دعابة حنين
يوم الجمعة، إجازة، هي تصحو مبكرة، لا تترك لأهل
الدار فرصة للاستمتاع بسويعات نوم زائدة، تظل تعمل بالمطبخ، تصل لمسامعي أصوات ارتطام
الحلل والأطباق، صوت التنفيض، موتور الغسالة العادية ورجرجتها على بلاط الحمام،
مرات تغير الموتور، مرات تغير الجسم الخارجي، مرات تغير حلتها الداخلية ولا مرة
فكرت في شراء غسالةٍ جديدةٍ، لم تبدلها إلا حين أتت بغسالة أوتوماتيكية فتبدل وجه
الحياة، وتبدلت حياتي أنا، لم أبق من طقس الغسيل إلا على محبتي لنشره، كنت أضعه
على الحبال بفنٍ ممزوجٍ باستمتاعٍ عجيب، قد آخذ فيه وقتًا طويلًا بينما هي تتعجلني
وقد اخترعت مهمة أخرى لها ولي، هكذا هي كامرأة عاملة في يوم الإجازة، سنوات العمر
تمضي بلا إجازات حقيقية، لا مرح، لا خروج، طاحونة، مرات في الصيف كانت تلملمنا صغارا
وتذهب بنا لحديقة المدينة، ألقي نظرة على الطاووس بخيلائه المزيفة، أمرح لرؤية
النسناس، أفكر في محبس العصافير، ألعب بالكرة مع أخوتي، ثم أجلس بقية الساعات،
تنفذ قوتي سريعًا، وأَمَّل أسرع.
إنه يوم الجمعة، يصحو على أصواتها المعتادة وحركتها
التي توقظ الجميع، يسعل سعلته المعتادة، كان يدخن بشراهة، صدره كل صباح ينتفض
انتفاضة العودة للحياة، يسعل مرتين، ثم يتمدد شاخصًا في الفراغ، كنت ألحق به
وأستلقي إلى جواره حتى يُلقي غطاءه ويترك سريره، سيجارته الأولى في الحمام طقس
يومي بصحبةِ جريدة الأمس التي لا أظن أنه ترك بها خبرًا دون قراءة!
يبدي تبرمه من جلبة الصباح التي تصنعها هي يوم
الأجازة، بينما يعرف تماما أنه اليوم الوحيد الذي عليها أنْ تغسل وتمسح وترتب كل
شيء وتعد طعام الأسبوع.
يترك البيت ويخرج، يعود بالعيش البلدي الساخن
وأقراص الطعمية والفول، لا ينسى الجرجير، يدخل المطبخ يعد طبق فول مخصوص موقع
بإمضائه، مذاقه يختلف عن أي فول أكلته، يسلق البطاطس، يحمر فصيِّ ثوم، يضع عليهما
حبة طماطم معصورة يغرقها بالشطة الحمراء والملح والكمون ثم يهرس البطاطس المسلوقة
على الخلطة طبق كان يسعدني رؤيته على طبلية الجمعة التي تجمعنا لوجبة واحدة جميعا.
مرات كنت أحب أن أعاند جلبتها وأظل في سريري في
انتظاره، بعدما يعد كل شيء – يسعد بفعله ولا يحب أن يقوم أحد بدوره – وعلى وجهه
ابتسامة محب، يجمع أحبته حوله، أحب تلك القبلة الصباحية، أعشق دلاله لي، حتى بعدما
صرت أعمل كان يقف في انتظاري بالشرفة، وما إن يراني اقتربت يلوح لي وألوح له كأنا
حبيبين مزقهما الشوق، يفتح لي الباب وقد أمرها أن تأتي بالغداء على الفور.
تنفض يدها من غسيلها وتأتي لتجلس معنا، قد تفتعل
شجارا كالعادة، يخمده بقول حاسم، أو تصمت وتدع ساعة النحس التي تسكن اليوم تمر دون
انتصار بهزيمة ساحقة تحدث نادرا.
كثير ما بحثت في يوم الجمعة عن ساعة الإجابة، ما
طلتها يوما، وما حققتها لي هي إلا نادرا حين كانت لا تستجيب لساعة النحس.
الجمع تبدلت، ما عاد، وما عدت، كل جمعة أغيب فيها
أذكر نفسي أن الماضي لا يعود، حين أرجع إليها أكتشف بعد المسافة بين ما كان وما
صرنا إليه، لا إفطار، غداءنا فيه ضيوف جدد، صغار لا يهتمون لشيء، لا يعبأون إلا
لأنفسهم، صعب إرضاءهم، كنت أيضا صعبة الإرضاء، لكني كنت أهابه، هم لا يهابون أحد!
لا أملك قدرته على التدليل، لا أملك صبره فقط لديِّ عصبيته وعصبيتها.
اليوم جمعة، صباح في مدينة مختلفة، مدينة لا تنام،
لكنها يوم الجمعة مختلفة، إنه معي، يجلس بصحبتي على مقهاي، يدخن الشيشة، لم أفزع
كما فزعت من قبل، اليوم لن أقول له دخن بعيدا عني، قد أشاهد معه مباراة للأهلي، لن
أجعله يترك البيت ليشاهدها، أو أظل في الشرفة حتى ينتهي من المشاهدة، سآتيه أنا
بالفاكهة التي يحب مثلما كان يفعل حين يرى العنب قد ظهر فيحضره لي على الفور،
هل نتبادل الأدوار؟
لا يمكنني مبادلته.. لا أملك قلبه.
الشوارع في المدينة التي لا تنام صباح الجمعة شبه
خالية، أنا وهو اليوم وحدنا نسير سويا، أحب أن يستمتع معي بهذا الهدوء، بتلك
النسمات الباردة، والسير وسط القاهرة الخديوية، أعرف أني سأجد سبيلا لنتحدث، وأجد
لديه معلومات كالعادة، يفتح معي تاريخ المكان، يحدثني عن الطرز المعمارية
الأوروبية للعمارات، يرصد معي التشوه الذي فعلته بعمارة المكان المحال التجارية
الجديدة بلافتتها الضخمة غير الملائمة.
نفتقد جلبتها الصباحية، أصوات ارتطام الحلل، صوت
الغسالة، نضحك، نضحك كثيرا ونحن نتذكر، على المقهى أترك له الجريدة ليحل الكلمات
المتقاطعة، أخبره عن اللعبة الجديدة (السودوكو) ؛ لن أضايقه وأتلف كلماته
المتقاطعة أو أسطرها في صفحة بيضاء، اشتريت لي واحدة – لم أعد أحل الكلمات
المتقاطعة – وجلست بصحبة قلمي أحلها مثله، ماذا لو دخلنا سينما في شارع عماد الدين
أو طلعت حرب؟!
لم أدخل سينما معه من قبل، ستغار هي غيرة لا حدود
لها لو علمت، كان يقول علينا ضرتين، لم تفهم يوما هذا الحب، ولم أفهم يوما سر
العداء، لم يعد هناك ما يثير بيني وبينها العداء.
اليوم الجمعة، هي تتصل بي، أظنها تحس الأمر، أعتذر
عن المجيء، لدي عمل، لا تتفهم كثيرا الأمر، يحل الصمت، لا داعي لاستدعاء الساعة
المنحوسة، كل المكالمات لا تستغرق أكثر من دقيقة وأحيانا تزيد قليلا.
أنا وحدي بدونهم، الشوارع التي تمنيت أن أعرفها معه
ها أنا أسير بصحبته، يدي في يده، أخبرته أن مهمة عمله السنوية التي كان يسافر من
أجلها القاهرة كل عام كان يقضيها بالقرب من محل سكني، وأني من هذه اللحظة لن أجعله يحتاج شيئا، لن أجعلها تُحمله كل تلك
الأطعمة التي كانت ترسله بها كما لو أنه ذاهب إلى مجاعة وليست القاهرة العامرة.
لن أؤخره عن الصلاة في رحاب الطاهرة، سأنهي جولتنا
على عجل، وأذهب لأعد له وجبة شهية قبل أن أنطلق به لمناطق أحبها، أعرف أنه يحب
الطعام الحريف، سجق زيزو في انتظار محبيه دائما، سأتلهف لأبرد فمي بينما هو لا
يهتم فالأمر بالنسبة له عادياً.
أبحث عن مقهى أحبه بين مقاهي شارع المعز، جلسنا،
طلبت قهوتي وطلب شاي خمسينة، من نظرةِ عينيه عرفت أنَّه أحب المكان وأني اخترت اختيارا
صحيحا، أخبرني عن زياراتٍ سابقة للمكان، ذكر لي تاريخها، تمامًا مثلما كان يذكر لي
متى وكيف فقد كتابًا لكن بغير حسرة فقد كتاب، تتهادى ذكرياته كما موج النهر.
لن أعرفه بصويحباتي، له رأي لا يتغير ( البنات تفسد
بعضها البعض) سأل عنهن، ذكرت أسماءَهن، رويتُ حكاياتهن، لمحتُ في عينيه الدموع،
الألم، لم أتركه يتألم نقلت دفة الحديث لموضوع أخر.
الشوارع امتلأت، ما عادت جمعة الصباح، هي تجلس الآن
أمام التلفاز، تتابع برامجها المعتادة، بينما نحن نخترق الزحام في شارع 26 يوليو،
يضحك وهو يتذكرها وهي تعرفه باسمه القديم شارع فؤاد.
هي أيضًا لها ذكريات حياة لسنوات أربع قضتهم في تلك
المدينة، في نفس مكان إقامتي، هل أعيد التاريخ، أم أن لي من نصيب أيامهما نصيب؟!!
المساء حَلَّ قبل ساعات ولم آخذه لكل المناطق التي
أحب، كنت أزور معه أماكن كثيرة أحببتها وزرت بعضها بعد ذلك وأكثرت، لكني لم أقف
معه على شاطئ النيل، ها أنا معه بقرب النهر، أتت صغيرة متطفلة أعطته وردة ودعت
الله أنْ يخليني له، ضحكنا، ضحكنا كثيرا.
انتهى اليوم، هل تذَّكر أنه يوم جمعة، وأنه معي؟!!
في جلسته على السرير الوحيد بالبيت كان هادئا، ثمة
مسحة من نور على وجهه الأسمر، ابتسامته النادرة أضاءت محياه، أأسعدته؟ قد أكون
فعلت.
أغمض عينيه،
أظنه نام، لن أوقظه!
تم نشر النص بعدد فبراير من مجلة إبداع 2016