بهية تلح لأذهب بها للبحر!! لماذا الآن؟! أعرف أنها تعشقه شتاء، تحبه والمطر يعانقه، تجذب ياقة البالطو الثقيل وتلف الكوفية بإحكام وتعدو من قطرات الماء القوية محاولة الاحتماء منها، وبعد أن يخف المطر تذهب للكورنيش المغسول تتأمله. وبينما كانت بهية بعيدة لا أعرف عنها كان البحر شريك أحلامي الدائم، في كل أحلامي أراه هائجا، مندفعا للبر، مغرقا كل شيء حتى أنا، أستقبل موجه العاتي بضحكة وأحيانا بخوف كبير. ..
جلست أروي لها أحلامي فذكرت لها ذاك الحلم البعيد يوم هاج الموج فأغرقني وجدتي رغم أننا كنا نجلس في شرفة بعيدة عنه، تذكرت المرأة ذات الشعر الأحمر التي لم أعرفها للآن، تلك التي جذبت يدي لبحر لم أر له مثيلا ووقفت معي صامتة على الشاطئ الذي لرماله لون شعرها حتى انتهى الحلم، وتلك الرحلة الرهيبة التي أغرق فيها البحر كل شوارع الإسكندرية وأنا أهرب من موجه فيلاحقني، احتمي بالبيوت، بالعمارات، بكل شيء ويلحق بي.
متى تركني البحر وحالي يا بهية؟
لا أذكر متى كف البحر عن ملاحقتي، لكني أعرف لماذا كف عن ملاحقتي، وفسرت كل أحلامي! نظرت لي بنظرة استعلائية كعادتها وكأنها تستكثر علي أن أعرف ولا تعرف، تجاهلت نظرتها فلا أريد أن أفتح على نفسي سيل وجع وعليها بحر تأنيب لي. حاولت أن أرجئ رغبتها في الذهاب حتى يحين موعد المطر أو على أقل تقدير حتى يأتي أكتوبر، أكتوبر شهري يا بهية. قالت لي :
"منذ متى تحبين المطر وتنتظرينه؟!"
كنت أحب المطر، كنت أخرج من مدرستي على ظهري حقيبة كتبي الثقيلة وكراسات أبلة ألطاف التي كانت تدرس لنا كل المواد، يوم أنجبت أصغر أبناءها وابتعدت في إجازة عرفت لأول مرة أن قلبي بإمكانه أن يكره، كرهت أبلة سنية قاسية القلب، دعينا منها، المطر يا بهية كان له طعما جميلا، أحببت مذاقه المالح في فمي، ومريلتي البيج التي شغلت أساورها وياقتها أبلة نورة كنت أعود بها لأمي مبللة، مرات حاولت مغافلة أمي والسير حافية كصاحبتي في الطين، بلدتنا كانت تغرق في الوحل وتنقطع الكهرباء، الليل يدفئه السحلب الذي يعده أبي، وبطاطس أمي المحمرة، كل هذا قبل أن أرتدي تلك النظارة التي لم تكن تحب المطر ولا الظريف الذي كان يطالبني بتركيب مساحات، كرهت المطر يا بهية لأني لم يكن بإمكاني خلعها، لا أستطيع تحمل آلام عيني ورأسي حين أخلعها، ولا نزلات البرد التي لا تتركني حتى الآن، هل قلت لك من قبل أني كنت أرقبه من خلف نافذتي وأكتب اسمي على الزجاج بعد أن يتكثف عليه بخار الماء من فمي وأنفي، وأمد يدي لألمسه وأشم رائحته، وفي الخلفية دائما صوت وردة تغني أوراق الورد، كانت الأمطار تنتظر بدء المسلسل المعاد لتبدأ فأعدو نحو النافذة لأمارس طقسي المفضل وأشم رائحة المطر، رائحة أرضنا، أرضنا التي كانت طيبة، كانت لها رائحة قوية جميلة حانية كلما أمطرت، لم أكن أرسم قلوبا على الزجاج بالبخار المتكثف، فقط كنت أكتب حروف اسمي حتى مللت.
حاولت أن أشغلها بالحكايات عن رغبتها في البحر حتى جاءت سيرة الرائحة فقفز لعقلي تلك الرائحة التي استوقفتني وهي، رائحة عطر امرأة كنا قد أبعدنا ناظرينا عنها بعدما رأينا لون شعرها الفاقع صفاره، للحظة نقلتنا لعالم أخر بمجرد أن اقتربت منا، قطعنا حديثنا الذي لم يكن رائقا ولا هينا، كانت تلومني كعادتها، لكنها توقفت لترقب معي في دهشة منا بقايا أنثى تتشبث بالحياة. ثم بحركة مفاجئة لكزتني بهية في كتفي وقالت:
""لا أحد يمكنه هزيمة الشمس وحدنا نحفر أنفاق هزائمنا.
نظرت إليها مستهزئة بدت لي كمن تود الحديث لمجرد الحديث أو أنها وجدت شيئا آخر تلومني بسببه، هي لا تشعر بما شعرت به، لا تعرف أن تلك المرأة التي تعرج قليلا كما لو أن قدمها قد التوت وهي تسير، المرأة التي حشرت جسدها الضئيل في بنطلونها الجينز الضيق وتلك البلوزة البيضاء القصيرة ولونت شعرها بالأصفر الفاقع قد منحتني بعطرها رغبة في الحياة. صرخت بي بهية قائلة :
"يا غبية هذا ما أقصد، الحياة لا تتوقف وأنت تسعين لتوقفها بكل جهد، بإهمالك، بثوراتك غير المحسوبة، باستسلام جسدك لأسقام لا وجود لها."
أَمسَكَتْ بأطراف أصابعها دمعة فرت مني وقالت :
"لا وقت لها."
تذكرت قولها ذات يوم ( للمتكئة على ضريح الوجد ابتسام الدنيا عارض والعوارض إلى زوال) اعتقدت غير ذلك، آملت أن تستقيم لي ولو مرة صدقت الدنيا وهي الكاذبة دوما وأنكرت على روحي صدقها. مضى الوقت بي قبل أن أدرك أن النول كان واهيا متداعيا، أمضيت الليالي والشهور أنسج عليه بدأب، كانوا يضحكون وكنت نوحا ، نجا نوح ولم أنج .. ولازالوا يضحكون!
رباب كساب
2/9/2016
المقال منشور على موقع عابر
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق