د. محمد السيد إسماعيل يكتب:سرد الحالات " البينية " فى " بيضاء عاجية وسوداء أبنوسية " لـ رباب كساب
" بيضاء عاجية وسوداء أبنوسية " هو عنوان المجموعة القصصية الأولى للكاتبة رباب كساب التى صدرت عن مؤسسة بتانة للنشر والتوزيع،بعد أربع روايات سابقة هى : " قفص اسمه أنا " و" مسرودة " و" الفصول الثلاثة " و" فستان فرح " وهى رحلة مغايرة لما اعتدنا عليه كثيرا من البدء بالكتابة القصصية ثم الروائية .
ولاشك أن هذه الرحلة المغايرة توحى بأننا أمام كاتبة ترى الذات فى سياقها الاجتماعى والسياسى أو مايمكن أن نسميه " موضعة " الذات بوصف الرواية فنا موضوعيا فى الأساس ،بالإضافة إلى قدرتها على مقاربة ذوات الآخرين ،وهو مانراه باديا فى هذه المجموعة بعنوانها اللافت الذى لانعرف على وجه اليقين هل هو وصف لفتاتين أم وصف لأشياء مادية كأصابع البيانو مثلا ،هذا التأرجح فى الدلالة يعد حالة بينية أولى ستظل سارية على مدار هذه المجموعة ،وليس غريبا فى هذه الحالة أن تهدى الكاتبة مجموعتها إلى " البين بين " متسائلة " ترى هل نفلح " إذا ظلت الأمور على هذا النحو متأرجحة بين الحياة والموت والماضى والحاضر والحب والحرية والحقيقة والوهم والواقع والحلم .نحن - إذن – أمام ذات متمردة تسعى إلى التفرد والابتعاد عن السائد المعتاد ،وراصدة لأنماط المفارقات الحادة بين الثنائيات المشار إليها ،ومن أجل " موضعة " الذات بعنى تحويلها إلى موضوع، تستخدم الساردة غالبا ضمير الغائب مزاوجة بينه وبين ضمير المتكلم ،مما يعنى أن الذات هنا منقسمة على نفسها بحيث تتحول إلى ذات ناظرة وذات منظورة، ولنتأمل بداية القصة الأولى " لحظة " : " فى طريق عودتها استقلت " مشروع " ميكروباص كما يسميه أهل الإسكندرية ولاأعرف سببا للتسمية لم أسأل " ( " بيضاء عاجية وسوداء أبنوسية " رباب كساب ص11مؤسسة بتانة 2017) حركة الضمائر فى هذين السطرين تشير – ظاهريا – إلى وجود شخصيتين الأولى مقدمة بضمير الغائب والثانية بضمير المتكلم ،لكننا فى الحقيقة أمام شخصية واحدة تتأمل نفسها وترصد حركتها ،وكأننا أمام حالة بينية أو حالة " تداخل " بين الذات والموضوع ،ومن خلال هذا التداخل نتابع حركة الدوال اللغوية التى تقف على مشارف الرمز : النفق – الطريق – السيارات المندفعة، حيث يأخذ النفق دلالة التخفى أو التحايل بغرض العبور الآمن ،وهو ماتعزف عنه شخصية القصة مؤثرة التمرد المعلن على التحايل والتخفى ،وفى هذه الحالة تصبح حركة السيارات مماثلة لحركة الواقع المخيف الذى قد يحول اندفاعة المغامرة إلى أشلاء ،أو هكذا تتوهم الساردة حيث تختلط الحقيقة والوهم فى اضطراب وعيها ورعبها الداخلى " أغمضت عينيها قبل أن ترى أشلاءه اهتز جسدها وهى تحس ملمس الدم المتناثر عليها " لكنها تكتشف أن لاشىء حدث من كل ذلك وأنه لم يمت وهى أيضا لن تموت مما يؤكد أن الحياة – حقا – فى فعل المغامرة ،وأن السكون والاستسلام هو الموت فى حقيقة الأمر ،ويصبح هذا " المغامر " ملاذها وسط الخطر ويصبح " رسغها " فى يده بعد أن " عانى فى إمساك كفها الذى كان يمطر عرقا " وتتلون نظرتها إلى ذلك البحر الذى تقصده منذ البداية والذى أصبح ملاذا آخر لها فنراه " هائجا " وهو ما يتجاوب مع دلالة التمرد والمغامرة المشار إليهما .
وفى قصة " اللعبة " نجد حركة بندولية بين الحاضر والماضى حين تستعيد الساردة صوت أمها من الماضى بعاميته الحيوية أو حوارهما معا " – هى ليه ياماما النخلة دى مش بتجيب بلح ؟ / - دى نخلة دكر ياحبيبتى / - يعنى ايه نخلة دكر ؟ "وسوف نلاحظ أن أسئلة الساردة تناسب وعى الطفولة وفضولها ورغبتها فى المعرفة .
ومن البديهى أن نقول إن استعادة الماضى ليس مطلوبا لذاته، بل لتسليط الضوء على الحاضر وتفسير أحداثه، فالساردة – بعد إحباطات متتالية – تحاول اعتزال العالم والاكتفاء بنفسها وقتل ذلك الرجل الذى كان زوجا حتى " يكفوا عن استنساخه " حيث تراه فى كل الوجوه ،لكن القصة تنتهى نهاية مفاجئة تضرب أفق التوقع حيث لم يتمكن ذلك الرجل " من قول شىء وقد عقدت الدهشة لسانه وهى تصوب مسدسها فى وجهه .أطلقت النار . فى المساء كانت تهدهد غضبه لأنها غلبته فى لعبة السيجا " اللعبة التى كانت تلعبها مع زميلاتها فى الطفولة ومع نفسها بعد ذلك الانفصال .فهل يمكن القول إن " اللعبة " – هنا – هى لعبة الحياة كلها التى لاتكتمل إلا بوجود الرجل والمرأة ؟
النهاية غير التقليدية توحى بهذا المعنى وهو مايتأكد مع قصة " ذات مساء " التى تعبر عن سأم تلك المرأة الوحيدة بعد موت زوجها واستعادتها للتفاصيل الصغيرة التى كان يحبها، وبغيابه توقف القلم عن الإبداع الذى يوازى تخلق الحياة وتجددها ،وفى هذه الحالة من السأم والفراغ تستعيض الذات بالخيال بديلا عن الحقيقة كما يبدو من قولها " شعرت به يمسحها – تقصد الدمعة التى انسابت منها – مقبلا وجنتى ويدى ومددت يدى عن آخرهما لأحتضنه ، سقط الكتاب واحتضنت الفراغ " .
تطرح قصة " اللوحة " مفارقة الحرب التى دفع ثمنها المحاربون – الفقراء غالبا- والسلام الذى جنى ثماره الأغنياء من خلال قصة محارب فقد قدميه وأصبح كرسيه المتحرك بمثابة طائرة تسافر به كل بقاع الدنيا فى حين تحول الرمل المنهوب – بعد معاهدة السلام – إلى " فنادق ومنتجعات " وفى قصة " بلا ملامح " تبدو الروح الكافكاوية فى تلك الشخصية التى فقدت ذاكرتها حتى أصبحت تشعر أنها بلا تاريخ ولعل صورتها التى لاتظهر تفاصيلها وهى واقفة بعباءتها السوداء ونقابها الأسود تكون مدخلا لتأويل تلك القطيعة مع الماضى ونسيانه .
ويتفاقم شعور الاغتراب عن الذات من خلال سؤالها المستريب " من قال إن هذه المرأة التى فى الصورة هى أنا ؟" لقد تم بالفعل مسخ الذات حتى لم تعد إلى حقيقتها مرة أخرى .
ومن هذا الماضى المفتقد الغائب عن الوعى تنتقل رباب كساب فى " المتبصرة " إلى استشراف المستقبل من خلال تلك العرافة التى لازمتها فى الصحراء البعيدة والتى لخصت لها حياتها فى هذه العبارة الرمزية " صبارك أقوى من صفصافتك " وهى عبارة لانستطيع تأويلها إلا إذا جعلنا الصبار رمزا للصحراء بوصفه نباتا صحراويا والصفصاف رمزا لتلك الحقول الخضراء التى تذكرتها الساردة وهى محاطة بصحرائها الشاسعة ويصبح تأويل العبارة أن صحراء هذه الساردة – أو حياتها القاحلة – أقوى من حياتها الخضراء .وقد تكون الصحراء – بما أنها رمز – مدينة مادية قاسية : " تلقفتنى زحمة المدينة وصفحة النهر الرائقة لم تعكس صورتى هذه المرة " .
مقاومة العجز هى التيمة المهيمنة على قصة " بيضاء عاجية وسوداء أبنوسية " فنحن أمام فتاة تحاول العزف لكن كفها " ليست رحبة ، الأصابع تبدو ملتحمة " لاتعرف كيف تحرك أصابع البيانو ولاتستطيع قراءة " النوتة " لكن لاشىء قادر على منعها من العزف ، من الإبداع العفوى الخارج عن سيمترية النوتة وقيود النظام فضعطت على أصابع البيانو بقوة و" صدحت الأوتار بنغم قوى غير متناسق " إنها لاتترجم شيئا سوى صخبها الداخلى بعد أن تحررت تماما واختفى من وجدانها ذلك الآخر القامع ولم تعد تسمع " سوى تلك النغمة التى تنبعث من هناك من تلك الأصابع البيضاء والسوداء " إنها نغمتها الخاصة التى عثرت عليها أخيرا والبحث عن النغمة الخاصة شبيه بالبحث عن الحبيب الذى تكتمل به الذات وهذا ماتحكيه قصة " عانس " التى فضلت انتظار من لايأتى الذى ظلت تنتظره طويلا فى الموقف كما اتفقا وطالت وقفتها بلاطائل " ومن خلفها يتهامس سائقو الموقف عن تلك التى تأتى كل يوم لتنتظر مجهولا لايأتى " فى قصة " اكتفيت " تظهر إرهاصات ثورة يناير من خلال ذلك الشاب الذى كان يدفع الأمل فى صدور أصدقائه وصديقاته مرددا لازمته الشهيرة " كله إلا الكرامة " وبضياع الكرامة تنتهى حياته بالانتحار .
تتحرك كاتبتنا من الخاص إلى العام دون فصل بينهما فإذا كانت جموع الثائرين فى قصة " اكتفيت " قد ثارت على ماضى القمع الذى عايشته عقودا فإن شخصية " انفصال " تثور على ماضيها مع زوجها فتتغير رؤيتها لذاتها وللعالم فترى الشارع الضيق فسيحا ،ولأنها لاتمطر فى يونيو فقد سكبت زجاجة ماء فوق رأسها ،ثم تقف تحت مياه نافورة فتجردها المياه من ملابسها .
نحن فى الحقيقة أمام أفعال تحرر فالماء عنصر مطهر للذات ومخلص لما علق بها من العالم ،والتعرى أو مايشبهه هو مستوى آخر من مستويات هذا التحرر وانكشاف الذات فى مواجهة العالم ،ولاشك أن هذه القصة تصنع مفارقة مع قصة " الزهرات الأربع " التى تعكس ذواتا نسائية محبطة يلف الغموض حياتها : جدة السارد التى تبكى ماضيها وحاضرها ومستقبلها ،وأمه التى هجرته وتزوجت بغريب سافر هو الآخر بلاعودة ،وعمته التى تخفى أسرارها داخل غرفة لاتسمح لأحد بدخولها ،وعندما يغامر السارد وصاحبه باقتحام هذه الغرفة يفاجأ بأربع صور معلقة على الحائط لنكتشف – معه – أن هذه الزهرات هى أبناء هذه العمة المنكوبة .
هناك دوال كثيرة التردد فى هذه المجموعة سوف نلاحظها فى بقية القصص مثل : البحر ، الموج ، الصور المعلقة ، النغمة ، راحة الكف ، الأصابع ، الثورة ، النهاسات غير المتوقعة وآلية التحولات ففى قصة " انتظار " نجد امرأة تتحدث عن ماضيها الذى كانت فيه فراشة ثم شجرة وكذلك توظيف التعبيرات الكنائية من قبيل " تسلقت شفتاه تلك الربوة الشامخة بعزتها " وبروز الهم الاجتماعى فى " نصف طولى " و" وأد" و" واحد شاى على بوسطة " التى أراها صالحة لأن تكون نوفيلا من خلال تداخل الأحداث التى تستعرضها .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق