الاثنين، 16 نوفمبر 2015

في حضرة البحر


صغيرة تتسلل أسفل منضدة المعمل الضخمة، تختفي تحتها عن أعين مُدرستها، تلحق بها صديقاتها، يجلسن في هدوء، يهمسن لبعضهن، يخرجن من جيوبهن الأحجار الصغيرة التي جمعنها من حوش المدرسة الفسيح، ترسم مربعات السيجا بعد أن تفشل في لعبة ( الكبة ) ظهر كفها الصغير نادرا ما كان يحتفظ بحجر عليه.
تحمل الأرض الأحجار المختلفة في لعبة السيجا بدلا من كفها الواهن الصغير، ترصها في المربعات وتبدأ اللعبة، حين كبرت قليلا، رسمتها على رصيف الكلية ولعبت بالأحجار والعملات وبالمفاتيح الصغيرة التي لا تعرف لماذا تحملها!هي ذاتها التي كانت تقضي أوقات إجازتها في رسم مربعات الكلمات المتقاطعة لتحلها بعيدا عن أبيها وضحكاته على أخطائها، تعانده، يقبل دائما تحديها، تقبل دائما بحب انتصاره، يصحح لها الخطأ وتحفظ الصواب عن ظهر قلب.كل صباح تقطع فيه المائة متر التي تفصلها عن عملها وهي تفكر، أي صفحة من كتاب العمر ستقتطعها منه، كل صفحة بيوم، كل يوم بذكرى، كل ذكرى محض ألم، تعد الصفحات ولا تقتطع شيئا، تصعد السلم، تستقبل صباحهم بتجهم يعرفونه فيتحلون بالصمت، ترقبهم ولا ترقبهم، ملامحها لا تحمل غير تعبير وحيد، يظنون بها الظنون، لا تأبه فالقلب فيه ما لا يعرفون.الصغيرة التي تعلقت بشجر الصفصاف تتململ، أعواد الدراوة التي يختطفونها من صاحب الحقل ليزرعوا بها حدائق منازلهم الوهمية تسألها ابتسامة، أوراق نبات الذرة الحادة التي لسعتها مرارا ترجو مرحها، هي تسأل أين ذهبت؟ جميعهم لا يعرفون.على حواف الصفحات كانت ترسم قلوبا بلا حروف على الأسهم وتنتظر، احترفت الانتظار والصمت.

الصغيرة خرجت ذات يوم تتلمس الدنيا، كان الصباح مختلفا، شمسه اخترقت خصاص نافذتها، اعتادت أن تستقبل الشمس، اعتادت أن تستحم بالنور فور ولادته، في صمت غريب ، لكن اليوم قبلت روحها قبلة وهي تتنفس أول أنفاس الصبح البهيج.

أغلقت الباب خلفها ، لا ثقل للطريق، ولا أوراق من كتاب العمر تفكر باقتطاعها، خفتها تلفت الأنظار، لا تلتفت، تمسك حقيبتها كأنها ستضيع منها وتواصل السير، تحرك ميدالية مفاتيحها ببهجة لا تعرف مصدرها.

الشتاء يدق ناقوسه، تتهيبه كعادتها، لكنها اليوم ترجئ التفكير فيه وتوابعه، اليوم ترسم في صحبة الشمس، تهدي موتاها الذين احتلوا مخيلتها فجأة وردة ودعاء، صفر كان لشمعة ميلادها غطى على كل الماضي وسمح لبدء حياة سكنت محلا في العمق ضمن بعيد أمنياتها.

صفحة بيضاء، لوحة بيضاء، أحرفا تخط أم خطا؟! الأحجار الصغيرة في الطريق القصير تستلفتها، ودت لو انحنت لتجمعها، سترسم مربعات السيجا إلى جوار مكتبها، ستلاعب روحها الخفيفة، سينظرون إليها ويتعجبون كعادتهم، لكنها أخذت ألوان زميلتها ورسمت.

في حياة أخرى كان اللون صاحبها، وفي دنيتها الآنية الحرف صديقها ؛ حبيبها، يناورها، يعاندها لكنه يخضع ويلين، يحتضنها وتغيب في حضنه طويلا.

على سفر كانت، تركت لهم الورقة بوجه لا تعرف لماذا شوهته، تركته ومضت لديها الكثير لتفعله ومازال الصباح في أوله، مشاوير كثيرة، خطط لا تنتهي، ستنفذ ما يسمح به وقت المدينة المزدحمة، لكن الساعات تنقضي على كرسي في مقهى غريب لكنه حميم، ثمة رهبة تبددها رغبة في احتضان الأمل، حديث ينطلق في كل اتجاه إلا اتجاها واحدا تتحاشى العيون الحديث فيه.

لم ترغب في احتضان أحد من قبل، لم تكن شفقة، شعرت أنها من الممكن أن تكون صَدَفة كبيرة تضم وتحنو، صدفة من أصداف البحر الذي يتطلعان إليه، أن تكون رحما ليس إلا.

البحر عجيب، أتراه السبب؟! أم هي الروح حين تعرف لها صاحبا؟! تعلق بذراعها لم تقل له شيئا، حملته فقط ومشت، تمنت لحظتها أن يكون لها فستان بلون المروج وبروعة زهورها ! تمنت أن تكون كسحابتها التي ترعاها، الصغيرة التي احترفت اللهو على حواف القنوات الصغيرة تحرك ماءها بعصاة وتبلل قدميها، تخشى البحر إلا أن الموج يطالها، يلمس قدميها تبتعد، الصغيرة تلملم شعرها وتدير ظهرها للبحر، تلتقي وجهه المراقب لها وتبتسم، قالت له لم تعد تقدر على وصف ما تشعر.

اجتياح يشبه ذلك الموج الهادر الذي استقبلهما به البحر، براح حضنه كان دنيا لم تعهدها، لم تعرف هذا الدفء قبلا، تعود فجأة للجرن الفسيح الذي كانت تتمرغ على ترابه الناعم، غير عابئة بعقاب أمها، ترقص على أطراف أصابعها معتقدة أنها باليرينا تحلم بالفستان ذى الذيل المنفوش، معه تسترجع روحها الطفلة، تستعيد بعض البهجة.
كانوا يعدونها صاحبة أجمل ضحكة، تاهت ضحكاتها، يقول لها انها صاحبة أجمل ضحكة، هي لا تعرف لماذا تضحك هي تتساءل أين كانت ضحكاتها؟! روحها تتحرر ببطء محبب. 
حلم جميل يداعب مخيلتها، عقلها السقيم يقيم متاريسه المعتادة، يخبرها عن القلب الحائر، الخائف، كأنه منفصل عنها، كيف لا يرى ما تراه هي؟!

تعلقا بالموج ، سحبهما البحر لعمقه، الجمال يبتعد، طويل طريق العودة، الليل لمن تعشق النهار مخافة، ألقى جواره أمانا لم تعرفه. الطريق إلى مدينتها يعني العودة لظلمة لا صباح لها، تحسب الوقت المتبقي بنبض قلق، الباقي عشر دقائق، الباقي خمس دقائق، الباقي ثانية واحدة، الباقي عمر آت.

نشرت بجريدة الأهرام في 17 إبريل 2015
http://www.ahram.org.eg/NewsQ/381405.aspx

ليست هناك تعليقات:

حواري لجريدة السياسة الكويتية

رباب كساب: حان وقت تجديد دماء الساحة الأدبية أجرت الحوار شروق مدحت  تمردت على الظروف المحيطة ،رافضة الاستسلام لعادات وت...