تراحيل
مع مطلع الشمس هَّم أن يخرج من داره و قد ارتدى جلبابه وأحكم لف تلفيحته حول عنقه وضبط الطاقية الصوف حول رأسه جيداً ، حاملاً فوق كتفه مع ما يحمل فأسه ومعوله .
لحظة استوقفته زوجته وسألته : هتاكل إيه النهاردة ؟نظر إليها نظرة لم تفهمها ثم تركها ومضى دون أن يرد ، استنكرت المرأة فعله وتمتمت بكلمات لم يسمعها قائلة : هو أنا كدة كل حاجة فوق دماغي ، محدش يريحني أبدا .
أفرغت ما في جعبتها ثم مضت إلى عملها .
خرج هو والأفكار تملأ رأسه لم يرد عليها سؤالها ليس لأنه اعتاده فقط ولكن لأنه دائما هو ما يشغله فهو لا يدري إن كان سيعود ومعه ثمن ما تشتريه لتسأله هذا السؤال في الغد .
وصل إلى حيث يجلس كل يوم ورفقته الذين يتزايدون يوما بعد أخر ، يجلسون في انتظار الفرج ، كل منهم لا يملك إلا الأمل في الله .
افترشوا جميعهم أرض الحديقة الكائنة في منتصف الطريق ، في مبدأ الشارع الرئيسي الكبير ، جلس بينهم وقد ضم ركبتيه إلى صدره وسرح بعيداً ، رأى أولاده وهم بجلابيبهم المتهالكة الممتلئة بالثقوب وكأنها عيون تُفتح على الحياة لتجد أنها ليس لها مكاناً فيها ، يمسكون بأيديهم علبا من الصفيح لم يعرفوا أبدا ما كانت تحتويه قبل أن يُلقي بها أصحابها للشارع ليعلوها الصدأ فلا يبين منها حتى لونها ، أكانت علبا للسلمون أو حتى للمربى ؟ هم لا يعلمون ، يرونها فقط وهي تعلو أرفف دكان عم إبراهيم بقال حارتهم .
كل واحد يمسك بعلبة ليكلم الأخر فيها يربطا كل علبتين بحبلٍ واحد ، واحدة يسمع من خلالها وأخرى يتحدث فيها ،والصبية تمسك العروس القماش التي صنعتها أمها وملأتها بقش الأرز الخشن لا بالقطن ما إن تضمها إلى صدرها حتى تنفذ إليها لمسات القش الخشنة عبر القماش المهترئ للعروس المقيتة .ذهب لزوجته وقميصها الوردي الذي تحرص عليه كل الحرص إلا أنه تهالك وضاع لونه مع ما ضاع منهما .
أليس له عمر ؟! أنطالب قماشا رديئا أن يحتملنا كل سنوات حياتنا ؟! هل سيعود لهم بقوت الغد لتسأله زوجته : هتاكل إيه النهاردة .كان سؤالها دائما ما يثير سخرية لاذعة بل حارقة في صدره فهو يُشعره أن بإمكانها طبخ أصناف وأصناف وأنَّ معها ما يمكن أن تنتقي به بين صنوف الطعام المختلفة ، لا يرد عليها لأنه لا يملك الرد ولأنه يعلم أنه لا يوجد غير صنف أو اثنين بالكثير ثلاثة هو ما يمكنها أنْ تختار بينهم ، ولا يرد لشعوره بالعجز ، تمنى كثيراً لو لم تسأله .
طال الوقت به ولم يأت الفرج وكلما جاء مقاول بسيارته أو أي شخص يريد واحدا من هؤلاء من عمال التراحيل يعدو خلفه عله يصيبه الدور عله يكون واحداً من بين المحظوظين المختارين ، إلا أنه يعود في كل مرة خائباً ليجلس نفس جلسته وقد ضم ركبتيه إلى صدره في عودة للانتظار لا بد أن يعود بقوت الغد هو لا يحلم سوى بسد رمق أولاده وزوجته لا بكسوتهم ولا تعليمهم أو حتى بألعاب لهم .قارب النهار الانتهاء ولم يأت الفرج ، إنه لا يملك سوى الانتظار .لكن الشمس غابت وهو لازال يفكر كيف سيدخل على زوجته وأولاده وهو صفر اليدين ؟ ماذا سيقول لهم ؟ هي ليست المرة الأولى ولكنها واحدة من مرات الخذلان التي لا تنتهي .
إشارة المرور استوقفت السيارات أمامه وقفت قبالته سيارة وجه سائقها في وجهه مباشرة إنها سيارة معروفة لا أحد يُخطئها ولا يتمنى أحد ركوبها فمن يتمنى ركوب سيارة ( تحت الطلب )
نظر إليه سائق السيارة بإشفاق وتطلع هو له بشدة عيونه تستحلفه ، فهم السائق ما يدور في رأس الرجل ولكن ما بيده شيء ، دار بينهما حوارا طويلا بالعيون كأنه سباق في الثواني المعدودة مدة الإشارة وقبل أن تهم السيارة بالسير استوقف سائقها قائلا : مش عايز حد يشيل معاك الجثة .
رباب كساب
4/3/2007
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق