الثلاثاء، 8 فبراير 2011

من أرض الثورة

تتكاثف سحب الأراء ما بين مؤيد ومعارض ، ما بين تنديد وشجب وعدم تصديق ، وفوضى إلقاء التهم ، وإنني متأكدة تماما بعد كل هذه المدة من الصمود أن الجميع سيتوحدون تحت راية واحدة ألا وهي المناصرة الكاملة لهؤلاء الثوار وسيكون لحظتها مطلبهم كما هو مطلب الميدان ... لابد له أن يرحل .

كانت جمعة الغضب في الثامن والعشرين من يناير دافعا رئيسيا لي ولكل الثوار بالاستمرار في المطالبة بالرحيل كانت اللحظة الفاصلة بين أن تكون مذبذبا ومتأكدا ، كتبت مقالا طويلا عما شاهدته في هذا اليوم بالذات لكن الأحداث المتلاحقة غطت على يوم الغضب وأتاحت الفرصة لما تلاه من أيام التخريب والبلطجة وخيانة الشرطة وهروب آلاف الخارجين على القانون ، لخصت ما حدث في يوم الغضب وما شعرت به في جملة واحدة ( أنني رأيت به ما إن حكاه لي أحد ما صدقته أبدا ) .

وإنني لا أزال أذكر هذا الشاب الذي دخل مكان اختفائنا من هرواتهم وقنابلهم محمولا على أيادي زملائه الشرفاء في محاولة لإسعافه اضطروا بعد فشلهم أن يحملوه مرة أخرى للبحث يائسين عن مستشفى في طرق سُدت مخارجها ومداخلها تماما من قبل الأمن ، نظرت للقميص الذي تبقى منه وقلت : تُرى هل كان صاحبك يدري حين اشتراك أنه سيتركك غارقا في دمائه بداخل جراج سيارات في شارع البستان السعيدي ؟؟؟

عدالة السماء تقتضي القصاص ممن أراق دماء شبابنا وأزهق أرواحهم ، أريد أن أنظف الدنيا منهم ، أغسلها من وجودهم كما كان الناس يغسلون الشوارع من دماء هي الأذكى والأطهر .

وتلا الجمعة جمعة وجاء أحد الشهداء السادس من فبراير ، ذهبت هذه المرة للميدان الذي لم أتمكن من الوصول إليه يوم جمعة الغضب وقد كنت على بعد أمتار قليلة منه لأن الأمن المركزي كان حائلا بيننا وبينه وهم يلقون سيل قنابلهم قبل أن ينفذوا واحدة من أعظم الخيانات وهي هجرة أماكنهم وتسببهم في عمليات السلب والنهب والتخريب التي تلتها أيام وقف الحال والذي كان الغرض منه إرهاب وتجويع الشعب حتى يلهث خلف النظام راغبا في أمنه مرة أخرى وقوته القليل ، لكنه فوجئ بصمود ما بعده صمود وقوة تفوق ما كان يتخيل وسقطت أقنعة الزيف قناع وراء آخر ولم يعد لك يا رئيس غير أن تسلم بهزيمتك ولكنك تصر أن تبقى كالديك المذبوح مراق دمه على الطرقات لكنه ينتفض بحثا عن روحه التي تفر بأقصى سرعة .

دخلت الميدان في العاشرة والنصف صباحا مررت بنقاط تفتيش تتأسف لي لأنهم سيفتشوني ويطلعون على بطاقتي وجوههم تبتسم ، يد السيدة التي فتشتني شعرت بخجلها وهي تمر على جسدي لتتأكد أني لا أواري أسلحة نظرت ببطاقتي وقالت مهندسة زراعية ضحكت وقلت لها : لا روائية ، قالت وهي تؤدي حركة استعراضية وأنا استايلست .

تركتها لأمر بأخرى ثم دخلت الميدان الذي كان لا يشبه ميدان التحرير الذي أعرفه والذي وقفت أكتب لكم منه على الفيس بوك من موبايلي يوم الأربعاء السادس والعشرون من يناير .

لم أتعرف على وجه الميدان لكني تعرفت على الصمود في أروع معانيه ، على الإباء والشرف والعزة بت أدور في المكان وحدي وألف حول نفسي أستمع للشعر المنطلق من إذاعة الميدان أتصل بأمي التي هربت منها وتركت لها ورقة مضحكة قلت لها فيها : ذهبت لحضور قداس المسيحيين مع الأخوان ، لم أعد أستطيع الجلوس إلى جوارك أكثر من هذا أنا التي سأروي للناس ولأولاد أولادك ما يحدث ، ذهبت لأتأكد أنهم ليسوا الأخوان كما تظنين ويظن الكثيرون .

حملت نفسي مهمة التأريخ والتسجيل وأنا لا شيء مجرد قلم يحبو أمام حدث جلل وأمة تتغير . وجدت جزءا من رصيف أمام السور الحديدي لم ألحظه يوما أنا التي مررت كثيرا بالمكان جلست إلى جوار من يجلسون ، شاهدت معمما بجبته وقفطانه يوزع أرغفة الخبز البلدي مع قطعة من الجبن المثلثات ( النستو نسبة لأول جبن مطبوخ أنتجته المرحومة شركة مصر للألبان ) ، وجدت رجلا يرتدي حلة كاملة يحمل كيسا به قراقيش وقرص وبقسماط يوزعها وتذكرت الكنتاكي والـدولارات واليوروهات والجنيهات التي يقولون عنها .

في نهاية اليوم حين جعت ذهبت لأشتري علبة كشري ضحك الشاب وقال كنتاكي مصر تحبيه اسبايسي ولا عادي ، قلت له هو في كشري من غير شطة ؟ شطشط يا ابني .

وجدت شبابا عفيفا كنت أمد له يدي بالطعام يتعفف ويقولون أنهم أكلوا رغم أنهم كانوا لا يزالون ينفضون عنهم بقايا النوم وبعضهم كان لا يزال تحت البطانيات التي تأبى أن تتغطى بها في بيتك .

شاهدت عائلات بأكملها ورضع ورغم ما ظهر من البعض أنهم قادمون للمشاهدة وللفسحة إلا أن الغالبية كانوا هناك لمبدأهم ، تقابلت وأصدقاء وتعرفت على أناس جدد ، مددت يدي في درع جميل أثناء صلاة أخوتنا المسيحيين ورددت وراء القس أمين ، كانت تمسك بيدي فتاة مسلمة صغيرة حماسها ألهب حماسي وهي بكل قوة تقول آمين فرددت معها آمين .

وجدت نساء يسرن وحدهن يرددن ما تنادي به الإذاعة أو يصرخون بنداءات الرحيل وحدهن دون أن يتبعهن أحد أو يتبعن هن أحد .

وجدت أساتذة وتعرفت على أحد السفراء يجلس على الرصيف وقد تعدى السبعين من العمر يطالب النظام بالرحيل كل يوم .

هذا غير المعروف من الشخصيات أمثال الدكتورة منى مكرم عبيد ، الدكتورة شيرين أبو النجا ، الداعية صفوت حجازي والكاتب بلال فضل الذي هنأته على مقالاته الأخيرة ومداخلاته بالتليفزيون لنشر الحقائق ، الممثلة جيهان فاضل والجميل أستاذنا إبراهيم عبد المجيد الكاتبة هويدا صالح ، الناقد عمر شهريار وزوجته وطفلته الرضيعة والكثيرين ممن عرفتهم من صورهم على الفيس بوك .

الناس هناك على اختلاف مستوى ثقافاتهم وتعليمهم ودخولهم واتجاهاتهم ، مسلمين ، مسيحيين ، أخوان ، سلف ، ملحدين ، محجبات ومنقبات وغير محجبات كل فئات الشعب من أعلى طبقة لأدناها .

تباينت الهتافات في شكلها لكن فحواها واحد إرحل ولا غير .

منتهى الأمان على أرض التحرير الناس يبتسمون في وجوه بعضهم البعض ، الناس تعاون بعضها البعض ، يطوف عليك شباب وشابات يحملون أكياسا يلتقطون مخلفاتك لتجد أن الميدان أنظف بقعة على أرض مصر .

الجميع كان يتحدث عن موضوع الكنتاكي فوجدت بائعا يرتدي الجلباب الريفي يجلس وأمامه طبقا به ما يشبه المش نظرت له من بعيد ولا أعرف ماذا يبيع ضحك وقال اتفضلي كنتاكي أهه .

ووجدت شباب المتظاهرين استغلوا علب الكشري والأكواب البلاستيكية والحجارة في كتابة شعاراتهم .

كما استغلوا أجسادهم ليكتبوا في تلاحم جميل كلمة : إرحل .

غناء وشعر ، باعة جائلون يحطمون دعوة وقف الحال جاءوا ليبيعوا الشاي والساندويتشات والكشري والحلوى والبسكويت والشيبسي والمياه الغازية ، وجدت امرأة صنعت الكشري بمنزلها وعبأته في علب جاءت تبيعه بالميدان ، باعة أعلام وطعمية وخبز وجرائد وسجائر كل شيء حتى الشرابات ، تحول الميدان لمدينة داخل المدينة ، مدينة بها كل ما تحتاج وأهم ما يميزها الأمن الذي يحققه شباب نقاط التفتيش الذين لا يتهاونون .

لأول مرة أحس أغاني الثورة القديمة وأحس صورة صورة واللي هيخرج من الميدان عمره ما هيبان في الصورة ، بيوت السويس ، غني ودق الجلاجل مطرح ضرب القنابل ، الجميع يغني بلا استثناء ، الجميع يهتف بلا استثناء الجميع يبكي وهم يمرون على صور الشهداء .

وقفت امرأة في نهاية الأربعينات وإن كنت أعتقد أنها تعدتها تمسك بصورة الشهداء المنشورة في المصري اليوم وتقف في مكان عال تقول أنه لا قريب لها بينهم ولكنها تريد حقهم أبكت الجميع بما فيهم أنا والشاعر محمود سيف .

وقفنا تحت المطر لا نتزحزح ولا نفكر بشيء سوى بتنفيذ مطالبنا ، سعدنا بعقد القران كنت أحسه بداية حياة جديدة على أرض جديدة لشعب تجدد .

الناس في الميدان أثبتوا لي أني تغيرت وهم أيضا وأن هؤلاء البشر يرسمون خريطة جديدة لمصر خريطة منقوش عليها بحروف من نور .. حرية ... كرامة ... عدل .

8/2/2011


هناك تعليقان (2):

خالد ابوزيد يقول...

الصديق رباب السلام عليكم
اعتذر عن تأخرى فى مشاهدة موقعك الخاص لاننى بالفعل كنت ابحث عن بريدك اللاكترونى لارسل اليكى موضوعات لعلها تليق بثقافتك الواسعة فانا اكتب وليس بانتظام وقرات كتاباتك وهى جيدة جدا من وجهة نظرى وتنم عن ثقافة واسعة ودقة فى الكلمات واختيار الالفاظ المعبرة عن الحدث او الموقف
خالد ابوزيد

Bahaa Talat يقول...

تحياتي واحترامي الشديد لكتاباتك وأسلوبك المميز وأتطلع للتواصل، وإن كنت متأخر جدا في مجال متابعة الأدبيات المميزة والمدونات لأبناء وطني وتبادل الأعمال معهم، ولكن البداية قد تخطيتها بمتابعة عدد من المدونات العربية المميزة ومدونتك في الطليعة

حواري لجريدة السياسة الكويتية

رباب كساب: حان وقت تجديد دماء الساحة الأدبية أجرت الحوار شروق مدحت  تمردت على الظروف المحيطة ،رافضة الاستسلام لعادات وت...