الجمعة، 26 أكتوبر 2018

شرفتي كتابي الأول.... المقال المنشور بعدد أغسطس من مجلة عالم الكتاب




كنت أستقبل يومي مع دقات الثالثة صباحا، الكل نيام، فرصتي لأكون وحدي، لأمارس طقوسي التي أحب، هناك في الركن القصي من الشرفة التي تم تقفيلها لتكون جزءا من صالة الشقة الصغيرة، تلك الصالة التي قسمت بعد سنوات لنقطتع حجرة صغيرة للأخ الوحيد، أقيم جدارا خشبيا، علق عليه أخي في الجزء الخاص به من الداخل صور لاعبي كرة القدم، وكاظم الساهر مطربه المفضل حينها.
الحجرة الصغيرة كانت باردة جدا أعادت أخي لحجرتنا مرة أخرى، لكنها بقيت ملاذي ليلا، أدخلها برغبة هائلة في الاستمتاع بكل دقيقة، فأمد يدي لأفتح النافذة الصغيرة ليدخل هواء شتويا باردا، لكنه يجدد كل شيء وينعش خلايا جسدي المرهق بعد يوم دراسي طويل ونوم لم تكف فيه رأسي عن التفكير، ألقي نظرة على السماء من البراح الصغير الذي تتيحه النافذة، ثم أتجه للراديو ألف محطاته واحدة واحدة أبحث عن أغنية للست أو لحليم وتكون فرحتي كبيرة حين أجد وردة هي من تشغل تلك المساحة الليلية الخاصة فتدغدغ روحي بالفرحة التي تتأرجح في صوتها، الليل هادئا أكثر من اللازم في مدينتنا الصغيرة، لا أصوات سوى نباح الكلاب ومواء القطط، نقيق الضفادع رغم بعد مكانها عن مكان سكني إلا أنني كنت أسمعها، وفي الصيف كان يضاف صوت صرصور الحقل بصفيره المميز المزعج، سيمفونية معتادة أقطعها بالبحث في الإذاعة عن أصوات تؤنس وحدة الليل وتقطع عليِّ سماعي لأصوات أخرى داخل البيت، إنَّ كل قطعة في الشقة الصغيرة تستغل الليل مثلي وتنطلق بحثا عن روحها، فتكات الساعة تصبح أكثر ضجيجا لكنه ضجيج غريب عن تكاتها نهارا، إنه قوي، مخيف، جاد نعم جاد في دقاته وحدته يكاد يصفعك ليعلن أن بطء الوقت ورتابة الأيام التي أعيشها في تلك البلدة وَهم عليِّ ألا أصدقه، الحياة أسرع مما يجب لابد من عمل شيء لتجنب كل هذا الوقت الضائع في هذا المكان! الثلاجة أيضا يعلن موتورها عن وجودها بشكل غريب كأنها ليست تلك التي تعمل نهارا، خشب الأثاث يئن كما لو كان مريضا أو متذمرا مما نفعله به، كل قطعة صوتها ينفذ إلِّي يبعث بداخلي رعبا، نسيته الآن، فالآن الوحدة لها صوت أخر، صوت أقوى من قطع أثاثي القليلة التي احترفت مثلي الصمت ولم تعد في حاجة للحديث.
تأخذني حلقة إذاعية ممثلة عن قصة أجنبية، أمضي معها دقائق، وأنا أقوم برسم كراسات العملي الخاصة بي، أو تغني أم كلثوم فأنسى ما وددت تسجيله في أوراقي، هذا الركن الصغير من الشرفة التي كانت هو مهد أول الحروف، منذ بدأت الحكاية مع مطلع سنوات مراهقتي، حين كففت عن التعلق بأشجار الصفصاف، وسرقة أعواد الملوخية من الحقول المجاورة، أو نط الحبل، ولعب السمكة والصياد والسبع طوبات، كففت بإرادتي وليس لمجرد تقليد من سبقنني سنا واللاتي انتقلن من خانة اللعب لخانة التمشية والجلوس متجاورات يلصقن رؤوسهن ويقلن أسرارا لا يجب علينا نحن الأصغر سنا معرفتها، لم أرد تقليدهن بقدر ما أردت أن أفسر حالات الشرود التي تصيبني، أو الغرق في تلك الحكايات التي كانت تصاحبني ليل نهار، فاخترت ركن الشرفة أسفل الصبارة العتيقة التي كانت تعلقها أمي في مكرمية من صنع يدها.
أجلس هناك ونظارتي ذات الإطار المعدني والعدسات الزجاجية الثقيلة رفيقتي، النظارة التي أرخت لوجودها بمكان ظلتا علامتيه على أنفي لسنوات، وأعطتني لقب أبلة الناظرة.
هناك في ذلك الركن الذي اتخذت منه صاحبا أراقب كل شيء كان البراح أمامنا يعبث بمخيلتي ويهيئ الحكايات، يعمق حواديت النساء عن القطط والجنيات، لكن هذا البراح بات يتقلص عاما بعد أخر كلما علت حوائط الإسمنت وانمحى شيئا فشيئا البساط الأخضر الممتد حتى بات الحيز أمامي كأنه حجرة بلا منافذ.
الشرفة الصغيرة كانت كتابي الأول الذي ما اعتقدت يوما في قوة ما يعطيه من معرفة إلا بعد مرور سنوات طويلة.
هناك كانت الحكايات تأتيني وحدها، وهناك كنت أتذمر وأنا أقلب الكتب القليلة التي كان يملكها أبي وأمي، وأجهزت عليها بعضها أحببته والبعض أخذت منه موقفا ولم أعد إليه، إلا كتابا وحيدا وكنت حينها دون الرابعة عشر، كتابا مختلفا لكنني أحببته، بلا غلاف مثير كأغلفة أجاثا كريستي، ولا يشبه سلاسل روايات مصرية للجيب وبطلها المحبب الذي يجيد استخدام كافة أنواع الأسلحة ويجيد التنكر ويتكلم عدة لغات وله فودين أشيبين ولا يكبر فهو في الخامسة والثلاثين دائما، كان كتابا بلا غلاف وبلا اسم مؤلف، أوراقه خشنة يتدرج لونها بين البيج والأبيض، لكن اسم الرواية هو أول ما يطالعك (الصياد الناشئ كيت كارسون) رواية أدخلتني عالما جديدا، يشبه عوالم الأفلام الأجنبية التي كنت أعشقها، لم أعد أذكر أحداث الرواية لكنها كانت الأولى التي أعطتني شيئا مغايرا وكانت سببا للبحث عن قراءة مختلفة بعيدة عن المغامرات المخابراتية وحواديت مجلات الأطفال، ومحتويات المجلات النسائية، لكن هيهات في تلك المدينة أن تعثر على أي شيء، بعد سنوات طويلة وبعد دخول الانترنت إلى مصر تذكرت تلك الرواية وفكرت أن أبحث عن اسم مؤلفها فلقد كانت سببا في تمردي على ما أقرأ، وها هو جوجل العليم بكل شيء لم يخذلني وأرسل لي مفاجأة فكاتب الرواية امرأة ( أوجستا ستيفنسن)، امرأة بعيدة صنعت بي ما لا تعرف، وأدخلتني التوهة بروايتها، وفتحت بئر فضولي وتركته للهواء، وللتمرد الذي كانت تثيره المدينة القاحلة ذات الأيام الرتيبة بداخلي.
فبت أقلب من جديد في الموجود، فتقع يدي على مذكرات صحفي في لندن، رواية الحرام، وأسمع من أبي الذي لمس اهتمامي بالكتب عن كتبه التي سُرقت منه في فترة خدمته بالجيش، المكتبة الصغيرة التي صنعتها أمي من ألواح أخشاب قديمة كانت تضم بعض كتب لا أعرف لم اقتنياها، بدت كواجهة ليس إلا في أنهما يمتلكا كتبا في السيرة النبوية؛ مصدر تفاخر لا أفهم سببه، كانت لغتها كفيلة بأن أكره العربية ومن يكتبون بها، لم ترق لي، ولازالت الكتابات الدينية بيني وبينها حائل غريب، اخترت بعضا من كتب السيرة النبوية اختار كاتبه أسلوب الرواية، الحدوتة، وقرأت وقرأت ثم ازدادت شراهتي، لا شيء في تلك المدينة القاحلة، لا أحدا في الجوار، لا رغبة بداخلي لهدم سور الأب الخائف دائما، وإن كانت الثورة بداخلي تنمو شيئا فشيئا لكنني أقمعها بالحب، لم أكن أقدر على غضبه، أحبه وأقمعها، فبدأت مراحل الانسحاب من الحياة، حياتهم، الغرق في وحدة وصمت لا ينتهي، وحين ودعت العشرين سنة الأولى من عمري اكتشفوا أنهم لا يعرفونني!
وانتقلنا من الشقة الصغيرة لواحدة أوسع انتقيت فيها الحجرة الأكبر ذات الشرفة الكبيرة وأعددت مجلسا أخر، وكانت كتابا جديدا تماما، يكشف الكثير من خبايا المدينة ويسمح للفجر أن يعانقني بقوة أكثر مما اعتاد، وأخذت المكتبة لحجرتي، كنت أتأمل كتبي التي تزداد يوما بعد أخر، كتبا انتقيتها لنفسي وبنفسي كنت أرتبها بشغف وحب وأزيل التراب من عليها بينما أمي كلما رأتني أفعل تتعجب من حسن ترتيبي وتصنيفي للكتب بينما دولاب ملابسي يحتاج فرقة لترتيبه ولكنه لا يشغلني وحين ترتبه أغضب فمع هذا النظام لا أجد مقتنياتي، أوراقي على منضدتي مبعثرة دائما، ولا يستطيع أحد أن يقترب منها أو يرتبها بينما رواياتي في ملفات في أدراجي، لا ورقة أفرط فيها حتى ولو كتبت فيها ملاحظات أو رسمت خطوطا لا تعني شيئا.
وهناك في ركن الشرفة كنت أملأ كراساتي بالحكايات، أكتب وأكتب، وفي الأيام التي أختلي فيها بالبيت، كنت أعد فنجان القهوة أو الشاي الذي أخرج فنجانه سرقة من وراء أمي بالطبع، وأعد إفطارا أهم ما فيه البيض المسلوق نصف سلق، آكل بنهم بينما قلمي الأزرق ذو السن الرفيع يناوش أبطالي ويبدأ في السرد، لا أعرف كيف يمر الوقت، كل ما أعرف أن تلك الكراسات الضخمة كانت تمتلئ، أعيد الكتابة وأعيد، وبعد الانتهاء أنقلها في أخرى بلا شطب ولا ملاحظات، أذكر أنني كتبت رواية مسرودة بخط يدي ثلاث مرات ومرة رابعة على الكمبيوتر، الذي أنهى على الأوراق والقلم الأزرق ذو السن الرفيع، بت أكتب عليه مباشرة، أحببته، فأنا أستطيع التعديل كيفما شئت دون أن تضطر عيني للاصطدام بالكلمات والأسطر المشطوبة والتي كان يسيئني مشهدها ويعكر علي لحظة صفائي.
لم تعد لي طقوس فلقد عزت الكتابة كثيرا، لكنني لازلت كلما أردت أن أكتب آخذ روحي بعيدا وأختلي بها حتى بعدما اعتدت على مصاحبة اللاب توب والجلوس في مقهى أو أي مكان لأكتب بعيدا عن البيت، السنوات الأربع الأخيرة غيرت فيّ الكثير، وغيرت طقوسي وعاداتي التي عشت طويلا أمارسها بلا تغيير، حتى مواعيد وجباتي غيرتها، كل شيء بات جديدا هنا في القاهرة إلا تلك الوحدة الروحية والانفصال الذي أعيشه لحظة ميلاد حكاية، لم يعد الكتاب والشرفة منبتا المعرفة وحدهما، باتت الشوارع والمواصلات العامة وطريق العمل، البيوت القديمة، الأثار، المتاحف، أرصفة السينمات وقاعاتها، المقاهي، المساجد، الكنائس، بيوت الأولياء، من مدينة شبه ميتة لمدينة لا تنام، مزدحمة، ملوثة لكنها حية، تستطيع أن تمنح وتمنع، ولعشاقها تعطي ببذخ... وأنا من العشاق!

ليست هناك تعليقات:

حواري لجريدة السياسة الكويتية

رباب كساب: حان وقت تجديد دماء الساحة الأدبية أجرت الحوار شروق مدحت  تمردت على الظروف المحيطة ،رافضة الاستسلام لعادات وت...