الاثنين، 13 نوفمبر 2017

البطل الذي لم أكتبه رواية


البطل الذي لم أكتبه رواية
الأربعاء .. سوق المدينة، النسوة يتجهن إلى تلك الشوارع الضيقة الممتلئة بالباعة الذين يأتون إليها مرة كل أسبوع، أول مرة اصطحبتني أمي للسوق كان بعد إلحاح كبير، صديقاتي الصغيرات كن دائما مع أمهاتهن، يعتبرنها نزهة، يفرحن بكثير من الأشياء التي يحصلن عليها ويروين لي ما شاهدنه في السوق، وكيف أقنعت كل واحدة أمها بأن تشتري لها بعض الحلوى أو كوب عصير، يحكين الكثير ويتركنني أعيش على أمل أن يأتي أربعاء وتأخذني أمي للسوق، لكن أمي لا تذهب مثلهن كل أربعاء فهي امرأة عاملة ليست كأمهاتهن، وحين يأتي موعد خروجها من العمل يكون السوق قد انفض وذهب الباعة بعد أن باعوا بضاعتهم.
حتى جاء أربعاء صيفي فقررت أن تستجيب لإلحاحي وتأخذني معها، تغلبت الدهشة على ملامح الخوف من الزحام، من النسوة الكثيرات والرجال، من الباعة الخشنة ملامحهم والبشوشة، من الضيقة صدورهم وأصحاب اللسان المعسول، من تلك النداءات المميزة على كل صنف ولون.
أمي تنتقي متطلباتها من الخضر والفاكهة بينما أنا لا أحمل سوى عينين متطلعتين من خلف النظارة الثقيلة معدنية الإطار إلى الناس - شغلي الشاغل حتى الآن – تصر على أن أكون خلفها تماما، وبينما أسير خلفها ألمح وجوها أعرفها، أشير لبعض صديقاتي اللاتي يصاحبن أمهاتهن لأقول لهن ها أنا قد جئت مثلكن إلى السوق.
تتوقف أمي لتسلم على واحدة من معارفها بمودة، وتلتقي بأخرى قد فرقت الأيام بينهما فتقابلها بشوق كبير، يجاورنا رجل فيبتسم لها ملقيا السلام ومرسلا سلاما أخر لأبي ثم يمضي مسرعا مخترقا الزحام الشديد، بينما أنا أراقب تلك الموازين التي لا تكف كفوفها عن الهبوط والصعود، نفس كفتي الميزان اللتان يلاحقنني فأسعى جاهدة لاتزانهما، لاتزان الكون من حولي، إلا أنه لا يتزن أبدا!
أقف مسمرة أمام بائعة السردين المملح، تحاول أمي التحرك وتدفعني للحركة لكن بلا فائدة لقد جئت خصيصا لأجله، تشتري لي منه، لكني لا أتحرك، إنني أريد ذلك الصغير أصفر اللون، فتبتاع لي قرطاسا صغيرا أفرح به كأنني نلت أكبر قطعة شيكولاتة! ممنية نفسي بإفطار عظيم بهذا السردين الصغير والخبز البلدي الطازج الذي نشتريه في طريق العودة.
كان السوق مبهجا بالنسبة لي حينها.
تغير سوق الأربعاء ليصير يوم الجمعة، وانتقل مكانه، ثم أصبح سوقا دائمة يومية، إلا أن السكان البعيدين عنه لا غنى لهم عن الباعة المتناثرين في أرجاء المدينة.
سنوات لم أعرف شيئا عن السوق، بعيدة تماما عن كل مظاهر الزحام ولقاءات النساء، أبي وأمي وأخي كانوا يقومون بشراء كل ما يحتاجه البيت، بينما أغرق في عالم بعيد خال من كل هذا حتى ظن الكل أنني لا أعرف كيف أشتري كيلو طماطم! وكان الأمر محل نقاشات كبيرة، وغمز ولمز دائم!
بعد كل هذه السنوات التي ليست بالقليلة بدأت مرحلة جديدة ورحلة إلى السوق شبه دائمة، بالتحديد بعد وفاة أبي وعمل أخي وخروج أمي للمعاش، بدأت الرواية التي عشت عمري وأنا على هامشها تماما، بقى أن أقوم بدور المشتري الشاطر الذي يعرف كيف يبتاع كيلو الطماطم، كيف ينتقى احتياجاته دون أن يصبح فريسة لبائع انتهازي، هذا الوضع الذي يحمل شبهة إجبار أشعرني بمزيد من الانفصال، وبعض كراهية، فأنا أذهب لأنني أحتاج؛ لم أعد أذهب من أجل البهجة والسردين المملح.
حاولت أمي أن تركن بالمهمة لواحدة تشتري لنا احتياجاتنا فما كان مني إلا الاعتراض، الاحتجاج والثورة التي اعتبرتها هي غير مبررة فهي تبحث عن راحتي أنا المتذمرة الدائمة، بينما كان تبريري أن لا أحد يعرف احتياجتنا سوانا، لا أحد ينتقي لنا.
كان عليِّ أن أفهم قبلا ماذا يعني أن يفرد البائع طاولتين أو أكثر لنفس الصنف لكنهم ليسوا واحدا، فأنا أفضل ما في واحدة من الطاولات الثلاث بينما جارتي تفضل الثانية وزميلتي تنتقي من الثالثة! وتطلّب هذا بعض رحلات بلا شراء لأعرف أن ألف باء ( اختيار، انتقاء، ذائقة، حب) تتعلمها في السوق.
كل من كان يظن بي فتاة مرفهة تغيرت فكرته وهو يرى ما أحمل من أكياس في طريق عودتي من السوق، زميلاتي اللاتي اعتقدن لسنوات أنني لا أصلح لما تصلح له النساء رأين بعيونهن أنني أستطيع انتقاء الأجود بل وإن ما أختاره وأطلب من البائع أن يزنه يكون مضبوطا ميزانه، فتقول إحداهن ضاحكة : إيدك ميزان فأبتسم بثقة وأقول : وبرجي ميزان.
شيء وحيد لم أتعلمه من النسوة رفقة السوق .. الفصال، لا أعرف كيف أدخل في مناهدة على سعر، أجدها كبيرة أن أفعلها، لازالت بي بعض رفاهية لم أتخلص منها.
ثم ذهب سوق المدينة مع انتقالي للعيش في العاصمة، وفيها صار السوق إجباريا، لكنني أحدد متى أنزل إليه، تتحكم بي حالتي النفسية وليس احتياجي، فأنا أستطيع الاستغناء، أستطيع التجاهل لأيام، وصرت أتعامل مع باعة مختلفين، ليسوا كالفلاحين الذين يأتون من القرى المجاورة لنا، وباتت مشكلتي الأعظم معهم هي تذمرهم من الكميات القليلة التي أرغب في شرائها، أو أن بعضهم يرفض أن أنتقي بيدي ما أريد، مرات ألقي ببضاعتهم في وجوههم وأمضي بعيدة، مرات أتحمل ضيقهم مني ويتحملون هم طلبي القليل، ومرات أستسلم وآخذ أكثر من احتياجاتي لأنني استسلمت للسان حلو، ووجه بشوش، ومزحة صغيرة، فأحمل ما لا أريد بكلمة.
لازلت أصر أن البائع الجيد هو من يستقبلك جيدا، من يضحك عليك وأنت تعرف ذلك وتبتلعه فأنا أحب المثل الذي كانت تردده أمي على الدوام ( لاقيني ولا تغديني).
ومع تكرار المرات التي أذهب فيها للسوق أجده أحيانا كثيرة يضحك، يقيم أفراحا تعلو فيها الزغاريد فأحمل من كل شيء تقريبا، ليس فرحا بالمعنى الحرفي ولكنه طزاجة مبهجة، إنك تجد الخضروات من فرط طزاجتها ولمعانها تحملك لأودية من الفرحة، بريقها نور يشق طريقا لقلبك فأشتري وأشتري حتى تعجز يدي عن حمل ما اشتريت، لا أعرف نساء كثيرات تحمل لهن طزاجة لخضر هذا النهم في الشراء، أو تصيبهن تلك البهجة التي تصيبني.
لا أعرف واحدة تدخل السوق وتخرج دون أن تشتري شيئا رغم أنها تحتاج لأشياء دفعتها للذهاب لمجرد أن وجوه الباعة تثير في نفسها قلقا وضغينة.
لا أعرف واحدة منهن تخرج من السوق دون أن تشتري شيئا لأن الخضر والفاكهة لا ينادينها ببريق يسلب إرادتها فيدفعها دفعا للشراء!
لا أعرف واحدة منهن تسعى للحكايات، من منهن تعرف رانيا ذات النصف خطوة، تلك العرجاء التي تنفق على أطفالها وزوجها المريض ، وتبيع ما تستطيع نقودها القليلة شراؤه من تجار الجملة لا ما تحب أن تبيع.
لا أعرف من منهن تعرف رشا البائعة الشرسة صاحبة اللسان اللاذع والوجه الذي يفارقه الجمال، رشا التي قد تغيب عن السوق وتدع أختها التي لا تقل شراسة عنها تأخذ مكانها لأنها في زيارة لزوجها السجين!
من منهن يا تُرى تعرف بائعة أنقذت زميلة لي ذات يوم من ضائقة مالية اضطرتها أن تبيع واحدا من طيورها التي تربيها فوق سطح بيتها، فذهبت تسأل عن امرأة اعتادت أن تبيع لها، لم تكن موجودة في ذلك اليوم ومع الإلحاح في السؤال فهمت البائعة الحذقة ابنة السوق أن زميلتي في ضيق فأخرجت كيس نقودها المعلق بحمالة صدرها وأخرجت لها نقودا وأصرت أن تأخذها وتعيدها وقتما يأتي الفرج!
من منهن تعرف الخضري المسيحي الذي يستقبل الجميع بود بالغ ويستقبلها هي بحفاوة وبمزيد من الود حتى أنه يعرض عليها في كل مرة أن يوصل المشتريات إلى حيث تريد بينما يفتش في رسغها عن صليب يؤكد له انتمائها لنفس طائفته فتزيد حيرته ولا تجيب عن سؤاله الساكت عنه وقد فهمت تودده.
لا أعرف غيري حين أشعر بالوحدة تحطم سكوني الداخلي فأجدني أذهب للسوق! وأظل أنظر للبضائع بلا نية حقيقية في الشراء، أغدو وأروح في المكان، أذوب في الزحام، أرقب الباعة والمشترين، أتأمل البضائع كلها، أجد بعضا منها يحدثني أحيانا، يداعب مخيلتي بأكلة شهية، أفكر بما أحتاج للبيت، لكنني لا أقدم على شراء أي شيء إلا شيئا قد كنت أبحث عنه ووجدته مصادفة، وأظل في السوق حتى أقضي على ذلك الشعور الغريب الذي تسلل إليِّ، فأعود إلى بيتي وقد ملأتني حياة السوق بما يرتق ثقوب الروح التي ظهرت فجأة.
لكنه سوق وحيد هو الذي أشعر معه بذلك، سوق لكل شيء وليس للفاكهة والخضر فقط، إنه يمتلئ ببضائع من كل شكل ولون، خضر، فاكهة، أسماك، أدوات منزلية، ملابس، مفروشات، حقائب، أحذية، بقالة، لحوم، كل شيء، جاء سكني الأول إلى جواره فكان متعتي الكبرى وحين انتقلت بالسكن لأبعد عنه قليلا أجدني أذهب إليه بين حين وأخر لأجدد متعتي معه.
إن أجمل ما اشتريت وألذ وأطيب ما ابتعت كان منه، أول أشياء لبيتي لم تقم أمي بشرائها كان منه، إن رغبت بشيء ولم أجده أيقنت أنني سأجده هناك ويحدث أن أجده بالفعل، ليس عليك إلا أن تخرج من محطة مترو سعد زغلول لتجد نفسك في قلب السوق الآسر.
حين صدر ذات يوم قرار بفضه، أصابني الحزن، فظللت أتتبع الباعة الذين اتخذوا من الزوايا الضيقة ملاذا لهم، أنتظر عودتهم ويوم عادوا كانت فرحتي غامرة.
إن السوق هو الرواية التي ما كنت يوما بطلتها، لكنه بطل روايتي التي لم أكتبها بعد.
رباب كساب


نشر المقال ضمن ملف عن السوق بمجلة الثقافة الجديدة بعدد نوفمبر 2017

ليست هناك تعليقات:

حواري لجريدة السياسة الكويتية

رباب كساب: حان وقت تجديد دماء الساحة الأدبية أجرت الحوار شروق مدحت  تمردت على الظروف المحيطة ،رافضة الاستسلام لعادات وت...