اليوم جمعة، حجرة واسعة، سرير أبيض، انعكس نوره في عيني، وضعت حقيبتي على الأرض جانباً، توجهت للمقعد أسفل النافذة وعيناي لا تفارقان الأبيض الفسيح، لم يقل لهم أحد إني لا أحب الأَسرّة البيضاء!.
كان يوم جمعة، حجرة ضيقة، سرير أبيض صغير، ترقد عليه في وداعة، لم أكن أعرف ما بها، كل ما أذكره أني رأيتها قبل ذلك جالسة وسط نسوة كثيرات، أختي رضيعة على يدي أمي، بينما أنا أنزوي في ركن بعيد بفستاني الوردي وضفائري ذات الشرائط، لا أحد يحس بي، سمراء صغيرة قصيرة تتخفى وراء ستارة سميكة من القطيفة، أرقبهم جميعاً.
دموع كثيرة تنهمر، آهات تشق الصدور، هي كانت تلطم خديها، لونها الأبيض كان شاحباً، تردد كلمات لوم لا تنتهي لروحها فقط، لم أكن أعرف لماذا تلوم نفسها.
أخذت وقتاً طويلاً لأقترب من السرير الأبيض، وقتاً كان كافياً لأهزم قلقي، رعبي، كراهيتي، جميعهم تركوا الحياة وتركوني على سرير أبيض.
أخذت مكاناً صغيراً، وضعت الوسادة خلف ظهري، ارتكنت إلى الحائط الخلفي، وبحثت في القنوات عن فيلم قديم كالعادة، جزء مني ذهب إليها، إلى صورتها المعلقة على الحائط في غرفتها الواسعة ذات الأرضية الخشبية، كانت ترتدي «تاييراً» أخضر، وجهها الأبيض النضر ونظرتها المتعالية كانا يبعثان في نفسي الرهبة، عيناها الضيقتان كانا بعمق جب كلما صرخت بداخله غاب صوتي طويلاً حتى عاد، وجه يختلف عن ذلك الغارق في دمعه، اللائم لنفسه في نهار جمعة بعيدة.
يوم جمعة انتظر أبي أن يأتي الصبي الذي اقترب من السابعة عشرة من عمره كعادته، كنت أيضاً أنتظره، رؤياه بهجة، شيء ما يجذبني نحوه، كان في لونها لكن عينيه واسعتان، له شعر أجعد، ذقن مدببة، جبهة عريضة، روح نقية، ابتسامة عذبة، يحملني ويضحك، أضحك وأكف عن بكائي، أهدأ بصحبته.
مازلت أذكره، وأذكر يوم جاؤوا بخبر عنه، نزل أبي السلالم عدواً، شاهدته من النافذة يكمل ارتداء قميصه في الشارع وهو ينادي عليه، لم أفهم شيئاً، لكن حين جاء يوم الجمعة، كان الأسود شريكاً، البكاء والنحيب مصاحباً للجميع، الذهول أيضاً على الوجوه، أختي الرضيعة كثيرة البكاء كانت صامتة.
أما هي فقد أذابها الحزن، لم تره، لم تسمع صوته، لم تحتضنه، جاءت في طائرة من بلد آخر، أمرضتها الحسرة، فسكنت تلك الحجرة الضيقة وذلك السرير الأبيض، لأول مرة كنت ألتقي بهذا الأبيض، بدا لي لوناً رسمياً، لوناً للغربة، للمرض، للموت!.
أخذني أبي الذي ماتت ابتسامة عينيه إلى المدينة الكبيرة، كنت فرحة بركوب الحافلة، الطريق، وعمود الطعام الذي ملأته أمي بمأكولات شهية، كانت ترقد على سريرها الأبيض، لم تحس بنا، كانت بعيدة، جلسوا حولها، المكان شاحب كالمرض، انسحبت تدريجياً نحو النافذة ومنها إلى الحديقة، للورود، للأخضر، بت هناك فترة ألعب بينما هم يلتفون حولها، سألت عنه، كانوا يخفون كل شيء، يتجنبون الحديث، يمررون عبارات غريبة لا أفهمها، مرة عرجت على النادي، وجدت صورته هناك صورة كبيرة بالأبيض والأسود ، كان بطلاً للعبة من الألعاب، وقفت أمامها وشوقي إليه جعلني أحدثه، أسأله عن الغياب، عن الضحكات التي ما عادت تعرف طريقها إلينا، عن أبي الذي ما عاد أبي، كانت أصواتهم تقطع علي حديثي معه، جذبت يد أبي لأسأله عن الشريط الأسود الموضوع على طرف الصورة، ما جاءتني إجابته لكني سمعت نشيج البعض وكلمات حسرة كثيرة.
ترى لو ... ؟!! السنون بعيدة، الجمعة تلي الجمعة، ما عادت عمتي ولا عاد ولدها الذي لم يأت يوماً ليصطحبني لنلعب وسط الأخضر، ما عاد ليحملني لنعبر شريط القطار، ما كان لنا أن نعبر شريط الحياة معاً.
السرير الفسيح المريح كان شوكاً، ذكراه وذكراها وصورة أبي الأخيرة تداهمني. كلما جلست انتفضت، اتصلت بخدمة الغرف غاضبة عليهم أن يأتوني بسرير غير الأبيض، ألقيت بكلماتي دفعة واحدة وأنا أكاد أصرخ بهم، لم يفهوا شيئاً من كلماتي التي أعدتها مراراً قبل أن يأتيني صمتهم ثم صفارة طويلة!.
المقال منشور بمجلة العربية بعدد يناير 2016
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق