قبل سنوات أربع وجدت نفسها تنكمش وتنكمش، تلعب في أطراف ضفائرها تكاد تقطعها، تكتم ابتسامة تصارع الوجود حتى لا تتحول إلى صرخة في وجه الدنيا التي اعتادت أن تدير ظهرها إليها، واصلت انكماشها واللعب في ضفائرها، وبرعونة طفلة ألقت جدائلها على وجهي وأعطتني ظهرها ثم دخلت وحدها قوقعتها واختفت، لم تعد بهية، لم تعد تأتيني بخرافاتها، بعنادها، ذهبت وذهبت معها بصيرتها، ما تراه بمرآتها، تركتني وحدي، أشعر بالوحشة، بفراغ قاتل، طال غيابها، تمنيت أنْ تمنحني فرصة أخرى، وقفت أمام بوابتها -مرآتها -وقدمت لها طلبا مدموغا مشفوعا بإمضاءات كل من تعرف ومن تُفضل، دعوت كل أحبائها ليصطفوا معي في الطابور وقفنا جميعا بلا تردد نناديها، كان معي أوراقا كثيرة وقلما سارع الجمع بتذييل الورق بحروف أسمائهم وتشفعاتهم، وانتظرنا طويلا، ثم مضوا إلى حالهم وتركوني وحدي، أعيش بلا روح، بلا بهية! ولما فرغت حِيلي عادت بعدما مَرَّ وقت طويل قبل أنْ تعود وتعود بهجتي إليِّ.
أما اليوم فأنا وهي معا داخل القوقعة، نصبر، نشاهد، نحلل ما نرى، نغرق في رسم صور لكل حدث، أو نبتعد عن كل شيء، نرقص بهيستريا، نغني بأصوات زاعقة كريهة، نسب، نلعن، نضحك وحين يشتد بي الكرب وأنا أحاول ترتيب أيامي المبعثرة واستعادة ما راح مني أجدها تتسحب وتأخذ شالي البنفسجي الذي اعتقدت أنه ضاع مني ذات شتاء وترقص على أنغام ( ألف ليلة وليلة ) ترقص مثلما كنت أفعل، تردد مع ( الست ) المقاطع من قلبها، تضغط على حروف الكلام كما كنت أفعل تماما عادت بي بهية لنفسي التي نسيتها، لم يكن الجسد حينها يطيع النغم فقط وإنما كان يُمثل الكلمة بحركته، بهية التي تغلفني بالأمل وتعطيني بعضا منقوتها تستعيدني ببطء وبروية بفعل ما كنت أحبه وتركتُه بلا أسباب تستحق.
تغيرت بهية في الآونة الأخيرة، أحسها كبرت كثيرا عما مضى، أكبر من عمرها الحقيقي – كم عمرها؟ لا أعرف حقيقة –كلما هممت بالانفعال كعادتي، بالرد على بعض الحماقات التي تطالني تمسك لساني، تعتصر غضبي، تدفع بالصمت لشراييني لأهدأ، لا أهدأ لكني أمتثل لها، هي أكثر مني خبرة، هي تعرف أكثر، لكن آتون الغضب المشتعل لا تهدأ ناره، لم أكن يوما ممن يكتمون غضبهم، سريعة الإنفعال وسريعة الرضا، أنا متعبة يا بهية، هكذا أصرخ فيها فتبتسم لي وتربت على ظهري فتطمئن روحي لما تفعل، وإن كنت لأول مرة لا أعرف كيف ستواجه وكيف ستخرج بنا من القوقعة؟!
ضَبَطتني أنظر ليديِّ، لا أعرفهما بعدما قصصت أظافري، صارت أصابعي بلا أظافر طويلة، الأظافر التي كنت أحرص عليها ليس لجمالها وإنما لأنها حصن من حصوني، معول بنائي الهام، تخلصت منها في لحظة وأنا أعمل بجد في ترتيب حياة جديدة، خفت عليها أن تتلوث، أن تتغير فأمقتها، بعض من جنوني ليس إلا، سأنتظرها لتطول من جديد على ألا أراها مريضة ضعيفة، لحظتها رمقتني بعين عجوز خبير نافذ الصبر وقالت : بقدر ما نعرف لا نعرف!
إنها بهية، المباغتة، الشقية، البراوية، المتلونة، الكبيرة، الصغيرة التي تصفع بلا صفعات، تقتل بلا دماء، تفرح بلا صوت، تبكي بلا دموع، تأنس للدنيا بلا ناس، تعرف ولا تعرف، هي البحر الذي يفخرون بتوقع ثورته وهدوئه لكنهم حقا لا يعلمون شيئا!
رباب كساب
30/7/2016
تم النشر على موقع عابر في 30/7/2016