طريق البداية
خطوات متعجلة تستصرخ عمرا استباحني فيه السكون ، صعدت درجات سلم بطول الهرم الأكبر .
نظرت من علٍ وجدتني بالأسفل لازلت هناك بضآلتي أرقب من بعيد ما صعد مني تاركا إياي خلفه .
جذبتني يد لا أعرف صاحبها ، التفت إليه ، كان هو صاحب الصدفة ، أكبر صدف حياتي على الإطلاق .
ابتسمت .
بادلني الابتسام بتجهم وسؤال ، عانقت سؤاله بحميمية خففت عني قسوته .
سرت خلفه كطفلة تتعلق بيد أبيها المطبق على كفها حتى لا تتوه منه ، خطواته واسعة وخطواتي تعدو لتلحق به ، أنفاسي تتلاحق .
توقف فجأة ودفعني لما يشبه التابوت ، وجدتني محاطة بجانبين وظهري لحائط وهو أمامي يسد عني النور .
سدد نظراته الحادة إليّ ، انكمشت خوفا ، سرت بجسدي رعدة ، خلته سيغلق عليّ المكان أو سيميل ويطبق على شفتي مغتصبا قبلة ....... أردتها .
لكنه ما فعل ، منعني الخوف سؤاله .
أدار لي ظهره ولكنه لازال حائلا بيني وبين الخروج .
وجدت قميصه ينحسر عنه ببطء كاشفا لي ظهره .
رعدة ...... قلق ......... خوف .
مشاعر شتى انتابتني انتهت بارتباك ، وحزن ويدي تتحسس ندبات حُفرت بعنف على ظهره ، وددت لو سارت شفتاي تجوس أرضه ، تلثم ندباته فتعيده لسابق عهده دونها.
لكن يدي ربتت على كتفه ، رفعت قميصه لموضعه .
التفت إليّ أغلقت أزراره واحدا ، واحدا في صمت بعين يغرقها الوجع .
حرت بماذا أنطق وكيف أسأل ؟
قرأ بعيني كل أسئلتي .
بادرته قائلة : ألا تجيب ؟
- وحدك ستعرفين .
- لماذا تحيرني ؟
- لابد أن تحتاري حتى تخرجي من ذلك التابوت ، دائما تأتيك الفرصة لكنك تستعذبين الحبس والقيود .
- أنا ؟
- نعم أنت .
داهمني شعور بكوني طفلة وعاد إحساس التضاؤل من جديد ورأيتني نقطة سوداء صغيرة دنست صفحة شديدة البياض .
كأنه شعر ما بداخلي ، وجدته يطبق على كفي من جديد وظل يعدو ويعدو ، وأنا خلفه أواصل الرحلة وقد كلت قدماي .
توقف عند محطة القطارات وقال : انظري ، انظري .
وصمت صمت رهيب ، البشر حولي من كل شكل ولون ، يمرون أمامي وأنا جالسة إلى جواره لا أعرف لي وجهة .
تشغلني ندباته التي لا أعرف من أين وكيف جاءت ؟
طال صمته دون فائدة .
أخرجت رواية من حقيبتي أبدد بها صمته وانتظاري وانتقلت فجأة معها من محطة القطارات إلى الجزائر إلى قسنطينة وجسورها العديدة ، لشاب فقير يقاوم أهله من أجل جزائر حرة جديدة ، ومقاومة من صُلب وجهاد بمدفع وجهاد بكتاب .
بين سطر وآخر ألمح صمته العتيد وصدره الذي يعلو ويهبط كأنه يجاهد أنفاسه .
قطعت شرودي عجوز تسألني من مال الله .
نظرت إليها بغير شفقة أعلم أنَّ لديها مالا يغنيني لكني بآلية وضعت يدي بحقيبتي وأخرجت لها ما تيسر .
عدت لصفحات الكتاب وللشاب الذاهب للمدينة وللمدرسة الثانوية ليضيء شمعة تنير دهاليز الجهل .
ذاهبا يحمل على كاهله عبء قرية رأت فيه النور فساعدوه بكل ما لديهم ، فرحل حاملا من الزاد اليسير ، سائرا بلسان شاعر .
صوت أقدام تحك الأرض برعونة جعلتني أترك الصغير ومغامرة العارم والجندي الفرنسي في الوادي الجزائري لأرى لمن وقع هذه الأقدام .
فإذا بعيني تصطدم بقضيبي سكة حديد يتقدمهما طفلهما الذي لا أعرف متى التقيا حتى جاء .
يحمل وجهيهما بعدا كبيرا وافتقادا للمودة كما يحمل الغضب .
يلهو طفلهما ويحك الأرض بقدميه غير عابئ بهما كأنه اعتادهما على هذا النحو .
كلما عدت للرواية اقتحم معها سراديب الروح متشحة بالأمل يعود بي المسافرون لرصيف المحطة وللانتظار ، أتطلع لما حولي وكأني أرى للمرة الأولى ، فاجأني نهد نافر من رداء أعوج يصرخ بهستيرية أنا هنا فهل من مغامر ؟
وعامل نظافة يؤدي عمله بلا رغبة ، يمد مكنسته بين أرجل المسافرين الجالسين على مقاعد الانتظار في صلف وبلا استئذان .
أغلقت الرواية ، أسكنتها حقيبتي ؛ لأواصل رحلتي بين هؤلاء المسافرون في الوجع.
رحلاتهم للآه ، حقائبهم من هَمْ .
مر بي رجل يحمل الكثير من الأوراق ، أزعجتني عين قلبه الدامعة أبصرت عجزي متجليا فما كنت أملك له طوق نجاة ، أو قبلة حياة .
أطبقت على كفه فهو من ألقى بي في هوة هؤلاء .
وجدتها باردة كنظراته لي .
قمت ، لم يسألني إلى أين ؟
مشيت على الرصيف أواصل النظر بعيدا عن الناس ، أستطلع القطار الذي لا أعلم وجهته ، ومن أين سيأتي ، كنت أشارك الناس حلم أن يأتي المُنتظر مبددا سأم انتظاره .
فإذا بي أرتطم بعذابات أم تطل من إعلان عن ضائع ، مفقود خلفته الحياة وراءها .
عدت لجلستي بجواره دون أن يسأل أين كنت ؟ كأنه يعلم أني عائدة لا محالة .
موظفة المحطة أعلنت عن قطار قادم ، استمع لها في ترقب ثم أمسك بيدي وقام .
وجدتنا في الطريق إلى الإسكندرية ، خلته سيقضي معي يوما بألف يوم .
على شاطئ البحر نفث دخان سيجارته بوجهي وكان لازال على صمته ، قلت : من أين جاءت ؟ وكيف ؟
وجه ناظريه بعيدا نحو البحر ، وهو يواصل تدخينه ثم قال : من العالم الذي منه تهربين .
- أي عالم ؟
- عالم الأحياء ، من تنعزلين عنهم وتعيشين بصفحة كتاب عتيق ، من تتفننين بإيهامهم بك بطلة رغم كونك لست إلا بطلة في فيلم من أفلام السينما الصامتة ترتدين ثوب البراءة وتحلمين بوردة حمراء تتنسمين رحيقها ، ورجل يضع وردة بيضاء في عروة جاكته .
فجأة اتخذ موضع المهاجم وضاعت مني كلماتي ، تاهت في موجة هجوم لم تلق لدي رد فعل ، وأنا أجده يدعوني لسماع الآهات ؛لأعرف كيف جاءت الندبات ، وأنصت لصوت العالم الضائع من كثرة الصراخ ، وأن أجعل منهم قضيتي .
استمر في تأنيبي وتحقير دوري واصفا إياي بالشهيدة والإلهة المبرأة ، وسعادتي بهذا الدور .
- ابحثي عن أدوار جديدة قبل أن يملك الجمهور ، اصرخي مع الناس حتى لو طال جسدك الجميل الندبات .
تأملتني للحظة مصطدمة بكلماته ، ورذاذ الموج الهادر وتخيلت جسدي والندبات .
لم أسمعه وهو يقول : ندبات الجسد أخف وطأة من ندبات الروح ، ماء البحر لن يكفي لإزالة القبح ، ولكن ..... .
8/10/2008