الاثنين، 16 نوفمبر 2015

تاهت وجاري البحث


مرت من هنا.
قالوها في نفس الوقت، المرأة التي سألت كانت تتشح بالسواد، تسير متعثرة في خطواتها، في عباءتها، تقترب من واجهة أحد المحال، تغوص في عيني العارضة الحشبية التي تلبس فستانا من الحرير والدانتيل، أفرغت دمعها وهي تحملق في الفستان، كان يشبه الفستان الذي ارتدته في آخر ليلة.
آخر ليلة! آخر مرة رأتها فيها، اشتريتا الفستان من نفس المحل، كانت معها، انتقياه معا، المتشحة بالسواد كانت تحلم حينها بينما الأخرى تشرد بعيدا، كلما جرتها لعالمها تشرد، لم يكن باستطاعتها أن تقطع شرودها للأبد، أن تعرف بماذا تفكر، أن تغرق جبينها بسائل أحمر أو بأي لون يكشف لها عما كُتب على الجبين بحبر سري لا تعرفه.
مرت من هنا.
مرة أخرى تسمع نفس الجملة، إنها تدور خلفها ولا تجدها، الصمت الذي بدأته الأخرى كان يُهلكها، تستحثها لتتحدث ولا تنطق، السماء ترسل فيضها والجو حار، الشمس تلاعبها، كانت كما الشمس لا تعرف لها حال، كل ما تعرفه أنها تشرق في الصباح وتغيب في غروب ينذر بمجيئ جديد، هل ستعود وتشرق؟!
مرت من هنا.
الرحلة طالت بها، الشوارع ملتها، الأسود بات رماديا، الجوع يقرصها، الفستان الحريري لم يعد موجودا، اشترته امرأة ثانية، أتختفي هي أيضا؟!
في الليلة الأخيرة استسلمت لأيديهن، منهن من جلت عنها الشعر، منهن من دهنت جسدها بكريمات، منهن من مشطت الشعر الطويل، منهن من ألبستها مشد الصدر الضيق، منهن من أحكمت غلق ( الكورسيه ) ثم ألبسنها الفستان، كانت صامتة، لم تسمع الزغاريد التي انطلقت من أفواههن، لم ترد تهنئة، آثارت ضحكهن، ظننها خائفة، كل واحدة منهن استرسلت تروي عن ليلتها الأولى، الكل يحكي، هي لا تسمع، والمتشحة بالأسود تراقبها وتغرق في أسئلة لا تجرؤ على سؤالها.
في الصباح جاء يسأل عنها، زف خبر الرحيل ولازال طعام الصباحية على منضدة أمها لم تحمله بعد إليها، جاء يحمل لهم بشارتها دونها، أين ذهبت؟!
مرت من هنا.
الوجوه التي عرفتها دُهنت بالأسود، القار على ملابسهم هم وأرصفة الشوارع جزءا لا يتجزأ، النداءات لم تختلف، منذ العام الأول، ثلاثة أعوام لم يعرفوا عنها شيئا، ثلاثة أعوام وذات العباءة السوداء تدور في الشوارع بحثا عنها، تتوقف عند واجهة المحل الذي اشترتا منه الفستان الحريري، لم يضعوا آخر يشبهه.
تزوج عريسها بأخرى، حملوا له طعام الصباحية ففتحت لهم العروس الجديدة الباب برداء شفاف أبيض، أخفت عنهم بشارتها، ضحكت بميوعة واختفت في مطبخها الجديد، جاءت بصينية الشربات.
تزوج وكف عن البحث عنها في كل الشهور، اختفت في يناير، بل اختفت في مارس، بل في أكتوبر، المرأة التي ترتدي الأسود تؤكد أنها اختفت في نوفمبر، لكنه كف عن البحث، جاء بأخرى لا تتركه في الصباح وبشارتها على منديله الأبيض وملاءة السرير البيضاء.
مرت من هنا.
قالها البائعون الذين سكنوا الشارع فمنعوا المارة والسيارات، قالتها الأرصفة التي جلست عليها تأكل علبة كشري صغيرة وضحكاتها كانت تشق السماء طائرة على بساط الأمل، قالها الجالسون على المقاهي يحتسون القهوة وينفثون دخان نراجيلهم وسجائرهم الرخيصة، قالها ركاب المترو، البائعون الجالسون عند مدخل المحطة لمغلقة، برامج التليفزيون التي تبارك العرس الجديد، قالتها ذات العباءة السوداء بغير يأس وهي تتأمل حذاءها البالي من كثرة البحث.

وضعوا في يد صاحبة العباءة جنيها، بقايا ساندويتش، ألقت ما وضعوه في وجوههم وهي تسب وتلعن، تتركهم والدهشة تمتطي وجوههم وتمرح، أمام واجهة المحل نظرت لفستان جديد ولم تفرح، دمعة عانقت المطر، تركت الطرحة تنحسر عن شعرها الطويل، شقت العباءة فانفتحت، أعطتهم دبلة ذهبية وقالت أريده، طردوها، أغرق المطر جسدها المكشوف، سمعت الألسنة التي دعت، التي سبت، التي تحسرت، هو يقول أنها رحلت في يناير هي تقول أنها رحلت قبل العمر بعمر.

نشرت بمجلة الثقافة الجديدة في ديسمبر 2014

ليست هناك تعليقات:

حواري لجريدة السياسة الكويتية

رباب كساب: حان وقت تجديد دماء الساحة الأدبية أجرت الحوار شروق مدحت  تمردت على الظروف المحيطة ،رافضة الاستسلام لعادات وت...