ابتسامة وحيدة
القصة بجريدة البديل
مرة أخرى يسحقها المرض، تتساند إلى حائطها البالي في شقتها الصغيرة، إلى الأثاث المتهالك، تعود لحجرتها، تُلقي بجسدها المنهك على السرير، تشعر فجأة بأنها قد انفصلت تماما عن الدنيا، لحظات كأنها دهر.
تسترد وعيها، تتذكر أنها لم تطفئ عيون البوتاجاز، تتجه عيناها ببطء نحو الساعة، دقائق ويُرفع آذان المغرب.
تحاملت مرة أخرى على الجسد المريض، فاجأها دوار جديد، تماسكت، لو لم تكن صائمة لمدت يدها لكوب ماء أو تناولت قطعة مخلل ( كان ينقصني الضغط المنخفض !!).
حملت الطبق الوحيد، ذهبت حيث التليفزيون، تشاهد كافة مسلسلات رمضان لكنها لا تعرف محتواها!
تتلكأ اليوم في تناول طعامها، لا لشيء سوى لفقدها القدرة على حمل الملعقة لفمها.
بدلت قنوات التليفزيون، البرامج تستضيف كل فلول النظام السابق، تضحك لما يقولون، تواصل التقليب وهي تشرب الشاي.
تتذكر طبيبها وهو يقول : الشاي ممنوع، القهوة ممنوعة ، السجائر حذاري منها.
قالت وهي ترسم ابتسامتها المعتادة على وجهها الصغير : لماذا لا تكتب لي دواء يميتني أفضل من الحياة مع كل تلك الممنوعات؟
تأخذ نفسا من سيجارتها تعقبه برشفة من كوب الشاي وهي لازالت تبتسم، ترفع صوت التليفزيون لتتجنب سماع رنين الهاتف الذي لم تشأ الرد عليه أو حتى ضغط زر غلق الصوت.
تلتفت للمرآة الصغيرة الموجودة إلى جوارها، ترفعها قبالتها، لها مدة طويلة لم تصبغ شعرها، ابتسمت من جديد وقالت : ماذا لو حصلت على صبغة كصبغة المخلوع ؟!
باتت تخجل من الذهاب للكوافير لصبغ شعرها أو لتزجيج حاجبيها، تسمع لغط الجيران حين يلمحون بعد عودتها وجها المحمر أثر الفتلة.
- ألم تكبر على ذلك ؟! ألا تراعي سنها ؟ لمن تتجمل ؟!
يلومون عليها حتى حقها في التجمل، تلجأ لإحداهن لتعطيها حقنة فألمها اليوم شديد.
تتصل بالخادمة لتحدد معها موعدا لتنظيف الشقة قبل العيد، تتخابث الخادمة وتعطيها موعدا متأخرا كأنها ليست مثل زبوناتها الأخريات.
تعرف أنها تقول هي الأخرى : ومن يأتيها في العيد ؟ لمن تفرش الجديد وتُخرج الثمين ؟!
قبلت بالموعد المتأخر على مضض.
أخرجت حافظة نقودها وضعت على جانب بعيد عن مصروفاتها اليومية ثمن كعك العيد.
لم تغير شيئا مما اعتادت حتى بعد الثورة.
عادت تتطلع لوجهها في المرآة من جديد، حددت ما زاد من تجاعيد بدقة وهي تقول : كريم الوجه الجديد المقاوم لعلامات السن كما يقولون في الإعلان خائب هو الآخر لم يأت بنتيجة.
لملمت شعرها المرسل على كتفيها، عقصته لأعلى قبل أن تقرر أن تلقي بكل أفكارها تحت سيل من الماء الفاتر.
انتعشت قليلا، داهمتها رغبة بأن تتناول سحورها في الخارج بين الناس.
نفضت الفكرة تحت الوجع الذي تعانيه.
انقضت ساعة أخرى تقلب في القنوات المملة، لا تستقر على قناة ولا تخرج بشيء من هذه الثرثرة.
تشتعل رغبتها من جديد في الخروج، ارتدت ملابسها، بمجرد خروجها داعبت وجهها نسمات هواء أنعشت جسدها اليابس المتعب.
جلست بين الناس تنتقل عيناها بينهم في جولات استطلاعية تحبها وتعشقها دائما، لمست هذه المرة شيئا مختلفا، كأنه سحر الكرامة التي ملأت الجو منذ شهور هو السبب.
أكلت بشراهة، توجهت للمقهى وهناك شربت كوب الشاي الأخير وكذا سيجارتها الأخيرة قبل آذان الفجر.
إحساس بالنشوة والسعادة يتسرب إليها، شعرت بخفة روحها، نادت صبي المقهى الذي جاءها على عجل، همست في أذنه ببضع كلمات وأعطته ورقة صغيرة، قرأ الورقة ونفذ ما طلبت على الفور، التفت إليها ليخبرها بأن محدثه لم ....
قطع حديثه، نطق الشهادتين وأسبل جفنيها.
رباب كساب
17/8/2011
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق