امرأتي الجديدة
انطلقت مني الكلمات كسيلٍ لا أعرف سبيلا لإيقافه ، بت أتحدث وأتحدث ، تخليت عن مكر الأنثى ، أردت أن أكون أنا بطبيعتي ، تلك المرأة الطفلة الطيبة القلب التي لأولِ مرة تجرب ذلك الشعور الرائع ، إحساس غريب يتغمدني يشملني وكأني واحدة أخرى لا أعرفها ، امرأة جديدة عَليِّ ؛ ترى الجمال في كل شيء ، امرأة لا تذكر سوى تلك اللحظة التي عرفت فيها معنى الحياة ، والابتسام السعيد ، والفرحة التي تغمر القلب .
لي يومان أستعد للقائه .
تطلعت لوجهي في المرآة وجدت فتاة غيري ، لم أكن أعرفها ،وجه أكثر بهاء وإشراق ، عينان لامعتان ، شفاه تكاد تصرخ من توهجها ، لم يعد وجهي باهتا ولم تعد عيوني ذابلة ، لم تعد لامرأتي القديمة أي وجود يذكر .
لم أعرفني .
لا ضير إنْ كنت أتكلم وأبوح بمشاعري لمَ أكتمها وأخفيها انتظارا له حتى ينطق أولا ، ليس مهما أن ينطق المهم أن أنطق أنا للمرة الأولى وأصرخ وأنادي وأقول أنا ..................... أحب .
يا له من شعور ، ويا لها من أحاسيس تلك التي تغمرني حين أسمع صوته ، وحين أنطق باسمه ، وحين أتغنى بأغنية تذكرني به .
( كل الناس حلوين في عينية حلوين طول ما عينية شايفة الدنيا وإنت قصاد عيني ) .
( الله يا ست قولي كمان ، غني لي كمان وكمان ) .
عدت بذاكرتي للوراء رغم أني لا أريد تذكر ما كنت عليه ولكني عدت حتى أراني من قبل ، وما أنا عليه لأعرف النعمة التي آلت لها حياتي .
- لم يقل أنه يحبك .
- ليس مهما المهم أني أحبه .
أعرف أنه لازال يبكي على أطلالِ ماضٍ ولى ، أليس هو القائل :
يا طفلتي ..
أنت التي ..
علمتِني فنَ الهوى ..
وجعلت ناركِ جنتي
يا حلوتي ..
يا أجمل ما رأت عيناي ..
يا غدي الحلو الفتي
الصبُ تفضحُه عيونُه وأنا ..
كل الجوارحِ تستبيحُ فضيحتي
أعلم هذا ، لازال يعتبرها غده ، لازالت جوارحه تشتاق لها .
ولكني أعلم أنه سينسى وسيدخل جنتي ، أعلم حتى وإنْ لَمْ يأتْ ؛ كفى ما أحس به لأعيش ملكة متوجة .
- ملكة بلا مَلك أو حتى مُلك .
- يكفيني مُلكي الذي بنيته ولو في الخيال .
إلا أني أتناسى مُلكي وعرشي فأنا الآن طفلة أحبو في الغرام ، صوت الحبيب يورد وجنتي خجلا ، وأنا الجريئة المقدامة ، أقف في المحافل وأتكلم ولا أخشى أحدا ، فإذا بصوتي الجهوري في حضوره همسا وإذا بالقلب الجريء في حضرته طفلا .
لا أبالغ إن قلت أني أسعد بطفولتي هذه ، وبشخصيتي الجديدة .
فأنا للمرة الأولى لا أجدني مسئولة هذه المرة أنا أسعد الناس بكوني منقادة لا قائدة .
- الناس قد تأخذ عليك هيامك بمن لا يحسك ولا بك يشعر ، بل ويحب سواك .
- وما دخل الناس بغرامي ؟ أنا وحدي مَنْ أحمل على عاتقي مسئولية هواي ، وأنا التي تعرف منذ البداية أنه لم يعدني بشيء ، أنا التي وقعت في غرامه .
تراهم كانوا معي وأنا أتقلب على جمر وحدتي ، وأنا أرى قلبي الفَتيّ يشيب قبل أوانه ، وأنا أراني أذبل يوما بعد آخر.
كانوا أين و المرار يملأ فمي وغصة حلقي لا تنتهي .
اتركوني اليوم بسعادتي والحمد لله أني لست بملكةٍ حقيقية ، ولست الملك ادوارد الذي تنازل عن عرشه من أجل مسز سبمسون .
أنا ملكة على عرش خيالي ، ورعاياي تحت إمرتي ما آمرهم به يفعلونه دون نقاش ، ديكتاتورية في حكمي ، ولكني أَمَةٌ في هواه ، تُراه يأمرني ؟
آه لو أمرني ! في تلك اللحظة سأختبر شعوري بكوني أمة ، جارية في محرابه ، لازال يعاملني من بعيد .
لو اقترب حقا لتركت له زمام الأمور ، سأتعلق بذراعه وأتحامل عليه ، سأترك نفسي يحملها مركب الهوى ، لتتهادى على موجه الرائق ، وأنسى معها من أكون .
إلا حقا من أنا ؟!!
هل أُعّرفَ نفسي قبله ؟ أم بعده ؟
أنا صرت امرأتين لكل منهما تعريف مستقل .
هل أعرفني ؟!!
سؤال يتردد في داخلي ، من أنا ؟
أنا التي في الحياة وريقة على شجرة تعاني خريفاً دائماً ، يوم تساقطت حملها الهواء من مرفأ إلى مرفأ ولم تستقر .
أنا دمعة متحجرة في مآقي لم تعرف غير الأحزان طريقا .
هذا أنا قبلا .
بعده .
لا داعي أن أجيب فدع تلك الدمعة الفرحة التي تحفر وجنتي برفق وهوادة تخبرك ، دع انطلاقي يقول من أنا ؟
اتركوني الآن ولا أسئلة ، دعوني استعد للقائه .
(2)
كانت تلك البداية بدايتها معه ، بداية نسجت حروفها حرفا ... حرفا بإبرة رفيعة جدا أرهقتها أيما إرهاق .
استطاعت انتزاعه من براثن حب كان عليه مسيطرا رغم أنه كان عنه بعيدا ، حبا توارى مع الأيام ومع الزمن إلا أنه يسكنه .
أيسكنه لأنه أراده ؟! أم لأنه لا يود الحياة بلا شيء يشغله ؟
لم يشغلها انشغاله بغيرها ، كل ما همها أن تنتزعه من الوهم ليدخل معها في وهمها .
كل التحذيرات باتت بلا معنى أمام العشق الرابض داخلها له .
عشق !!! أي عشق ؟!
هل بحق كانت عاشقة ؟
لا أعرف لماذا اعتبرتها واهمة .
منذ هذه اللقاءات الأولى وأنا أراها واهمة ، بت أرقبها من بعيد أرى تطورات اللعبة التي دخلتها وأدخلتني معها فيها ، وكيف لا أدخل ؟!
كانت على مشارف الثلاثين حين التقته للمرة الأولى .
المرة الأولى لهذه الكلمة سحر غريب ؛ دائما هناك مرة أولى ، لابد من بداية لكل شيء ليس هناك نهايات بلا بدايات .
المرة الأولى تلك التي وقعت عينيها عليه ، بادرها التحية وجلست إليه في صحبة أغلبهم كانوا يلتقون للمرة الأولى .
مرة أخرى المرة الأولى .
أصدقاء اتفقوا على اللقاء صحبوا معهم بعض أصحابهم كان غريبا عن الناس ،وكانت هي كذلك ، أقحمتها صديقتها وسط جمع لا تعرفه وكان بينهم لا يعرف غير صديقه الذي أتى معه .
انسحبا بالكلام بعيدا تضافرت مواضيعهما ، تناثرت الضحكات ، تعانقت العيون أو ظنت أنه بادلها العناق .
لحظة صمت تأملته فيها ـ انتبهت لعينيها التي مزقته تمزيقا فشعرت بالخجل ـ كان عن وجهها بعيدا ليلتفت فتصدمه بوجهها المشع احمرارا ، إلا أنه صمت ولم يتكلم .
لم تعطه الفرصة ليسأل ، بادرته بسؤال من أسئلتها كانت لعبتهما الأوراق والأقلام .
يتخذون منها أكثر من تسلية ، اطلع على كتابها فر بعضاً من صفحاته ، انطلق على الكلمات بعين نارية مترصدة ، عدا على الحروف والعبارات عدوا ، توقف لدى بعض العبارات سألها : أتحبين ؟
باغتتها المباشرة .
فأعاد تكرار السؤال ونظر لها نظرة متعجبة فهي بدت كمن تبحث عن إجابة .
بادرته بجملة قرأتها في رواية أحلام مستغانمي ذاكرة الجسد نحن نكتب الروايات لنقتل الأشخاص الذين أصبح وجودهم عبئا علينا نحن نكتبهم لننتهي منهم .
- إذاً كان هناك ثم مضى ؟
- لا أستطيع القول بأنه كان حبا ، قل أنه كان وهما ثم مضى .
تمنت لو قال مثل بطل أحلام : يا قاتلة ، إلا أنه لم يقل .
في تلك اللحظة فقط أدركت أنها لا تود قتله ، إنها تبغي حياته واقتناصه لنفسها ، عاجلته بمثل سؤاله .
لعن الحب ، ويوم أحب ويوم تلقى الطعنة الأولى .
- أخذها من يملك مالا وسلطة .
- نفيت واستوطن الأغراب في بلدي .
- نحن الغرباء .
قالها مع زفرة أوجعتها ، خرجت محملة بآهة عشق مأفون لامرأة باعت هوى سنين وسنين .
وَجَدَته كمن عاش يبني صرحا وحده طوبة ....... طوبة يحملها على كتفه ، حتى صار بناءه كاملا فإذا بآخر يهدمه مرة واحدة فهذا ليس عصر المعاول وإنما عصر البلدوزرات .
غيّر الموضوع في ثوان معدودة انطلقا للحديث عن عمله وحين تطرقا لعمله الصحفي نسى كل شيء ، بات به حزن آخر حزن مشمول بالقهر على مستقبل بلد بأكمله يسير نحو هاوية سحيقة ، ومستقبل وطن شاسع يضيع تحت أحكام حكامه الديكتاتورية من جهة ،والسطوة الأمريكية من جهة أخرى ، صار كمحارب متخذا من قلمه سيفا .
وبدا كتلة من الحزن الدائم ، الذي هو من الصعب جعل صاحبه يشعر بالفرح ، غابت في عينيه الحزينتين .
الوقت مر معه كما لو أنه نسمة عبرت مست وجهها ومضت مسرعة .
الانترنت والحديث اليومي عادة لا يقطعها إلا رغبتها الأكيدة في النوم فهو يدخل في أوقات متأخرة ، استسلمت لموعده رغم أنه يرهقها ، صارت تعد اللحظات حتى تلقاه عبر الشبكة الالكترونية .
لكنه أبدا لم يصرح لم يقل أي شيء إنه يباغتها بأحداث هوى تملأ حياته ، يسير بمنطق داوني بالتي كانت هي الداء ، وفي كل مرة يفشل الأمر ،ويخرج بوجع بالقلب .
- أواه يا قلب لم كل صبر السنين يذوب أمام هذا الرجل بالذات ؟ هكذا ظلت تردد منذ عرفته .
أعقاب على ذنب اقترفته ؟ أم على كل الذنوب التي اقترفتها على طول عمرها وعرضه ؟ في سنواتها الثلاثين أجمعين .
( 3 )
كل يوم تتكشفه أكثر إنه يفتح لها طريقا شاسعا لحبه ، بالرغم من أنه يحدثها عن نفسه ، عن محبوبتيه ، لا يدري أنه يمسك سكينا بها يطعنها طعنات قاتلة ، تنفذ شيئا فشيئا إلى قلبها .
لكم أشفقت عليها وهو يقول أنها تجري في دمه ـ حبيبته الأولى ـ أغمضت عينيها وضغطت على حروف لوحة المفاتيح بكلتا يديها .
هي في موضع الصديق الذي يلقي ما في جعبته معه ليس إلا .
هي تعلم لا يجب أن تتذمر .
لا أنكر وجعي من أجلها ، رغم أنها تنكر وجودي ، وتقحمني معها في كل شيء .
الغد . بماذا سوف يأتي ؟ كل ليلة أراها تتقلب في فراشها ، كما لو كانت في قلب الصحراء تفترش رمالها في نهار شديد الحرارة .
استيقظت ذات يوم تنادي باسمه .
لحظتها بكيت عليها ، وقفت أمامها أنهرها ، حالها أوجعني ، أَبكَى دمعي العزيز ، إن هذه المساحيق التي تزين بها وجهها كما المشارط تجرح وجنتيها وتدعي أنها تواري بها بعض شحوبها .
لم تعد هي .
تدعي أنها صارت امرأة جديدة ، هي فعلا كذلك ، إلا أنها امرأة خلقت العذاب لنفسها .
ذهبت للقائه .
عادت ترسم البسمة على وجهها .
تتخيل أن بإمكانها خداعي ، قرأت سطور ملأى بحبيبتيه على وجهها ، أَوَ تذهب له لكي يحدثها عنهما .
تجذبه ليحكي عن عمله هي تعلم أنه في أصدق حالاته حين يكون العمل محور حديثه .
ولكنه يعود بها إليهما .
عَرَفتُ كم المعاناة والحزن حين جلست تزين الصفحات البيضاء بحروف أوجاعها ، سالت الدمعات منها جياشة على نهر صفحتها ، اختلطت بحبر الكلمات .
تركتها تبكي .
لم يكن بإمكاني التدخل فيما أرادته أكثر من هذا ، لقد ملّت وضع الصديق الذي يفضي له بكل ما في جعبته .
أرادت لو تسأله هل لك صديقات غيري لأغار منهن مثلما لك محبوبة تحبها وأخرى تحبك ولا يمكنني أن أغار منهما لأني صديقة ؟
إنه يقول وهي تسمع ، إنه يحكي وهي تنصح وتداوي ، ولا يعرف كم أن مداواته تجرحها ، وتؤذيها جل الأذى .
تركت الدمع الغزير ينسال عله يخفف بعض الوجع .
كان هذا الصباح الجميل بلقائه الأليم بكلماته ما سبّب أن يلتاع قلبها ، بدا لو أنه يتلاعب بها وبمشاعرها ،هكذا أحسسته أنا .
اتفقا على لقاء آخر ، وقفت قليلا أمام المرآة تحاول أن تخفي علامات البكاء ، وذلك الوجه المجهد ولم تدر ماذا تفعل ؟
حاولت أن تنتقي ثوبا فجأة كل الأثواب تشابهت .
هل من الممكن أن تلقاه عارية كصورتها هذه في المرآة ؟
إن كل جزء منها يصرخ ، كل قطعة فيها ثائرة تتحدى ؛ أليس هناك من يفض بكارة هذا الجسد الثائر ، يعلق به لا يتركه يكتشف جمال تلك المعزوفة الصائمة الصامتة ؟
لم تفكر يوما في هذا ؛ لماذا الآن ؟!! لماذا هذا الرجل هو من أرادت أن يستبيح حرمة جسدها دون تردد أو خوف ؟
هل لأنها صارت تراه في كل شيء على صفحات الجرائد والكتب أمامها في كل وقت ، كلماته وصورته وصوته ؛ لقد كادت تموت أكثر من مرة وهي تعبر الطريق ، كان أمامها ، فلم تر السيارات التي تعدو أمامها ، باتت كلماته التي يكتبها أمامها على صفحة شاشة الكمبيوتر تشغلها ، تتغنى بها ، وترددها ، صرت أراها تضحك وهي في الشارع تسير وحدها ،أو حتى مع أحد ، لم تعد تسمع ما يقوله الآخرون ، لأنها لا تسمع سواه .
لم تعد تعلق على أي كلام لأن ما تقوله لن يكون إلا ردا على كلماته لا على محدثيها ، جُنت بهواه !
وصلت حيث كان ، تَعَجَّبَها !
بانت له كما لو كانت خارجة للتو من قبرها ، شاحبة باهتة ، مساحيق الوجه عجزت عن إخفاء حالتها ، ولا الدموع التي تلمع رغما عنها في مآقيها ، تلك الابتسامة المصطنعة ، كانت مكشوفة له ، سأل ، لم يلق إجابة ، ألح في السؤال ، لم تجب .
ماذا ستقول له ؟
جلست تستمع له ، جاءته وهي تعلم مسبقا ما سوف يقوله ،لكنها وافقت على اللقاء لتراه ، لتشبع جوعها لمرآه ، لتمزقه بعينيها مرات ومرات كما لو كانت تتخذ له صورا ، بات لديها صورا كثيرة في كل المواضع والحركات تصلح لمعرضٍ لرجل في كافة حالاته .
الآن صار لديها الكثير من الانطباعات عنه ، تعرف شكل ضحكاته العديدات ، أسلوبه في تدخين سجائره ، كان يتلذذ بها وهي بين شفتيه في عناق ملتهب جعلها تتمنى لو أن هذه السيجارة شفتيها .
وكذلك تلك السيجارة المحظوظة بين أصابعه ويده تتحرك بها يمنى ويسرى فيجعلها الهواء تشتعل ويزيد رمادها توهجا ، كما يجعلها مرآه في توهج مستمر .
آه أيها العشق المأفون ! لم تكن تتخيل أنه سيكون لرجل ما مثل هذا التأثير عليها .
يده الأخرى الممدودة على المنضدة في سكون لماذا هي ساكنة ؟
لماذا لا تمتد ليدها تحتضنها ، أو حتى تسير بهدوء فوق وجنتها وملامح وجهها .
لم يكن ما تعاني من وجهة نظري غير شبق محموم ، ورغبة آسرة فشلت في أن تحكمها .
صارحتها بمكنوني هذا ، تعجبت وقالت : وما فيها لو رغبته ، ولكن لماذا لم تسألي نفسك لماذا هذا الرجل دون غيره ؟! لقد مَرّ عليِّ عشرات الرجال لم يحرك فيّ أحدهم قيد أنملة ، أليس سؤالا ؟!!
شعرت لا أنكر بأنها على حق ؛ لقد كنت معها في كل حياتها ، وفي كل ما مر بها ، لم تُجن إلا في هذه المرة .
(4 )
في هذه الأثناء عرض عليها العمل ، بالإذاعة المصرية لتقدم برنامجا أدبيا في البرنامج العام ، فرحت به كثيرا ، وفرحت أنا أيضا بذلك ، اعتقدت أنها سوف تنشغل عنه بكم الأعمال التي تقوم بها ، فإذا بها تصدمني .
قلصت ساعات نومها ، ضغطت كل شيء حتى تجد وقتا له ولمحبوبتيه ، ثرت عليها اشد الثورة ، واجهتها بضعفها وبعجزها حتى أن تشده إليها بعد كل تلك اللقاءات والأحاديث ، كيف لكاتبة مثلها لم تجد للآن طريقة تجعله يهواها وهي التي تختلق حيوات أبطالها ؟
يا الله . وقفت أمامي صامتة لا تقاومني ، ولا ترد ثورتي ، وكلما رأيت صمتها زاد ألمي ووجعي وزاد حنقي عليها ، هي ليست بهذا الضعف أعرفها ، أنا أكثر من يعرفها .
الكثير والكثير من الكلام قلته ، حتى لم يعد لدي أي كلام .
وبعد أن انتهيت وقفت ألتقط أنفاسي اللاهثة فسمعتها تقول : أحبه .
زلزلتني ، وددت لو احتويتها في حضني ، أو واريتها بعيداً عن كل هذا ، عن الحزن المرسوم على وجهها، الساكن قلبها ، بات عليها أن تتحمله ، وتتحملني أنا العبء الأكبر في حياتها ، أنا هي .
مرضت ، سكنت سريرها بهذا الهوى المجنون المسيطر على كل جوارحها ، أنا السبب ، ضغط عليها فلم تحتمل ، سقطت مني دون أن أدري ، ليتني ترفقت بها ، ليتني مددت يد المساعدة بدلا من تلك الثورة التي لم تحقق شيئا من أهدافها .
كانت تهذي باسمه ، ولا سواي من يفهم ويفسر تلك الحروف التي تنطقها بغير هدى ، محمومة به ومنه .
جاء يزورها ، هي وحدها في المنزل ، حين مرضت حضرت واحدة من صديقاتها ، لتعيش معها تلك الفترة حتى تسترد صحتها .
مثلها مجنونة كاتبة سيناريو ومخرجة تعشق كل ما يتعلق بالفن وكل ما يمس السينما تعدو خلفه .
كم كتبت وشاركتها صديقاتها في تحويل أعمالها لسيناريوهات ، تتنغامان على ذات الوتر، رأسيهما كما لو كانتا خلقا ليندمجا أو يتحدا ، على الرغم من الاختلاف الشديد بينهما كل منهما تمثل امرأة مختلفة .
كاتبة السيناريو (هَنَا ) ما هي إلا امرأة عجنتها التجارب والخبرات ، تنقلت في دروب الحياة ، حملتها بين الكثير والكثير ، عرفت وأدركت الناس مبكرا ، عكسها هي فهي لم تخبر أي شيء ، لم تجرب أي شيء ، كل ما في حياتها مجرد سماع للآخرين أما هي وتجاربها هي ، لم يكن .
كانت ( هنا ) تخشى عليها مثلما أخشى أنا عليها ، كثيرا ما رددت أنها تهاب أن تقع في الحب ، فمثلها الذي بلا خبرات ، يسقط فريسة وضحية ، وحين يحب ، يحب بجنون .
وهذا ما حدث ، وفشلت أنا و(هنا) في جعلها ترتجع ، وها هي مريضة ، وقد جاء يعودها .
استقبلته (هنا ) ، رحبت به ، استأذنته قليلا قبل أن تعود .
عادت وهي تقول : رضوى في انتظارك تفضل .
كانت رضوى مختلفة عن تلك التي يعرفها ، بانت كما لو كانت في النزع الأخير ، تودع حياتها ، جلس أمامها ، تاهت منه الكلمات لم يعرف ماذا يقول ؟
حاولت هي الابتسام لم تستطع فقدت كل قواها .
الطبيب أخبر( هنا ) أنها غير راغبة بالشفاء ، مدت (هنا ) له يدها بكوب العصير أخذه منها ويده ترتعد ، فهو لم يصدق ما يرى وحين أخبرته (هنا ) في التليفون لم يكن يعتقد أنَّ حالتها بهذا السوء .
بدا وجهها المبتسم ابتسامة شاحبة كالموتى ، وانسحبت هي بهدوء لتدخل في عالم بعيد ، أرغمتها عليه الحمى .
عادت لهذيانها ، لم يتفهم ماذا تقول ، الحروف متداخلة ، والأسماء ضائعة .
خرج من الحجرة وهو لا يصدق أهذه صديقته التي يعرفها ، التي شاركته حزنه وفرحه ؟! أهذه رضوى التي تشع أملا وحبا وحنانا ؟!
قال ( لهنا ) : أنا لا أصدق أنها مريضة لهذه الدرجة ، أنا لأول مرة اشعر أني بلا مخلوق في الدنيا ، منذ عرفتها وأنا منها أستمد قوتي وحياتي ، منذ عرفتها والدنيا صار لها طعما آخر غير الذي أعرفه .
- هكذا هي تحمل كل من تعرفهم في طياتها ، وتعطي دون أن تنتظر ماذا تأخذ .
- لم تفكر يوما أن تشركني وجعها وآلامها رغم أني كثيرا ما حاولت ، إلا أنها كانت تجبرني على أن أحكي لها وتساعدني وتلقي لي بالحلول وقفت إلى جواري كثيرا ، وأنا لم أتكبد يوما مشقة أن اضغط عليها لأشاركها متاعبها .
- هي دائما لا تنتظر من أحد أن يشاركها متاعبها .
- أنا أريدها أن تشفى أن تعود .
منذ تلك اللحظة وهو لم يفارق المنزل إلا في أوقات متأخرة بعد أن يتأكد أنها نامت ، استحلفها بالكثير لتستجيب للعلاج ، لتعود له ، حياته بدونها لا طعم لها .
هكذا أخبرها .
رغبته الأكيدة ، جعلتها تستجيب بعض الشيء ، لكنه حين أمسك بكفها بين يديه يستحلفها أن تتمسك بالحياة ، ردت الروح إليها وتدفق الدم في وجهها وجسدها ، عاد لون الحياة لبدنها المتعب .
لحظتها قال : اليوم أنا عدت مرة أخرى للحياة .
بعد أنْ استردت صحتها ، عادت لعملها ، وعاد لعمله .
إلا أن البيت الذي كان عامرا به و (بهنا ) عاد يخلو إلا منها ، ولكنها أخذت عهدا على نفسها ألا تنتظر منه أي شيء وأن وجوده بجوارها كان عرفان منه بصداقتها وما قدمته له .
فهي التي كانت إلى جواره حتى انسحب المخدر من جسده ، تحملت قلقه وعصبيته وكل شيء ، حتى نسى هاتين الفتاتين ، اللتان كادتا تدمرا حياته وحياتها .
حتى جاء يوم وقد وجدته اتصل بها حدد موعدا ليلقاها ووافقت بعد إلحاح منه .
لي يومان أستعد للقائه .
تطلعت لوجهي في المرآة وجدت فتاة غيري ، لم أكن أعرفها ،وجه أكثر بهاء وإشراق ، عينان لامعتان ، شفاه تكاد تصرخ من توهجها ، لم يعد وجهي باهتا ولم تعد عيوني ذابلة ، لم تعد لامرأتي القديمة أي وجود يذكر .
لم أعرفني .
لا ضير إنْ كنت أتكلم وأبوح بمشاعري لمَ أكتمها وأخفيها انتظارا له حتى ينطق أولا ، ليس مهما أن ينطق المهم أن أنطق أنا للمرة الأولى وأصرخ وأنادي وأقول أنا ..................... أحب .
يا له من شعور ، ويا لها من أحاسيس تلك التي تغمرني حين أسمع صوته ، وحين أنطق باسمه ، وحين أتغنى بأغنية تذكرني به .
( كل الناس حلوين في عينية حلوين طول ما عينية شايفة الدنيا وإنت قصاد عيني ) .
( الله يا ست قولي كمان ، غني لي كمان وكمان ) .
عدت بذاكرتي للوراء رغم أني لا أريد تذكر ما كنت عليه ولكني عدت حتى أراني من قبل ، وما أنا عليه لأعرف النعمة التي آلت لها حياتي .
- لم يقل أنه يحبك .
- ليس مهما المهم أني أحبه .
أعرف أنه لازال يبكي على أطلالِ ماضٍ ولى ، أليس هو القائل :
يا طفلتي ..
أنت التي ..
علمتِني فنَ الهوى ..
وجعلت ناركِ جنتي
يا حلوتي ..
يا أجمل ما رأت عيناي ..
يا غدي الحلو الفتي
الصبُ تفضحُه عيونُه وأنا ..
كل الجوارحِ تستبيحُ فضيحتي
أعلم هذا ، لازال يعتبرها غده ، لازالت جوارحه تشتاق لها .
ولكني أعلم أنه سينسى وسيدخل جنتي ، أعلم حتى وإنْ لَمْ يأتْ ؛ كفى ما أحس به لأعيش ملكة متوجة .
- ملكة بلا مَلك أو حتى مُلك .
- يكفيني مُلكي الذي بنيته ولو في الخيال .
إلا أني أتناسى مُلكي وعرشي فأنا الآن طفلة أحبو في الغرام ، صوت الحبيب يورد وجنتي خجلا ، وأنا الجريئة المقدامة ، أقف في المحافل وأتكلم ولا أخشى أحدا ، فإذا بصوتي الجهوري في حضوره همسا وإذا بالقلب الجريء في حضرته طفلا .
لا أبالغ إن قلت أني أسعد بطفولتي هذه ، وبشخصيتي الجديدة .
فأنا للمرة الأولى لا أجدني مسئولة هذه المرة أنا أسعد الناس بكوني منقادة لا قائدة .
- الناس قد تأخذ عليك هيامك بمن لا يحسك ولا بك يشعر ، بل ويحب سواك .
- وما دخل الناس بغرامي ؟ أنا وحدي مَنْ أحمل على عاتقي مسئولية هواي ، وأنا التي تعرف منذ البداية أنه لم يعدني بشيء ، أنا التي وقعت في غرامه .
تراهم كانوا معي وأنا أتقلب على جمر وحدتي ، وأنا أرى قلبي الفَتيّ يشيب قبل أوانه ، وأنا أراني أذبل يوما بعد آخر.
كانوا أين و المرار يملأ فمي وغصة حلقي لا تنتهي .
اتركوني اليوم بسعادتي والحمد لله أني لست بملكةٍ حقيقية ، ولست الملك ادوارد الذي تنازل عن عرشه من أجل مسز سبمسون .
أنا ملكة على عرش خيالي ، ورعاياي تحت إمرتي ما آمرهم به يفعلونه دون نقاش ، ديكتاتورية في حكمي ، ولكني أَمَةٌ في هواه ، تُراه يأمرني ؟
آه لو أمرني ! في تلك اللحظة سأختبر شعوري بكوني أمة ، جارية في محرابه ، لازال يعاملني من بعيد .
لو اقترب حقا لتركت له زمام الأمور ، سأتعلق بذراعه وأتحامل عليه ، سأترك نفسي يحملها مركب الهوى ، لتتهادى على موجه الرائق ، وأنسى معها من أكون .
إلا حقا من أنا ؟!!
هل أُعّرفَ نفسي قبله ؟ أم بعده ؟
أنا صرت امرأتين لكل منهما تعريف مستقل .
هل أعرفني ؟!!
سؤال يتردد في داخلي ، من أنا ؟
أنا التي في الحياة وريقة على شجرة تعاني خريفاً دائماً ، يوم تساقطت حملها الهواء من مرفأ إلى مرفأ ولم تستقر .
أنا دمعة متحجرة في مآقي لم تعرف غير الأحزان طريقا .
هذا أنا قبلا .
بعده .
لا داعي أن أجيب فدع تلك الدمعة الفرحة التي تحفر وجنتي برفق وهوادة تخبرك ، دع انطلاقي يقول من أنا ؟
اتركوني الآن ولا أسئلة ، دعوني استعد للقائه .
(2)
كانت تلك البداية بدايتها معه ، بداية نسجت حروفها حرفا ... حرفا بإبرة رفيعة جدا أرهقتها أيما إرهاق .
استطاعت انتزاعه من براثن حب كان عليه مسيطرا رغم أنه كان عنه بعيدا ، حبا توارى مع الأيام ومع الزمن إلا أنه يسكنه .
أيسكنه لأنه أراده ؟! أم لأنه لا يود الحياة بلا شيء يشغله ؟
لم يشغلها انشغاله بغيرها ، كل ما همها أن تنتزعه من الوهم ليدخل معها في وهمها .
كل التحذيرات باتت بلا معنى أمام العشق الرابض داخلها له .
عشق !!! أي عشق ؟!
هل بحق كانت عاشقة ؟
لا أعرف لماذا اعتبرتها واهمة .
منذ هذه اللقاءات الأولى وأنا أراها واهمة ، بت أرقبها من بعيد أرى تطورات اللعبة التي دخلتها وأدخلتني معها فيها ، وكيف لا أدخل ؟!
كانت على مشارف الثلاثين حين التقته للمرة الأولى .
المرة الأولى لهذه الكلمة سحر غريب ؛ دائما هناك مرة أولى ، لابد من بداية لكل شيء ليس هناك نهايات بلا بدايات .
المرة الأولى تلك التي وقعت عينيها عليه ، بادرها التحية وجلست إليه في صحبة أغلبهم كانوا يلتقون للمرة الأولى .
مرة أخرى المرة الأولى .
أصدقاء اتفقوا على اللقاء صحبوا معهم بعض أصحابهم كان غريبا عن الناس ،وكانت هي كذلك ، أقحمتها صديقتها وسط جمع لا تعرفه وكان بينهم لا يعرف غير صديقه الذي أتى معه .
انسحبا بالكلام بعيدا تضافرت مواضيعهما ، تناثرت الضحكات ، تعانقت العيون أو ظنت أنه بادلها العناق .
لحظة صمت تأملته فيها ـ انتبهت لعينيها التي مزقته تمزيقا فشعرت بالخجل ـ كان عن وجهها بعيدا ليلتفت فتصدمه بوجهها المشع احمرارا ، إلا أنه صمت ولم يتكلم .
لم تعطه الفرصة ليسأل ، بادرته بسؤال من أسئلتها كانت لعبتهما الأوراق والأقلام .
يتخذون منها أكثر من تسلية ، اطلع على كتابها فر بعضاً من صفحاته ، انطلق على الكلمات بعين نارية مترصدة ، عدا على الحروف والعبارات عدوا ، توقف لدى بعض العبارات سألها : أتحبين ؟
باغتتها المباشرة .
فأعاد تكرار السؤال ونظر لها نظرة متعجبة فهي بدت كمن تبحث عن إجابة .
بادرته بجملة قرأتها في رواية أحلام مستغانمي ذاكرة الجسد نحن نكتب الروايات لنقتل الأشخاص الذين أصبح وجودهم عبئا علينا نحن نكتبهم لننتهي منهم .
- إذاً كان هناك ثم مضى ؟
- لا أستطيع القول بأنه كان حبا ، قل أنه كان وهما ثم مضى .
تمنت لو قال مثل بطل أحلام : يا قاتلة ، إلا أنه لم يقل .
في تلك اللحظة فقط أدركت أنها لا تود قتله ، إنها تبغي حياته واقتناصه لنفسها ، عاجلته بمثل سؤاله .
لعن الحب ، ويوم أحب ويوم تلقى الطعنة الأولى .
- أخذها من يملك مالا وسلطة .
- نفيت واستوطن الأغراب في بلدي .
- نحن الغرباء .
قالها مع زفرة أوجعتها ، خرجت محملة بآهة عشق مأفون لامرأة باعت هوى سنين وسنين .
وَجَدَته كمن عاش يبني صرحا وحده طوبة ....... طوبة يحملها على كتفه ، حتى صار بناءه كاملا فإذا بآخر يهدمه مرة واحدة فهذا ليس عصر المعاول وإنما عصر البلدوزرات .
غيّر الموضوع في ثوان معدودة انطلقا للحديث عن عمله وحين تطرقا لعمله الصحفي نسى كل شيء ، بات به حزن آخر حزن مشمول بالقهر على مستقبل بلد بأكمله يسير نحو هاوية سحيقة ، ومستقبل وطن شاسع يضيع تحت أحكام حكامه الديكتاتورية من جهة ،والسطوة الأمريكية من جهة أخرى ، صار كمحارب متخذا من قلمه سيفا .
وبدا كتلة من الحزن الدائم ، الذي هو من الصعب جعل صاحبه يشعر بالفرح ، غابت في عينيه الحزينتين .
الوقت مر معه كما لو أنه نسمة عبرت مست وجهها ومضت مسرعة .
الانترنت والحديث اليومي عادة لا يقطعها إلا رغبتها الأكيدة في النوم فهو يدخل في أوقات متأخرة ، استسلمت لموعده رغم أنه يرهقها ، صارت تعد اللحظات حتى تلقاه عبر الشبكة الالكترونية .
لكنه أبدا لم يصرح لم يقل أي شيء إنه يباغتها بأحداث هوى تملأ حياته ، يسير بمنطق داوني بالتي كانت هي الداء ، وفي كل مرة يفشل الأمر ،ويخرج بوجع بالقلب .
- أواه يا قلب لم كل صبر السنين يذوب أمام هذا الرجل بالذات ؟ هكذا ظلت تردد منذ عرفته .
أعقاب على ذنب اقترفته ؟ أم على كل الذنوب التي اقترفتها على طول عمرها وعرضه ؟ في سنواتها الثلاثين أجمعين .
( 3 )
كل يوم تتكشفه أكثر إنه يفتح لها طريقا شاسعا لحبه ، بالرغم من أنه يحدثها عن نفسه ، عن محبوبتيه ، لا يدري أنه يمسك سكينا بها يطعنها طعنات قاتلة ، تنفذ شيئا فشيئا إلى قلبها .
لكم أشفقت عليها وهو يقول أنها تجري في دمه ـ حبيبته الأولى ـ أغمضت عينيها وضغطت على حروف لوحة المفاتيح بكلتا يديها .
هي في موضع الصديق الذي يلقي ما في جعبته معه ليس إلا .
هي تعلم لا يجب أن تتذمر .
لا أنكر وجعي من أجلها ، رغم أنها تنكر وجودي ، وتقحمني معها في كل شيء .
الغد . بماذا سوف يأتي ؟ كل ليلة أراها تتقلب في فراشها ، كما لو كانت في قلب الصحراء تفترش رمالها في نهار شديد الحرارة .
استيقظت ذات يوم تنادي باسمه .
لحظتها بكيت عليها ، وقفت أمامها أنهرها ، حالها أوجعني ، أَبكَى دمعي العزيز ، إن هذه المساحيق التي تزين بها وجهها كما المشارط تجرح وجنتيها وتدعي أنها تواري بها بعض شحوبها .
لم تعد هي .
تدعي أنها صارت امرأة جديدة ، هي فعلا كذلك ، إلا أنها امرأة خلقت العذاب لنفسها .
ذهبت للقائه .
عادت ترسم البسمة على وجهها .
تتخيل أن بإمكانها خداعي ، قرأت سطور ملأى بحبيبتيه على وجهها ، أَوَ تذهب له لكي يحدثها عنهما .
تجذبه ليحكي عن عمله هي تعلم أنه في أصدق حالاته حين يكون العمل محور حديثه .
ولكنه يعود بها إليهما .
عَرَفتُ كم المعاناة والحزن حين جلست تزين الصفحات البيضاء بحروف أوجاعها ، سالت الدمعات منها جياشة على نهر صفحتها ، اختلطت بحبر الكلمات .
تركتها تبكي .
لم يكن بإمكاني التدخل فيما أرادته أكثر من هذا ، لقد ملّت وضع الصديق الذي يفضي له بكل ما في جعبته .
أرادت لو تسأله هل لك صديقات غيري لأغار منهن مثلما لك محبوبة تحبها وأخرى تحبك ولا يمكنني أن أغار منهما لأني صديقة ؟
إنه يقول وهي تسمع ، إنه يحكي وهي تنصح وتداوي ، ولا يعرف كم أن مداواته تجرحها ، وتؤذيها جل الأذى .
تركت الدمع الغزير ينسال عله يخفف بعض الوجع .
كان هذا الصباح الجميل بلقائه الأليم بكلماته ما سبّب أن يلتاع قلبها ، بدا لو أنه يتلاعب بها وبمشاعرها ،هكذا أحسسته أنا .
اتفقا على لقاء آخر ، وقفت قليلا أمام المرآة تحاول أن تخفي علامات البكاء ، وذلك الوجه المجهد ولم تدر ماذا تفعل ؟
حاولت أن تنتقي ثوبا فجأة كل الأثواب تشابهت .
هل من الممكن أن تلقاه عارية كصورتها هذه في المرآة ؟
إن كل جزء منها يصرخ ، كل قطعة فيها ثائرة تتحدى ؛ أليس هناك من يفض بكارة هذا الجسد الثائر ، يعلق به لا يتركه يكتشف جمال تلك المعزوفة الصائمة الصامتة ؟
لم تفكر يوما في هذا ؛ لماذا الآن ؟!! لماذا هذا الرجل هو من أرادت أن يستبيح حرمة جسدها دون تردد أو خوف ؟
هل لأنها صارت تراه في كل شيء على صفحات الجرائد والكتب أمامها في كل وقت ، كلماته وصورته وصوته ؛ لقد كادت تموت أكثر من مرة وهي تعبر الطريق ، كان أمامها ، فلم تر السيارات التي تعدو أمامها ، باتت كلماته التي يكتبها أمامها على صفحة شاشة الكمبيوتر تشغلها ، تتغنى بها ، وترددها ، صرت أراها تضحك وهي في الشارع تسير وحدها ،أو حتى مع أحد ، لم تعد تسمع ما يقوله الآخرون ، لأنها لا تسمع سواه .
لم تعد تعلق على أي كلام لأن ما تقوله لن يكون إلا ردا على كلماته لا على محدثيها ، جُنت بهواه !
وصلت حيث كان ، تَعَجَّبَها !
بانت له كما لو كانت خارجة للتو من قبرها ، شاحبة باهتة ، مساحيق الوجه عجزت عن إخفاء حالتها ، ولا الدموع التي تلمع رغما عنها في مآقيها ، تلك الابتسامة المصطنعة ، كانت مكشوفة له ، سأل ، لم يلق إجابة ، ألح في السؤال ، لم تجب .
ماذا ستقول له ؟
جلست تستمع له ، جاءته وهي تعلم مسبقا ما سوف يقوله ،لكنها وافقت على اللقاء لتراه ، لتشبع جوعها لمرآه ، لتمزقه بعينيها مرات ومرات كما لو كانت تتخذ له صورا ، بات لديها صورا كثيرة في كل المواضع والحركات تصلح لمعرضٍ لرجل في كافة حالاته .
الآن صار لديها الكثير من الانطباعات عنه ، تعرف شكل ضحكاته العديدات ، أسلوبه في تدخين سجائره ، كان يتلذذ بها وهي بين شفتيه في عناق ملتهب جعلها تتمنى لو أن هذه السيجارة شفتيها .
وكذلك تلك السيجارة المحظوظة بين أصابعه ويده تتحرك بها يمنى ويسرى فيجعلها الهواء تشتعل ويزيد رمادها توهجا ، كما يجعلها مرآه في توهج مستمر .
آه أيها العشق المأفون ! لم تكن تتخيل أنه سيكون لرجل ما مثل هذا التأثير عليها .
يده الأخرى الممدودة على المنضدة في سكون لماذا هي ساكنة ؟
لماذا لا تمتد ليدها تحتضنها ، أو حتى تسير بهدوء فوق وجنتها وملامح وجهها .
لم يكن ما تعاني من وجهة نظري غير شبق محموم ، ورغبة آسرة فشلت في أن تحكمها .
صارحتها بمكنوني هذا ، تعجبت وقالت : وما فيها لو رغبته ، ولكن لماذا لم تسألي نفسك لماذا هذا الرجل دون غيره ؟! لقد مَرّ عليِّ عشرات الرجال لم يحرك فيّ أحدهم قيد أنملة ، أليس سؤالا ؟!!
شعرت لا أنكر بأنها على حق ؛ لقد كنت معها في كل حياتها ، وفي كل ما مر بها ، لم تُجن إلا في هذه المرة .
(4 )
في هذه الأثناء عرض عليها العمل ، بالإذاعة المصرية لتقدم برنامجا أدبيا في البرنامج العام ، فرحت به كثيرا ، وفرحت أنا أيضا بذلك ، اعتقدت أنها سوف تنشغل عنه بكم الأعمال التي تقوم بها ، فإذا بها تصدمني .
قلصت ساعات نومها ، ضغطت كل شيء حتى تجد وقتا له ولمحبوبتيه ، ثرت عليها اشد الثورة ، واجهتها بضعفها وبعجزها حتى أن تشده إليها بعد كل تلك اللقاءات والأحاديث ، كيف لكاتبة مثلها لم تجد للآن طريقة تجعله يهواها وهي التي تختلق حيوات أبطالها ؟
يا الله . وقفت أمامي صامتة لا تقاومني ، ولا ترد ثورتي ، وكلما رأيت صمتها زاد ألمي ووجعي وزاد حنقي عليها ، هي ليست بهذا الضعف أعرفها ، أنا أكثر من يعرفها .
الكثير والكثير من الكلام قلته ، حتى لم يعد لدي أي كلام .
وبعد أن انتهيت وقفت ألتقط أنفاسي اللاهثة فسمعتها تقول : أحبه .
زلزلتني ، وددت لو احتويتها في حضني ، أو واريتها بعيداً عن كل هذا ، عن الحزن المرسوم على وجهها، الساكن قلبها ، بات عليها أن تتحمله ، وتتحملني أنا العبء الأكبر في حياتها ، أنا هي .
مرضت ، سكنت سريرها بهذا الهوى المجنون المسيطر على كل جوارحها ، أنا السبب ، ضغط عليها فلم تحتمل ، سقطت مني دون أن أدري ، ليتني ترفقت بها ، ليتني مددت يد المساعدة بدلا من تلك الثورة التي لم تحقق شيئا من أهدافها .
كانت تهذي باسمه ، ولا سواي من يفهم ويفسر تلك الحروف التي تنطقها بغير هدى ، محمومة به ومنه .
جاء يزورها ، هي وحدها في المنزل ، حين مرضت حضرت واحدة من صديقاتها ، لتعيش معها تلك الفترة حتى تسترد صحتها .
مثلها مجنونة كاتبة سيناريو ومخرجة تعشق كل ما يتعلق بالفن وكل ما يمس السينما تعدو خلفه .
كم كتبت وشاركتها صديقاتها في تحويل أعمالها لسيناريوهات ، تتنغامان على ذات الوتر، رأسيهما كما لو كانتا خلقا ليندمجا أو يتحدا ، على الرغم من الاختلاف الشديد بينهما كل منهما تمثل امرأة مختلفة .
كاتبة السيناريو (هَنَا ) ما هي إلا امرأة عجنتها التجارب والخبرات ، تنقلت في دروب الحياة ، حملتها بين الكثير والكثير ، عرفت وأدركت الناس مبكرا ، عكسها هي فهي لم تخبر أي شيء ، لم تجرب أي شيء ، كل ما في حياتها مجرد سماع للآخرين أما هي وتجاربها هي ، لم يكن .
كانت ( هنا ) تخشى عليها مثلما أخشى أنا عليها ، كثيرا ما رددت أنها تهاب أن تقع في الحب ، فمثلها الذي بلا خبرات ، يسقط فريسة وضحية ، وحين يحب ، يحب بجنون .
وهذا ما حدث ، وفشلت أنا و(هنا) في جعلها ترتجع ، وها هي مريضة ، وقد جاء يعودها .
استقبلته (هنا ) ، رحبت به ، استأذنته قليلا قبل أن تعود .
عادت وهي تقول : رضوى في انتظارك تفضل .
كانت رضوى مختلفة عن تلك التي يعرفها ، بانت كما لو كانت في النزع الأخير ، تودع حياتها ، جلس أمامها ، تاهت منه الكلمات لم يعرف ماذا يقول ؟
حاولت هي الابتسام لم تستطع فقدت كل قواها .
الطبيب أخبر( هنا ) أنها غير راغبة بالشفاء ، مدت (هنا ) له يدها بكوب العصير أخذه منها ويده ترتعد ، فهو لم يصدق ما يرى وحين أخبرته (هنا ) في التليفون لم يكن يعتقد أنَّ حالتها بهذا السوء .
بدا وجهها المبتسم ابتسامة شاحبة كالموتى ، وانسحبت هي بهدوء لتدخل في عالم بعيد ، أرغمتها عليه الحمى .
عادت لهذيانها ، لم يتفهم ماذا تقول ، الحروف متداخلة ، والأسماء ضائعة .
خرج من الحجرة وهو لا يصدق أهذه صديقته التي يعرفها ، التي شاركته حزنه وفرحه ؟! أهذه رضوى التي تشع أملا وحبا وحنانا ؟!
قال ( لهنا ) : أنا لا أصدق أنها مريضة لهذه الدرجة ، أنا لأول مرة اشعر أني بلا مخلوق في الدنيا ، منذ عرفتها وأنا منها أستمد قوتي وحياتي ، منذ عرفتها والدنيا صار لها طعما آخر غير الذي أعرفه .
- هكذا هي تحمل كل من تعرفهم في طياتها ، وتعطي دون أن تنتظر ماذا تأخذ .
- لم تفكر يوما أن تشركني وجعها وآلامها رغم أني كثيرا ما حاولت ، إلا أنها كانت تجبرني على أن أحكي لها وتساعدني وتلقي لي بالحلول وقفت إلى جواري كثيرا ، وأنا لم أتكبد يوما مشقة أن اضغط عليها لأشاركها متاعبها .
- هي دائما لا تنتظر من أحد أن يشاركها متاعبها .
- أنا أريدها أن تشفى أن تعود .
منذ تلك اللحظة وهو لم يفارق المنزل إلا في أوقات متأخرة بعد أن يتأكد أنها نامت ، استحلفها بالكثير لتستجيب للعلاج ، لتعود له ، حياته بدونها لا طعم لها .
هكذا أخبرها .
رغبته الأكيدة ، جعلتها تستجيب بعض الشيء ، لكنه حين أمسك بكفها بين يديه يستحلفها أن تتمسك بالحياة ، ردت الروح إليها وتدفق الدم في وجهها وجسدها ، عاد لون الحياة لبدنها المتعب .
لحظتها قال : اليوم أنا عدت مرة أخرى للحياة .
بعد أنْ استردت صحتها ، عادت لعملها ، وعاد لعمله .
إلا أن البيت الذي كان عامرا به و (بهنا ) عاد يخلو إلا منها ، ولكنها أخذت عهدا على نفسها ألا تنتظر منه أي شيء وأن وجوده بجوارها كان عرفان منه بصداقتها وما قدمته له .
فهي التي كانت إلى جواره حتى انسحب المخدر من جسده ، تحملت قلقه وعصبيته وكل شيء ، حتى نسى هاتين الفتاتين ، اللتان كادتا تدمرا حياته وحياتها .
حتى جاء يوم وقد وجدته اتصل بها حدد موعدا ليلقاها ووافقت بعد إلحاح منه .
( 5 )
السماء لا تمطر ذهبا ولا فضة هكذا تعودنا ، لن تعطيني السماء ما طلبت لمجرد أنني طلبت ، وما نحصل عليه بلا تعب وجهد يضيع كما جاء بلا تعب أو جهد .
هكذا افتتحت حديثها معي .
صارت دائما تبحث عن مقدمات لتبدأ بها الحديث معي في أي موضوع بعد أحداثنا الأخيرة، لأن أي موضوع يقودنا في النهاية إليه وهي تعرف وتدرك موقفي ، كلما وقفت أمامي وواجهتني تهرب مني بكلمات وحجج واهية .
ما أود قوله أنها استطاعت أن تحصل عليه ، تلك المجنونة المأفونة فعلت المستحيل لتناله ، احتوت كل ما بداخله من صراعات وآهات ، تحملت خروج المخدر من جسده شيئا فشيئا ، ونوبات صراعه مع المرض المدعو الحب ، وغضبه المستمر الدائم ليسقط صريعا في هواها وحضنها المفتوح ، وإن كنت أشعر أنه امتنان ليس إلا ؛ سيفيق منه ، حتى بعد أن وقف إلى جوارها في محنة مرضها التي جعلته يكتشف أهميتها في حياته .
غضبت مني أشد الغضب ، عنفتني بشدة أربكتني ، جعلتني أشك في إحساسي الذي ما خاب يوما .
وملأني الشك ، وتصاعد السؤال الوحيد في رأسي هل أخطأت ؟ هل كانت هي على حق وأنا ......... المخطئة ؟
بمجرد أن نطق بحبها وأعلن هواه ، لحظة أن قال أحبك .
انتفضت ........ ارتعدت ....... ضحكت ....... بكت ......... رقصت ...... صرخت .
كل هذا في ذات الوقت .
قالت لي أنها به حققت أكبر انتصاراتها ، فرحتها به تفوق فرحتها بأول وليد صدر لها ، فرحة تفوق كل أفراحها جميعا ، هذا لو حسبت كل لحظات فرحها .
كانت تظن أنه لا فرحة تعادل فرحة صدور كتاب لها ، إلا أن فرحتها به غير كل هذا .
فرحة لو لم تحسها لعاشت نادمة بقية عمرها عليها ، لو ماتت الآن لن تموت نادمة لأنها افتقدت هذا الشعور في حياتها .
لحظتها وجدتها تسجد لله ؛ سجدت بخشوع لم أره مطلقا شكرته ، وحمدته ، والدموع تملأ كل وجهها ، غسلت بدمعها كل حزن الماضي ، كل ألم كفاحها للحصول عليه .
وفي غمضة عين اختفى ذلك الشحوب ، واحتل الجمال مرة أخرى مكانه متربعا على عرشه الذي سلبه الشحوب منه لفترة لم تكن قليلة .
لزم عليكم أن تروها ، أي كلام قد أكتبه و تقرؤونه لن يكون غير ذرة صغيرة فيما حدث لها ، لقد صارت امرأة جديدة .
(6)
بدت الساعات التي تقضيها بعيدا عنه كما النار تستعر داخلها ، رأيت في عينيه هوى إلا أنني لم أعتبره يوما حبا حقيقي ، مهما بدا من وده وتعلقه بها ، هاجسا داخلي يعوق اندماجي معه ، هي لا تصدقني ، ولا تستمع إليِّ منذ أن ارتدت خاتم خطبته ، وطوق به إصبعها لم أعد أملكها ، ولم يعد لكلامي أي تأثير عليها .
كنت أنادي في الفراغ ، بات يوسف هو كل شيء ، وأنا لا شيء ، لا أعرف لماذا شعرت بأني بلا وجود منذ أن صار حبيبها ، الدنيا توقفت عند ما يريده يوسف ، وما يحبه يوسف أما أنا ...........
تواريت في الظل ، فأنا الوحيدة التي عليها أن تسمع ، وتصمت دون أن تعلق بأي حرف ، وأية كلمة ، لم تعد لطلباتي لديها صدى ،لا تلبي حتى أي شيء من احتياجاتي طالما أنه بعيدا عن احتياجات ، وطلبات يوسف .
أين شخصيتها ؟!
أين أنا في حياتها ؟!
حاولت ( هنا ) التدخل حينما رأت انسياقها الغريب نحوه ، واندفاعها بكل جوارحها في هواه ، إنها تخشى عليها ، تحاول الحيلولة حتى لا تفقد كيانها .
لقد فقدته فعلا ، سألتها ( هنا ) : منذ متى لم تكتبي ؟ منذ متى لم اقرأ لك جديدا ؟ لماذا فقد برنامجك بريقه ؟
لم تجب ، باتت تعتبرنا أعداءها ، ولكنا أكثر اثنتين في العالم نحبها .
أنا هي .
رغم أني لا أنسى أنها دائما تعاندني ، إنها دائما تذبحني باختياراتها ، كم وقفت أمامي كثيرا ، وحالت دون استمتاعي ، تارة بحجة الفضيلة ، وتارة بحجة الناس ، وتارة بأنها لا تستطيع فعل ما أريد ، وهي الكاتبة التي وقتها لم تكن معروفة .
تهت معها ، ولكني كنت أذوب في قوتها ، في جبروتها ، أحبها امرأة قوية ، عنيفة ، وهي تدافع عن رأيها في حقها في الحياة ، حين تمسك القلم متحدية كل شيء ، كل أحزانها ، وتكتب كنت لحظتها أتوارى بصدق ، واترك شيطان الكتابة يتملكها يحتويها فهو اقدر مني على إخراج أفضل ما فيها .
تلك هي رضوى . أما تلك الجديدة التي تحب ! لا أعرفها ، أنا منها بريئة .
لم أكن أعلم أن هناك من سيخطفها مني ، من ستتوارى في داخله دوني ، بت أكرهه ، لأنه أخذها دون أن يترك لي ولو جزء منها .
صارت لا تتكلم إلا فيما يكتب ، ولا تكتب إلا ما يمس كتاباته ، ضاعت حروفها ، انمحت كلماتها في ذاته .
وقفت أمام المرآة تتزين ، لم تعد بحاجة للزينة الجمال الذي طرأ عليها صار أهم ما فعله حبه معها ، كل شيء فيها تحول للأفضل ، لا أنكر .
وإن أنكرت تكفي كلمات الإطراء التي باتت تسمعها من الجميع ، حتى لأن ما طرأ عليها طرح العديد من التساؤلات ، هي يوما لم تفقد اهتمامها بذاتها ، ولا بمظهرها إلا أن الجمال الذي طفا ، بالإضافة إلى اهتمامها بنفسها ، صارت به أروع .
مر عليها أخذها وخرجا ، أسمعها الكثير من كلمات الغزل ، كان يعرف كيف يعزف على أوتار عقلها ، ويطفئ نارها ، ويروي عطشها .
اعتبرتُه ساحرا ، وكيف لا وقد بدلها بهذا الشكل ؟
وكيف لا وهو الذي خبر كل أنواع النساء ؟
وكيف لا وهو الذي علمته التجارب وسحقته الأيام ؟
لست متجنية عليه ، لكني أريدها ، ومن حقي الدفاع عنها ، والاستماتة في عودتها سالمة دون أية جراح .
ولكن الآن الدخول معه في حرب سأكون وحدي الخاسرة ، أما هو فسينتصر وبسهولة ، وسأخرج أنا من المعركة أجر أذيال الخيبة ، أحمل هزيمة منكرة .
عادت تتراقص الفرحة في عينيها ، تتغنى بأجمل الأغنيات ، لم تكد تصل حجرتها حتى رن هاتفها ، كان هو .
إنه يحاصرها .
- كل هذا الحب !
- نعم . يحبني ، ألا ترين لهفته عليَّ ؟
- بلى ، أرى .
ظلت تتأمل ذاتها في المرآة ، تراجع كل تفاصيلها الدقيقة ، تنظر لما أشاد به وما أطال في وصفه ، جلست إلى مكتبها ، أمسكت الأوراق ، قلبت فيها ، وضعتها وكأن الفكرة التي لاحقتها ذهبت .
أتت بفنجان من القهوة ، احتسته على مهل كعادتها ، قبل انتهائها منه ، كانت قد أمسكت بالقلم .
تنفست الصعداء . ها هي تكتب من جديد ، علها لا تكتبه .
خرجت من تحت يدها أقصوصة عشق باهرة ، رائعة الوصف شديدة الجمال ، لم أكن أتخيل أن تكتب يوما بمثل تلك الروعة حتى هي لم تصدق ، حين انتهت من كتابتها قبيل الفجر ، لم تستطع الصبر .
فكرت فيه ليكون أول من يقرأها ، إلا أنها تراجعت ، اتصلت بـ ( هَنَا ) أيقظتها ، قرأتها عليها عبر الهاتف ، تيقظت كل حواس ( هَنَا ) أصرت أن ترسلها لها فورا .
لم تكن (هَنَا) تدرك أن اندفاع رضوى في هذا الهوى المحموم سوف يخرج منها هذا العمل الرائع ، حتى هو حين قرأه لم يصدق نفسه ، ولم يتخيل أن تكتب هذه القصة الرائعة ، الكلمات كانت تنساب معها كما لو أنها شلال ينهمر بقوة .
أسبوعا وكانت الصحف تحمل في طياتها خبر القصة تناولها الكثير من النقاد بعد نشرها في الصحيفة القومية الأولى .
ومنذ تلك اللحظة ، لم يتوقف قلمها ، بات يكبر ويكبر ، وتكبر هي معه .
(7)
لم تتخل عنه أبدا رغم كل ما صار يشغلها ، وكم الندوات التي حاصرتها لتحضرها ، صارت ضيفة دائمة في الكثير من الصالونات الأدبية ، والندوات .
إلا أنها لم تتركه وحده ، كما حاصرها الناس حاصرته ، كانت تعرف أنه وحده سيضيع منها ، من السهل اختطافه وضياعه ، هي تدرك أنها المرفأ الذي ما إن يتركه حتى يرسو على غيره ، كانت تعلمه جيدا وتدرك تماما ، مأساته ، سيضيع جهد الشهور الماضية ، لو لم تظل له ولحياته محتوية .
كان لابد أن تتواجد في كل أيامه ، وأغلب ساعاته ، كثير من السعادة وهبها إياها ، وكثير من الراحة جعلته يحسها .
كم لمحت نظرات الراحة والسعادة في عينيه ، لوهلة صَدَّقت مدى حبه لها ، إلا أنني كنت ألمحه ناقصا ، هاجسي كلما ارتحت له يعود يهاجمني .
لم يعد يصبر ، صار يلح في إتمام الزواج ، على الرغم من رغبتها الملحة للتواجد معه ، كانت تخشى أن تتزوجه .
- لم أعد أفهمك !
- لماذا ؟
- كل هذا العشق ، والرغبة المحمومة داخلك ، وتتمنعين ؟
- أنا لا أتعجل النهاية .
- ماذا ؟
- سيأتي يوما وتعرفين .
لم أفهم شيئا .
تركت الأيام تفهمني .
انشغلت معها في التحضير للزفاف الميمون ، الحيرة .........الترقب ....... الخوف و..............
مشاعر متضاربة ، اجتاحتها ، رغم مصارحتها بأنها ترغبه ، وتريده ، وبرغم الحب .
هي ككل النساء ، تعود لأمنا حواء تلك الخجلة من المواجهة الأولى ، حين تَكَشّفت العورة ، واشتعلت الرغبة .
زفاف جميل ، وعروسين في أبهى صورهما .
وبيت يغلق دونهما .
وفراش أشعله الحب نارا .
استلقى إلى جوارها يمسح قطرات العرق التي تساقطت من جبهته ، يكابد أنفاسه المتلاحقة وهو يهم بالإمساك بالسيجارة ، معشوقته الأولى ، وإلى جواره هي تبتسم ، نظرت إليه بادلها الابتسام ، ألقت برأسها على كتفه ، ترك سيجارته ، قبَّل رأسها ، احتضنها ثم ذهبا في نوم عميق .
صباحات عشق مستمر على شاطئ الغرام ، أيام معدودات من هذا الزمان اختطفاها ، ليطفئا جذوة الحب الملتهب ، شبق محموم يلفهما ، لا يفيقا من سكرته أبدا .
حين يتوحدا يضيع كل معنى للدنيا كلها ، إلا معنى تلك الحالة التي تجمعهما .
هناك على شاطئ البحر في استقبال الشروق جلست تكتب وتكتب ، كان نائما يغط في نوم عميق ،أما هي فلقد عرفت كيف هو السهر منذ عرفته ، عوضت كل سنوات النوم الذي مضت بها ،لقد نامت ما يكفيها للعمر القادم وعمرا آخر مضاف عليه .
لا تهرب منه إلا إليه ، كانت تلتقيه على الورق ، خلق حبه بداخلها رغبة للكتابة تفوق أي وقت مضى ، إنها الآن تكتب وهي سعيدة ، من قبل كانت لا تكتب إلا تحت ضغط عصبي ، وألم نفسي ، الآن هي في غنى ، إنَّ وجوده إلى جوارها يمنحها كل يوم شعورا متجددا ، ومعنى جديدا يستحق أن تكتب عنه .
في حضنه وجدت المعنى الحقيقي للأمان ، للراحة ، عناق شفاههما تسقط معه كل ألوية المستحيل .
باتت الآن المرأة الخارقة .
ما يحزنني ويوجعني ، أني في داخله قد وارتني ، قد حبستني ، وأمام سعادتها ، وما طرأ عليها من جديد آثرت السكوت والانزواء .
عادا من رحلتهما ، نشاطا متجددا ، قلبان مفتوحان على الحياة ، انكب على مكتبه وأمام جهاز حاسبه يعمل ، كان يلتهم الصفحات ، ما عاد يشرب سجائر كثيرة ، استبدلها بقبلاتها ، فناجين القهوة تتابع ، تصنعها بحب .
احتوته حتى بفوضويته ، تلملم خلفه أشياءه ، ملابسه ، أوراقه ، أشعاره المبعثرة هنا وهناك .
ذات مساء استلقى على السرير وهي تلملم بعض ما بعثر ، رمقها بنظرة غريبة ، بدت لها مختلفة رغم أنه يغلفها بابتسامة ودودة .
- قال لها كأنك أمي .
- حقا . أنت ابني .
لحظتها وخزتني ، أعلم ذلك الوخز إنه شعور بالخطر ، لكن مم الخطر ؟!! لم يقل شيء ولم يحدث أي شيء .
ألم أقل لم أعد أفهمها .
(8)
توهج مشاعرهما ، ساعد على توهج قلميهما ، مقالاته تعددت في صحيفتين ومجلة ، لم يعد يكتب تحت اسم مستعار ، لم يعد خائفا شيء .
الآن وبعد عام من معرفتهما بات اسمه له مكان ومكانة ( يوسف محمد ) ، شهرة جعلته يكتب هنا وهناك ، قبل عام كان صحفيا مجتهدا ، لكنه كان لازال صغيرا يحبو .
هو وهي نقشا اسميهما بقوة ، باتا واضحان بجلاء ، لا يستطيع أحد التنكر لهما ولا تجاهلهما .
الناس من حولها تكاثرت كما النمل ، الغيرة تشتعل في عينيه ، يواريها ، تحسها ، وأحسها ، الناس تحب الحديث في الحب ، عن أحاديث السياسة وقذارتها ، يملك لو أراد الناس من حوله أن يجمعهم ، فقط يفكر في نشر أشعاره الجميلة المفعمة بالجرأة .
إلا أنه يرفض ذلك تماما ، ولولا أنها تلملم قصاصتها خلفه لضاعت ، إنه يتبرأ منه ، من براءته ، من تلك اللحظات التي يكون فيها إنسانا .
قالت له لم تترك فيّ جزء لم تتحدث عنه ، لو نشرته لذابت فيك كل امرأة ، وبات عليِّ أن أغار من كل من تقرأ لك قصيدة ، ستجد كل امرأة نفسها في كلماتك ، في شطحاتك ، في جرأتك وأنت تسير على جسدها برقة لم تعهدها في أقرب الأقربين ، سيغار منك أزواجهن ، وأحبائهن ، ستكون نزارا ثانيا .
كانت و ( هنا ) تسيران في وسط المدينة العامرة الزاخرة ، تتمحور القاهرة في ذلك المكان ، سحره لا ينقضي بعماراته القديمة ومحلاته الكثيرة ، كل شيء فيه ينطق بالحياة ، مرت على محال كثيرة ، كانت تريد طاقما ذو طابع كلاسيكي يصلح لأن تكون به الضيفة الأساسية لندوة مهمة خاصة بكتابها الجديد ، يحضرها نخبة من الأدباء ذائعي الصيت .
منذ أعوام كانت و ( هنا ) تتسكعان في ذات المكان ، يملأهما الأمل في الغد ، يوم أن تصل كلماتهما للناس وأفكارهما يكون لها من يؤمن بها ويرددها ، حَلمتا كثيرا ، وعملتا أكثر ، حتى صار لهما ما أرادتا .
آمنتا بالدنيا فآمنت بهما .
كان مثلهما ذات يوم يقطع و حبيبته ذات المكان وقد تشابكت أيديهما ، يحلمان ، وقد ابتاعا كوبين من الايس كريم ، كانت تأكله في نهم ، بينما هو يرى أيامه تسيل كما يسيل الايس كريم على حواف الكوب ، والغد بعيد عن ناظريه .
كل الأشياء بعيدة ، حتى تلك القبلة التي يختلسها ، ويضعها على وجنتها ،بدت أنها لن يتغير مكانها أبدا ، سيظل عند تلك المرحلة لن يبرحها .
توقفت و ( هنا ) ابتاعا كوبين وقفتا تأكلانه ، طلبت الحليب والفستق ، وطلبت ( هنا ) الفانيليا فقط كما تحب ، قالت لها : يوسف يحبه بالشيكولاتة دائما بالشيكولاتة .
سارتا طويلا لم تعجبهما أية ملابس، اشترت طاقم نوم تركوازي اللون ، كانت تعلم مدى حبه لهذا اللون عليها .
ضحكت ( هنا ) .
- ملعونة الندوات ، ماذا أخذنا منها .
- كنا وجوها دائمة في كل ندوة ، عل أحد يرانا ويقرأ ما نكتب .
- كانت أيام .
عادت . كان في انتظارها ، ولكنه لم يتحدث إليها ، لم يعلق على ما أحضرت معها ، كان يعمل تركته يعمل .
دخلت تجرب طاقم النوم الجديد ، كان رائعا عليها ، خرجت به إليه ، راقه ، لكنه عاد لأوراقه .
هناك شيء ما به قد تغير ، ليس هو ، والغريب أنها لم تغضب منه ، ولم تتعجب تصرفه ، بت في حيرة من أمرهما .
في مساء اليوم التالي كان ضيفا في أحد البرامج الحوارية السياسية حيث يكثر الشجار ، وتتباين الآراء ، ويخرج المرء دون أن يعلم عن ماذا كان هؤلاء القوم يتحدثون ؟!
عاد مثقلا بألم في الرأس ، إنه غير راض عن أي شيء بات يفقد إيمانه بكل شيء ، لولا بقية باقية داخله لفقد إحساسه بقلمه .
في تلك المرة كان عليه أن يتوازن وحده دونها .
هي من قالت لي ذلك .
لم يكن عليها أن تسانده هذه المرة ، إنها لحظة فارقة في حياته ، يجب أن يختار وحده لا تختار هي ، إنه من يجب عليه أن يحدد ماذا يريد ؟
لقد وصل إلى ما أراد ، بجهد وكفاح وعمل ، عليه الآن أن يحدد ، أيكون من يعتلي المناصب ؟ أم سيظل قلما حر ؟!
كانت تحسه وهو يتململ في فراشه ، يتقلب على جمر أفكاره .
استندت إلى ظهر السرير وقد جفاها النوم لسهده وأرقه .
نادته ، لم يرد .
- أعرف أنك لم تزل متيقظا ؟
- ماذا تريدين ؟
- أريدك .
- نامي الآن .
- لن أنام قبل أن تختار ، ليس الأمر بهذه الصعوبة .
- ما أدراك ؟
- أعلم .
- أنت دائما تعلمين كل شيء .
قالها واحكم غطاءه حوله ووضع الوسادة على رأسه ، لا يريد أن يسمع كلمة .
تركت الحجرة ومضت إلى حجرة مكتبها ، تاهت بين أوراقها ، ظلت تعمل حتى سطعت الشمس ، كان لازال يدعي النوم ، هي تعلم أنه لم يغمض له جفن حتى تلك اللحظة التي قامت فيها عن مكتبها اعتاد منذ زمن ألا ينام قبل أن تطل الشمس من نافذتها .
سألتها هل تفهم شيئا ، أجابت بنعم ، وأطرقت في صمت أصابني بالجنون .
(9)
من ضمن غرائبها التي صارت عديدة ، أنها لم تفكر بالإنجاب ، أكثر من عام مضى عليهما معا ، وهي لم يطرأ عليها أية رغبة في أن تكون أُمّا ، أَمَا هو فلا يسأل .
تعجبتهما بشكل كبير .
وبالطبع تساءلت ، جاءتني إجابة مقتضبة منها ، تدعوني للصمت ، لم يعد ينقذني من جرحها الدائم لي غير ( هنا ) هي الوحيدة التي تجد بعض إجابات لأسئلتها رغم أنها كثيرا ما تعجز عن فهمها مثلي تماما باتت غريبة على كلينا .
- لماذا لا تزورين أي طبيب لتعرفي لماذا لم يحدث الحمل للآن ؟
- وقتما يأذن الله سيهبني ، وإن لم يأذن فهذا قدري .
- غريبة أنت ، فلتعرفي إذن إن أراد الله ، أم لم يُرد ، لماذا تبقين في انتظار ؟!!!
- ليس مهما .
قطعت بهاتين الكلمتين سبيل أي كلام آخر .
باتت تكثر من تواجدها بالخارج ، فاتحته برغبتها في السفر إلى أي مكان ، رفض مرافقتها ، صممت على السفر ، سافرت وحدها .
هناك على شاطئ الإسكندرية في هذه الأيام الشتوية وجدت بعض الهدوء ، إلا أنني كنت أحس أن هناك موج متلاطم بداخلها ، كلما سألت أسكتتني ولم تعطني الفرصة ، صرت في أشد لحظاتي قلقا عليها .
حين رأيت دمعها شلالات تنهمر ، وهاتفها المغلق باستمرار ، وكلماتها المقتضبة ،جلوسها أمام البحر في هذا البرد ، وهي ليست من هواة الشتاء ، يقول أن هناك شيئا خطيرا ، لم تكلمه في عشرة أيام سوى مرتين .
عادت دون أن يتحسن ما سافرت لتحسنه .
لم تكتب جديدا ، لم تخرج من البيت ، كانت أجازتها شهرا ، لم تخبر به أحدا .
استقباله لها كان فاترا .
لم أتحمل كل هذا الصمت إني أتوجع ولا تبالي ، إلى متى عليِّ الصبر .
- إن النهاية على وشك أنا أحاول أن أؤهل نفسي لها ولا فائدة .
- أية نهاية ؟!!
- نهايتي معه .
- لماذا ؟
- هذا موعدها كما توقعته .
- أو كنتِ تعلمين ؟
- منذ اللحظة الأولى في هواه .
- أكاد أجن .
واصلت حديثها ، أول حديث يطول بيننا منذ عَرَفته ، عادت به إليّ ، لأكون لها و بها مرة أخرى !
كانت تعرف منذ أول وهلة أنها ما إن تحتويه ، وتملأ حياته ، ما إن يأتي يوما ويتمرد على هذا الوضع الذي اعتبره وضع أم وليس حبيبة ، مهما حمل من نزق ثورة الحب ، وجنون العشق ، فهو يراها أمه التي دائما تخبر مشاعره دون أن ينطق بها ، إنها تعرف مسبقا كل شيء .
قوتها تسبقها ، عقلها أكبر من أن ينتظر أي رجل ليحل محله في أي شيء ، وصل لأنها ليست بحاجة إليه .
إنه يريد أن يشعر بجوده وأهميته في حياة امرأة يكون لديها العالم وما فيه ، أما هي فعالمها مليء بالكثير الكثير جدا ، إنه يريد نفسه وحده لديها ، هل تقدر ؟!! هل تستطيع أن تكف عن قول إني أعرف ؟!!!!!!!
متى سيأتي يوما فيه لا تعرف ؟!!!!!!!!
مل كونها دائما تعرفه ، يريد أن يكون غامضا ، كل يوم في حياة من تسكنه ، يقدم لها الجديد فيما يفعله كل يوم.
أما هي فهي تعرفه حتى قبل أن تعرفه ، ليس توحدا وإنما امتلاكا .
(10)
كانت في ترقب دائم مستمر للحظة الحاسمة ؛ تلك اللحظة التي سيأتي ليعلن فيها الخبر الصاعقة ، كل يوم يدخل البيت ، يأوي للفراش ، تشعر به سينطق ، كثيرا ما نظر لعينيها نظرات ذات مغزى التفتت بعيدا عنها ، حتى لا يصدمها ما سوف تقوله لها عيناه ، كم تجنبت هذه اللحظة بقدر المستطاع .
لكنها أتت .
- أود محادثتك في أمر مهم .
- أعرف .
- كفاك أرجوك ، لكم كرهت هذه الكلمة ( أعرف ) كل شيء تعرفينه .
- أعلم وكنت أعد نفسي لم سوف تقول .
- وما أدراك ؟
- أنت وطبيعتك ، وهذا الهمس الأخير في التليفون ، أنا لست صغيرة حتى لا أفهم أنَّ بحياتك غيري تود الانسحاب لأجلها .
- ولماذا لم تثوري عليّ ؟! لماذا أنت باردة هكذا ؟ ألا تحبيني ؟!!!!!!
اقتربت منه وأطالت النظر في عينيه الخضراوين اللتان هامت بهما كثيرا ، وسبحت في بحورهما طويلا ، وقالت : أحبك أكثر من نفسي ، ومن أي وقت مضى ، ولكنك كنت ستتركني حتى قبلها .
بمزيد من العصبية : حتى هذا عرفته ؟!!!
- أنا أنت .
أمسك بكتفيها وأطبق على شفتيها في قو ة أوجعتها نفث فيها كم غضبه وألمه ، هو لا يكرهها ، ولكنه لا يستطيع المضي قدما معها .
من قصاصاته الأخيرة .
لو كان قدرنا الفراق ..
ونصيبنا أن نكفن الحب وندفن الأشواق
ونرحل مثلما جئنا عن عالم العشاق .
كان لزاما عليهم هجر عالم العشاق .
ماذا ستكون بحياته إذن ؟
وقصاصة أخرى قال :
هو الزمان حبيبتي غفا برهة حتى التقينا فاستفاق
هو الخريف إذا أتي فثكل الأشجار ويتم الأوراق .
لقد أفاق الزمن من غفوته وحرمهما تلك السعادة التي جاءت مع نسمة بحرية صيفية ، أشعلت قلبين كان الثلج يسكنهما كان الشتاء محله الدائم بهما ، من فصول السنة أجمعين لا يريا غير الخريف الذابل والشتاء القاسي .
- أنا الثكلى يا أنا ، أنا الوريقة التي تيتمت وجذرها حيا ضاربا في الأرض ، أنا التي ما عدت ...........أنا .
غفلة من زمان أليم أيقظتهما من سباتهما ، ومضة من نور سرعان ما انطفأت .
دفعها عنه بعيدا ، وقد أجهشت بالبكاء ، ولسان حالها يدفعها لحثه على البقاء ، صاحبة الكلمات سكتت بداخلها الكلمات ، وصاحب القلم تخلت عنه فصاحته .
تعلقت بأطراف أصابعه ، لثمتها وهو يسحبها منها مسرعا لينطلق بعيدا آخذا معه روحها ، مساعدا إياها في وضع النهاية ، نهايتهما معا .
كان هذا آخر ما دار بينهما ، وآخر عهدي بها تضحك ، وآخر يوم لها تكتب كان يوم وضعت لقصتها معه نهاية يوم أغلقت الصفحات عليه ووارت اسمه للأبد .
وتذكرت جملة أحلام (نحن نكتب الروايات لنقتل الأشخاص الذين أصبح وجودهم عبئا علينا نحن نكتبهم لننتهي منهم ) .
لكنها لم تنته منه لقد انتهت من نفسها ، من وجودها ، من كينونتها ، مني ، من كل الناس ، لأنه كان كل الناس .
تمت بحمد الله
رباب كساب
17/9/2007
ملحوظة : الأبيات الشعرية بالصفحة الأولى والأخيرة للكاتب الصحفي الصديق العزيز المعتز بالله محمد