب واقفة وهي تقول : لازم أمشي محمد جه .
الكتاب إلى جواري لم تتحرك صفحته العاشرة .
في الثانية عشرة ودقيقة واحدة قدم محمد لينقذني ، أغلقت الباب خلفها ، ودخلت إلى الحمام مسرعة .
نزعت عني ملابسي ، تركت الماء يعبث بجسدي ،يفك أسره ،ينعش خلاياه المتيبسة .
شعرت بانتعاش غريب ،ورغبة بالطعام ،رغم أن موعد عشائي قد مر عليه ساعات .
تركت شعري المبلل على ظهري دون تمشيط أو تجفيف ، أعددت كوب شاي وجلست إلى كتابي ، صفحة الكتاب العاشرة انتقلت للخمسين .
جاءني صوته من ماضٍ بعيد يسألني عني ، لم أنسه يوما ، ولم يمض يوم إلا وكان معي .
امتزج وبطل الكتاب الذي كان يردد لمحبوبته كثير من كلامه .
كان بطل حياتي و كل رواياتي ، حين مضى توقف القلم ، استقال فلا حياة له بدونه .
قدم لي استقالته على كفن أبيض وفستان أسود لا أذكر كيف خلعته ؟
الكل من حولي أجبروني على أن التفت لحياتي .
- لن يعيده الأسود .
كنت أعلم ، وحين خلعته لم أكن أدري أن قلبي هو من يتشح بالسواد ، هو من كان يلبسه ، لازلت لا أرى غيره .
انسالت على صفحة الكتاب الخمسين دمعة حارة .
شعرت به يمسحها مقبلا وجنتي ويدي ، مددت يدي عن آخرهما لاحتضنه ، سقط الكتاب واحتضنت الفراغ .
10/7/2008