ليلة مقمرة
قررت أن تزوره الليلة دون سابق موعد، عرفت طريقها بسهولة رغم الظلام، القمر بدر، لم تختر ليلة مقمرة، كأن البدر قرر أن يكون رفيقها، أراد ألا تكون وحيدة.
بومة تنعق ... لم تخف!
نباح كلب أخافها ... واصلت!
هواء نوفمبر يعبث بأغصان الشجر، بقايا مياه إثر مطر جاء مفاجئا يعوق سيرها، تدور حول المكان لتفادي الماء.
مقبرته الأخيرة، السير بين كل هؤلاء الموتى من أهل البلدة وأهلها أنعش ذاكرتها – ظنتها ميتة – بهم وبحكايات نثرها الأقربون كثيرا.
ألقت عليهم السلام وهي تبتسم.
أخيرا .. وصلت إليه، افترشت الأرض أمام قبره ، قرأت الفاتحة، وما تحفظ من ( يس ) على عجل، أرادت أن تلقي حملها بين يديه وتفرغ منه.
السير في طرقات قلبها كالسير في دهاليز ضيقة كسم إبرة، معتمة كليل هجرته نجومه.
لم تبك كعادتها، لم تذرف دمعة وهي تروي له ما جاءت لأجله، حملت ذنبها إليه وصمتت في انتظار غفرانه، انتظرت، طال انتظارها، لم ينطق؛ لم يربت على كتفها، لم يبتسم ابتسامته التي تغمر روحها، تعلم أن ذنبها لن يغفره.
لازال لم يغفر لها أنها ذهبت للموت بقدميها من أجل حلم لم يتحقق والاسم ثائرة، عنفها كثيرا لأنها حرقت قلبه عليها.
غضبت من صديقتها التي استمعت لها ضاحكة ساخرة منها ومن قولها أنه عنفها لخروجها مع الثائرين.
لم تقنع يوما بأنه ميتا، إنه يرافقها في كل خطواتها رغم أنه يعجز عن منعها في السير في الطرقات الوعرة أو حتى الوقوف أمام طلقات الرصاص، كانت تحس نبض قلبه وولعه ولكنها لا تملك أن تتراجع.
الذنب هذه المرة ليس كبيرا لكنه مؤلما؛ مزق قلبها ستر الروح الذي بنته طوال عمرها من فولاذ وخرج ليطير لأول مرة، المرة تبعتها مرة، تبعتها أخرى وفي كل مرة يعود خائبا، مقصوص الريش مهيض الجناح، تفتح له صدرها وتستقبله بابتسامة الواثقة من العودة لحضنها خافية حزنها، تشعره بذنبه بكلمات يئن لها ،يعتذر كثيرا لكنه سرعان ما يستفيق ويقلب صفحة جديدة ويهم بالكتابة.
هذه المرة هي التي شجعت قلبها، طاوعته، سارت معه دون أن تفكر مثلما سارت معه وهو يمضي عقدا طويل الأجل مع الموت في انتظار حياة لم تأت بعد.
توارى القمر خلف سحابة زادت الليل قتامة، لم تزل على وضعها غير خائفة، تنتظر من الراقد الصفح والمغفرة.
هربت النجوم، ارتفع نباح الكلاب، كاد نعيق البوم أن يصم أذنيها، مواء القطط عويل، الشجر يهتز بعنف بلا رياح، الأرض من تحتها ترتج، وقفت يقتلها الرعب، ترنحت ، استندت إلى القبر، لأول مرة منذ مجيئها تلمح اسمه جليا على شاهد القبر، رغم الظلام الدامس لم يكن اسمه وحده، صفت تحته أسماء وتواريخ، لم تعرف أيا منهم ليسوا من عائلتها.
رغم الرعب تساءلت من يكونون ؟!! لا إحساس لديها بالوقت مع الساعة التي اختفت أرقامها وعقاربها.
هدأت الأصوات فجأة كما بدأت، انقشع الغيم، بان القمر ثانية، على ضوء هاتفها عادت تتأمل الشاهد والأسماء من جديد، لم تجد سوى اسمه، لا أثر للأسماء التي كانت لعائلة لا تعرفها، ولا تعرف لماذا يشاركونه قبره؟!
عدت بعيدا مدفوعة برعب تنتفض له أوصالها، وصلت بيتها، على أقرب مقعد ألقت بجسدها، فاقدة الوعي.
في الصباح جلست تروي لصديقتها وكلما تذكرت انتفض جسدها، لم تهدأ إلا حين عادت لمشهد لم يمكنها الرعب من إدراكه، لقد تجلى وصفح، ابتسم وجه أبيها، ربت على كتفها وهو يودعها، تذكرته هو ونسيت أنها قرأت بين أسماء العائلة التي لم تعرفها اسما تعرفه جيدا .... اسمها.
________________________________________
- قصة من مجموعة "بيضاء عاجية وسوداء أبنوسية" للكاتبة "رباب كساب".. تصدر قريبا عن مؤسسة "بتانة" للنشر بالقاهرة.
نباح كلب أخافها ... واصلت!
هواء نوفمبر يعبث بأغصان الشجر، بقايا مياه إثر مطر جاء مفاجئا يعوق سيرها، تدور حول المكان لتفادي الماء.
مقبرته الأخيرة، السير بين كل هؤلاء الموتى من أهل البلدة وأهلها أنعش ذاكرتها – ظنتها ميتة – بهم وبحكايات نثرها الأقربون كثيرا.
ألقت عليهم السلام وهي تبتسم.
أخيرا .. وصلت إليه، افترشت الأرض أمام قبره ، قرأت الفاتحة، وما تحفظ من ( يس ) على عجل، أرادت أن تلقي حملها بين يديه وتفرغ منه.
السير في طرقات قلبها كالسير في دهاليز ضيقة كسم إبرة، معتمة كليل هجرته نجومه.
لم تبك كعادتها، لم تذرف دمعة وهي تروي له ما جاءت لأجله، حملت ذنبها إليه وصمتت في انتظار غفرانه، انتظرت، طال انتظارها، لم ينطق؛ لم يربت على كتفها، لم يبتسم ابتسامته التي تغمر روحها، تعلم أن ذنبها لن يغفره.
لازال لم يغفر لها أنها ذهبت للموت بقدميها من أجل حلم لم يتحقق والاسم ثائرة، عنفها كثيرا لأنها حرقت قلبه عليها.
غضبت من صديقتها التي استمعت لها ضاحكة ساخرة منها ومن قولها أنه عنفها لخروجها مع الثائرين.
لم تقنع يوما بأنه ميتا، إنه يرافقها في كل خطواتها رغم أنه يعجز عن منعها في السير في الطرقات الوعرة أو حتى الوقوف أمام طلقات الرصاص، كانت تحس نبض قلبه وولعه ولكنها لا تملك أن تتراجع.
الذنب هذه المرة ليس كبيرا لكنه مؤلما؛ مزق قلبها ستر الروح الذي بنته طوال عمرها من فولاذ وخرج ليطير لأول مرة، المرة تبعتها مرة، تبعتها أخرى وفي كل مرة يعود خائبا، مقصوص الريش مهيض الجناح، تفتح له صدرها وتستقبله بابتسامة الواثقة من العودة لحضنها خافية حزنها، تشعره بذنبه بكلمات يئن لها ،يعتذر كثيرا لكنه سرعان ما يستفيق ويقلب صفحة جديدة ويهم بالكتابة.
هذه المرة هي التي شجعت قلبها، طاوعته، سارت معه دون أن تفكر مثلما سارت معه وهو يمضي عقدا طويل الأجل مع الموت في انتظار حياة لم تأت بعد.
توارى القمر خلف سحابة زادت الليل قتامة، لم تزل على وضعها غير خائفة، تنتظر من الراقد الصفح والمغفرة.
هربت النجوم، ارتفع نباح الكلاب، كاد نعيق البوم أن يصم أذنيها، مواء القطط عويل، الشجر يهتز بعنف بلا رياح، الأرض من تحتها ترتج، وقفت يقتلها الرعب، ترنحت ، استندت إلى القبر، لأول مرة منذ مجيئها تلمح اسمه جليا على شاهد القبر، رغم الظلام الدامس لم يكن اسمه وحده، صفت تحته أسماء وتواريخ، لم تعرف أيا منهم ليسوا من عائلتها.
رغم الرعب تساءلت من يكونون ؟!! لا إحساس لديها بالوقت مع الساعة التي اختفت أرقامها وعقاربها.
هدأت الأصوات فجأة كما بدأت، انقشع الغيم، بان القمر ثانية، على ضوء هاتفها عادت تتأمل الشاهد والأسماء من جديد، لم تجد سوى اسمه، لا أثر للأسماء التي كانت لعائلة لا تعرفها، ولا تعرف لماذا يشاركونه قبره؟!
عدت بعيدا مدفوعة برعب تنتفض له أوصالها، وصلت بيتها، على أقرب مقعد ألقت بجسدها، فاقدة الوعي.
في الصباح جلست تروي لصديقتها وكلما تذكرت انتفض جسدها، لم تهدأ إلا حين عادت لمشهد لم يمكنها الرعب من إدراكه، لقد تجلى وصفح، ابتسم وجه أبيها، ربت على كتفها وهو يودعها، تذكرته هو ونسيت أنها قرأت بين أسماء العائلة التي لم تعرفها اسما تعرفه جيدا .... اسمها.
________________________________________
- قصة من مجموعة "بيضاء عاجية وسوداء أبنوسية" للكاتبة "رباب كساب".. تصدر قريبا عن مؤسسة "بتانة" للنشر بالقاهرة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق