لا شماتة ...... يوم جديد من يومياتي
منذ بضعة أيام وأنا أفكر في الكتابة عن الموت لا عن الموت كفعل أو رد فعل طبيعي لنهاية الحياة ولا لأنه الحقيقة المؤكدة في هذا الكون أو لأنه الوجه الآخر للعملة .
بل سأتكلم عن الموت كوسيلة يأخذ منها البعض طريق ليصل به لمأرب من مآربه، تاجر يتخذ من الموت وسيلة لبيع تجارته ، ولقدسيته اخترت أنْ أتحدث بلغة فصيحة على عكس ما سبق من يومياتي .
يحضرني الآن قصة سيدنا إبراهيم مع من ادعى أنه إله ( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ) صدق الله العظيم البقرة 258.
أتى المدعي برجل أماته ـ قتله ـ وآخر أبقى على حياته واعتقد أن بهذا قد أمات وأحيا لكن الإعجاز الحق هو أن يحيي من أماته لكنه فشل ولم يجادله النبي الكريم بل طلب منه أن يأتي بالشمس من المغرب ( فبهت الذي كفر ).
تبارك الخالق جلا علاه وهو العظيم القادر المقتدر ( وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِـي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَـكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءاً ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً وَاعْلَمْ أَنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ )البقرة260
إن الله تعالى كما خلق الحياة خلق الموت أي أنَّ لكل شيء بداية ونهاية ، في الحياة مبتدأ ومنتهى والموت نهايتنا .
قدَّس المصريون الموت قدسية لا مثيل لها بنوا الأهرامات مقابرا بقت على مدى آلاف السنين شاهدا على هذا التقديس الكبير، ظنوا في البعث فحنطوا الموتى حافظوا بذلك على جسد الميت وتركوا معه كل ما يعز عليه من ممتلكات حتى بعض الحبوب إلى أن تغير هذا المعتقد ( الكفن مالوش جيوب) لكن ظل الموت هو الشيء الوحيد الذي تنهار أمامه كل الأشياء ،الضغائن ، الأحقاد ، الشرور الخلافات ليبقى السيد بلا منازع ، وكم من أسر كانت تتطاحن أفرادها فإذا حضر الموت كف الجميع عن نحر بعضهم البعض .
وكم من أشقاء جمعهم الموت بعد خلاف .
الموت مفرق ومجمع في آن واحد ، الموت له ذلك الفعل الحيوي البداية والنهاية .
ويأتيك الموت بغير أن تدرك أو تحتسب فلكل أجل كتاب (أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ ) النساء 78
لازلت لم أدخل في صلب موضوعي الذي وددت محادثتكم بشأنه .
وبرغم كوني أفكر في كتابة الموضوع من أيام إلا أن ما حدث اليوم من ردود أفعال للبعض إثر موت حفيد الرئيس جعلني أتذكر الموقف الذي حرك بداخلي دافع الكتابة ، وأجبرني لأكتب .
سمعت شريطا لواحد من هؤلاء الذي أخذوا على عاتقهم أمر هداية البشرية ، ورد كل مخطئ إلى عباءة التوبة النصوح ، للبقاء في ردهة الإيمان ، في معية الله جلا علاه .
واحد من هؤلاء الذين يتكلمون بفصاحة وبقوة تثير في داخلك الميت من المشاعر أو المهجور من الأحاسيس ، واحد من هؤلاء الذين يتخذون من قدرتهم على المواجهة والخطابة في الناس وسيلة يصلون بها لكل من وهن عقله ورهف قلبه .
ولا أخفي عليكم أني تأثرت بحماسته ونداءاته ولكنه عقلي الذي يسكن رأسي منذ زمن مكابرا ، غاضبا ، ناقما أحيانا لأنه تعلم كيف يفكر وكيف يتساءل نفض عنه التأثر بالكلمات الرنانة وبدأ يحللها .
كنت وحيدة في ميكروباص كان كل ركابه تقريبا من أصحاب الجلابيب القصيرة واللحى الطويلة فتوقعت أني سأستمع لشريط قرآن أو شريط لواحد من الدعاة لم استغرب الحادث ما تعجبته أنهم ارتضوا بي راكبة أخيرة وحيدة في سيارة يركبونها أسكتهم فقط أنهم لا يملكوها فهم مثلي مجرد ركاب .
لم يدر الشريط من البداية وأظنه كان في نهايته لكن ما سمعته منه كان كافيا لأصر على أنَّ هذا الرجل حسابه عند الله فلن أكون مثله وأحكم وأنصب نفسي إلهة وقاضية أحاكم البشر .
الله تعالى أكبر من أن نتخيل مدى رحمته وعفوه ومدى قدرته على الحكم ، نحن نتكلم بقصورنا البشري ليس إلا فالقادر على أن يحيي ويميت ، من يسير السحب وينزل المطر من يبسط الأرض ويرفع السماء بغير عمد من يأتي بالشمس من المشرق ليس لنا أن نتصور أنه على قدر عقولنا .
الله تعالى الذي صنعنا من تراب وأحكم صنعنا ( فتبارك الله أحسن الخالقين ) المؤمنون : 14 .
(الذي خلقك فسواك فعدلك * في أيّ صورةٍ ما شاء ركّبك )الانفطار : 7 - 8 .
يتم في داخلك آلاف العمليات الحيوية التي لا تتخيل مدى تعقيدها ومهما حاول العلماء من رسم خرائط جينية وتحديد أليلات الوراثة وفك شفرات الحامض النووي أو تركيبه وعزله ودراسته فهم عاجزون أمام الإعجاز الإلهي الذي دفعني ذات يوم لأن أردد جملة واحدة على مدى ثلاث ساعات متواصلة ( سبحان الله )
الله .... الواحد الأحد .... الفرد الصمد ..... لا نظن أنا ندركه حتى نطلق الأحكام جزافا ، نكفر خلقا ونحاسب آخرين بمنطقنا نحن .
هذا الرجل الذي كان يحث الشباب للعودة إلى الله وترك المعاصي كان يضرب أمثلة كلها في ظاهرها الدعوة إلى الإيمان وفي جوهرها هي ترك لله عز وجل ولطريق الهدى .
ظل يتحدث عن أشخاص غرتهم الدنيا من وجهة نظره ومشوا في طريق الضلال ثم تاب الله عليهم من بعد غي وإثم ليسيروا في طريق الله يعرفون المساجد بعد هجرة ، ويأتنسون بنور الرحمن بعد ظلام فإذا بهم ينقضون عهدهم مع الله ويعودون لإثمهم السابق وغيهم وضلالهم ويموتون بعد الارتداد بيومين أو ثلاثة بالضبط كما ذكر هذا الرجل ولا أحد يدري سببا لتوبتهم وما الدافع الذي جعلهم يتوبون وما هو الدافع الأقوى الذي جعلهم يرتدون بعد أن تذوقوا حلاوة أن يكونوا بقرب الله ويموتون على غيهم .
وما حز بنفسي حقا أنه تكلم عن شاب آمن بعد طول ضلال حتى أنه بدأ يؤم الناس في الصلاة ويلقي عليهم الدروس وصار له دارسين مستمعين له متعلمين منه فإذا به يرتد ثانية ويموت في ثالث أيام ارتداده بالضبط ... لماذا ؟
لا أدري .
بحق لا أدري ، لا أدري لماذا تاب ولماذا ارتد وما حكمة ذلك ؟
من باب أولى أن أذكر هذا الشاب كنموذج أمثل ، وأحبب الشباب في الحياة الآمنة الجميلة بجوار الرحمن لا أن أقول أنه ارتد ثم مات كافرا ، ماذا سيفيد ذلك غير أن استمر في ضلالي إذا كان الأمر هكذا وفي كلا الحالتين سأموت كافرة .
قد تكون توبته غير صادقة ( الله أعلم ) ولكنه مثل ليس بمحله مثل استخدمه الرجل مع باقي الأمثلة لزرع الخوف لا الحب في الإيمان ، فقط الخوف والرعب من أن تموت كافرا فتظل تؤدي العبادات وترسم مظهر المؤمن دون أن تحب ما تفعل .
وفي هذا المثل بالذات الذي أصررت على ذكره لأن الفتى صار واحدا من الدعاة إلى الرحمن ومن يفعل ذلك غير إنسان تغير كلية وصار لديه من العلم ما يعطيه للناس ومن القدرة على شرح نعمة الإيمان ؟ فكيف يرتد وبأي سبب ؟ ولماذا يموت على ارتداده ؟
وكيف لي أن أحكم عليه بأنه مرتد لمجرد أنه عاد لملبسه القديم تاركا الجلباب أو كف عن إلقاء الدروس أليس من الممكن أن يكون قد تاب الله عليه بالفعل وعلم من داخل نفسه أنه ليس على علم ولا قدرة بأن يتحمل وذر من يسيرون خلفه يسمعون منه وأنه مات على إيمان حقيقي بأن للدين أهله .
كيف لي أن أعرف سريرته وأحكم بكفره وأنا لا أعرف سببا لما كان عليه وما آل إليه وما دفعه للعودة .
لم يذكر الرجل في أي من الأمثلة أسبابا لذلك .
وآه من كلماته بعد ذلك لقد شمت بالموتى ، لا شماتة في الموت يا رجل ، لا شماتة في الموت .
تكلم عن أهل المعازف وآه من صرخته بكلمة أهل المعازف ارتجت أوصالي وخلت أني أمام أبا لهب وزبانية قريش .
لقد شمت في موت شباب الممثلين الذين ماتوا على مسرح بني سويف ، تلك الحادثة التي أبكت عيني ولا أراها تختلف عن حادث عبارة السلام 98 أو الطائرة البوينج 1999 أو قطار الصعيد 2002 ، لا يختلف هذا الحادث في قوته ومرارته وجسامة الإهمال الذي وراءه .
وحتى لو كان هؤلاء الممثلون من الكفار فمن أدراني هل كنت الله الذي هو أقرب إلينا من حبل الوريد لأعلم دواخلهم وأحكم عليهم بل واشمت في موتهم هل كنت هو ؟
شمت بهم والله شمت بهم وفرح لموتهم على هذه الصورة المحترقة قائلا ( عاش على المسرح ومات على المسرح الذي وهبه حياته ) ( لقد طالتهم النار أولا على خشبة المسرح ثم طالت من هم في مقاعد الجمهور ).
ذكر الممثل الذي ظن الجميع أنه مات ثم دفن وبعد فترة فُتح قبره فوجدوه كان يحاول نبشه لأنه لم يمت حينها ، تلك الإشاعة التي خصت الفنان صلاح قابيل والله أعلم بصحتها شمت به هو الآخر .
واليوم رأيت الشماتة في عيون الكثيرين وفي كلماتهم في الرئيس مبارك فعلوا مثل هذا الرجل ولم ينههم الموت عن ذلك بحجة أن الرجل فعل بنا الكثير والكثير وها هو يتذوق من نفس الكأس التي تذوقها من مات بالأغذية التي رُشت بالمبيدات المسرطنة ، وهؤلاء الذين راحوا للحوادث الكبار التي ذكرتها ، الثكالى والأيامى الذين خلفتهم وراءهم حوداث العبارة والقطار والدويقة وغيرها وهذا حقيقي لكن حقنا لن يأتي بأن نشمت في موت طفل لا حول له ولا قوة .
لقد شعرت بمدى فداحة مصابهم كأي فرد في من شعب مصر يفقد عزيزا لديه ، لم أرَ غير دموع أب وجد من شعب مصر .
حقنا لن يأخذه لنا تخاذلنا وشماتتنا بالرجل ، حقنا سنأخذه بقوة وجودنا وتماسكنا برغبة قوية في الاتحاد لنتغير ، لنكف عن تخاذلنا وتقاعصنا ، وتلك الهبَّات الفردية التي يقوم بها البعض .
سوف يعود حقنا إن تغيرنا نحن ، إنَّ الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ، ونحن استسلمنا لضعفنا .
شمتوا به وبموت حفيده والبعض اتبع سياسة الرياء والنفاق حتى أن رجال الأعمال وأصحاب القنوات الفضائية تخلوا عن ربح الإعلانات للحداد الذي أقيم لموت الطفل وكأننا في مَملكة مات فرد من العائلة المالكة .
بتنا كهذا الرجل الذي يملأ العديد من شرائط الكاسيت بالكثير والكثير من المغالطات التي لا تدعو سوى للترهيب رغم أن حلاوة الإيمان فيما يملأ أنفسنا بالحب ، حب القرب من الله والوقوف بين يديه ، حب أن تتصدق وتزكي بنفس صادقة الفعل ، حب أن تعامل الآخرين بما وجب عليك دون غش ورياء ونفاق دون أن نأكل لحم بعضنا البعض ، أن نتعلم أنَّ الدين المعاملة ، وأن تحيتنا السلام ، وأن نعرف الغير ونختلط بالآخر فالإسلام ليس انعزالا .
إن لم يغيرنا الموت ويدفع بنا للتكاتف فلا سبيل لأن نتغير .
20/5/2009