السبت، 6 أغسطس 2016

يوميات بهية (7)



ضبطتني بهية أتشاجر على الأوراق، جلست أمامي مُسددة سهام نظراتها إليِّ، مُغلقة عين فاتحة الأخرى، لم تتكلم لكنني حين كنت ألتقط أنفاسي التي تتلاحق بشدة من الانفعال أجدها على تلك الشاكلة، لم يكن بي طاقة لحديثها هي الأخرى، كنت أجاهد روحي، أجاهد لحظة حنين، لحظة كان عليِّ قتلها، لذا لم تنطق وإنْ كنت أظن أنها سوف تشدني بعيدا عنها بعدما كذبت كلماتي كثيرا وأنا أكتب، كنت أدعي غير الحقيقة، كنت أظن أنني نسيت إلا أنني كنت أتناسى، لم تتركني بهيتي للحظة قاتلة قد تفتك بي وتعود بي لواقع كريه أمقته، لقد هربت بصعوبة فلا حياة مع الموت حتى ولو سُمي باسمٍ أخر.

تذكرت مقولتها التي قالتها لي قبل عام من الآن ( أكره فيّ عنادي لكنني أحبه حين يمنحني قُبلة حياة في لحظة الموت).

كان هروبي هو قُبلة الحياة، كان طوق النجاة الذي أخذ بيدي بعيدا عن شبح الموت، عن ذلك الذي يخطو فوق أشلاءك في تباهٍ واضح، مغلفا كلماته بالجمال وأحيانا باللوم والعتاب، مترنما بألحان تذوب معها كلما ترنم بها، لتكتشف في لحظة صدقٍ مع روحك أنَّه يدفنك شيئا فشيئا لا أكثر ولا أقل.

تركتني بهية أستمر في تفاهاتي واستعذاب الشوق والحنين وعند نقطة معينة أدركتها معها في نفس الوقت جذبتني بعيدا، دخلت بي من قلب اللعبة، لعبة الحنين، إنها تعرف الطريق، وتعرف إذن كيف تُخرجنا من الشرك الذي أوقعتنا أنا به.

كانت تسترجع كل مفرداتها التي تشكلت بها عبر سنوات عمرها، ترصها أمامها، لم تكن يوما بحاجة لتدوينها، تسكنها، تعيش بها لكنني ( أنا ) من كنت بحاجة لأن أحفظ وأدون جيدا.

التفتت إليِّ ذات مساء وقالت : أنتِ السبب.

لفني الخجل وأدرت عيني عنها، مرة من مرات نادرة أعرف أنني من أقتلها، لم أعتذر، لكنها تلقفت دمعتي في راحة يدها وصمتت، لم تعدني حينها بالعودة حتى مع الرجاء الذي ملأ عينيِّ، لم تعنفني، احتضنتني وكفى.

عرفت بهية كيف تأخذني حقا، تُدرك أنني أذوب حنينا لطفولة تشبعت مما حولها، كانت كاميرا عينيِّ تطبع كل الصور بسرعة مذهلة على جدران عقل عرف فيما بعد كيف يتخلص أولا بأول من كل شيء، إلا أن الصور الأولى لازالت في مكانها، موشومة على جدرانه.

قالت أتذكرين سؤالك الأهم لماذا لستِ مثلهن؟

حينها لم أكن أعلم بوجودها وكنت دوما أحار لماذا أجد غضاضة في أن أكون مثل أمي وصاحبات الدرس والجارات، كنت أغرق دائما في كل السطور التي تملأ الأوراق من حولي حتى تلك التي كانوا يلفون بها ساندويتشات فول عم أحمد الذي كنت أمر عليه يوميا فأجده يقف بقامته الطويلة وجسده الضخم يعد للناس طعامهم بلا ابتسامة واحدة رغم أنه كان يرد كل التحايا، كان ينحني كثيرا ليأخذ مني أنا الطفلة القصيرة ثمن ما أريد، كنت أحب الشراء منه رغم كراهيتي للزحام ومحله دائما مزدحما!

كثيرا ما أخذت الأوراق التي غلفت ساندويتشات الفول والطعمية لأحتفظ بها، اعتدت التفتيش في الكراكيب لأحصل على الكتب القديمة والمجلات، كان أبي يحتفظ بالروايات بينما احتفظت أمي بمجلات حواء وفينوس وبوردا كنت أنظر للباترونات وأعتبرها طلاسما وأسأل نفسي هل أم سمير الخياطة تعرف شيئا عن هذه الباترونات؟! في كل مرة أتجاهل هذه الأشياء وأبحث عن الحكايات وأنهل من روايات أبي حتى التي لم أفهمها حينها، بينما أمي تجمع الكثير من الإبر؛ إبر كثيرة لكل شيء، إبر وخيوط، حاولت مرارا أن أمسك بها أن أكون مثلها، لم أفشل! لكنني لم أحب!

لم أكن أعلم عن صاحبتي التي تشبهني، صاحبتي التي أخذتني من كل شيء من خيوط أمي وإبرها، من تحدي أبلة نبيلة مدرسة التدبير المنزلي بصنع بعض مفارش حتى لا تنظر لي نظرة فوقية كارهة وتسخر منيفأنا ابنة من علمتهم ولا أعرف كيف أمسك بإبرة، من استجداء أمي أن تصنع لي كوفية فأغلقت بابيِّ علي بضع أيام لأنهيها بينما الفتاة التي تشبهني تحثني كي لا أضيع وقتي لكنني صممت أن أصنعها، ابتعدت عني قليلا لكنها عادت بقوة، في كل مرة أتركها لأكون كالبقية تغضب قليلا لكنها تعود كأنها قدري وأنا قدرها.

وها هي الآن بالحكايات تنتشلني من لحظة ضعف، تعرف البهية أنَّ الحكايات ترياقي، وتعرف أنَّ الموت لا يعرف طريقه لمن اعتاد الخلق !

رباب كساب

5/8/2016

المقال منشور على موقع عابر في 6/8/2016


ليست هناك تعليقات:

حواري لجريدة السياسة الكويتية

رباب كساب: حان وقت تجديد دماء الساحة الأدبية أجرت الحوار شروق مدحت  تمردت على الظروف المحيطة ،رافضة الاستسلام لعادات وت...