الأحد، 17 يوليو 2016

يوميات بهية (5)


لم أكن أدرك وجودها، سنوات مرت ولم أعرفها، لا أعرف متى ظهرت، ذات يوم وجدتها في حجرتي، تجلس أمام مرآتي، اتخذت من هذا المكان مستقرا، تحلت بصمت عجيب، الفضول يقتلني لأعرف من تكون، تشاركني كل شيء أنا التي لا أحب الشراكة، لم أعتدها سريعا، لم تكن حينها تعرف الكلام أو كانت تعرف وتصر على الصمت لأموت فضولا، معها أغرق في بحار الحيرة.

تختفي وتظهر وفي كل مرة أجدها مختلفة، تهتم بنفسها على عكسي تماما، ترعى جمالها، تتفنن في تصفيف شعرها، كل ما لا أفعله تفعله هي بمحبة غريبة لروحها، كنت أنظر إليها وأتذكر أختي التي لم تكن تفارق المرآة هي الأخرى ولا تسلم من سخريتي، بينما أُهمل وأُهمل ولا أَكف عن إهمال روحي، بدت وكأنها تُعلمني كيف هي المرأة!

تركت كل شيء وتابعتها، كل ما كانت تفعله في صمت يثير حيرتي ويدفعني لتقليدها، للمرة الأولى أفكر في تقليد أحد، ما كنت ألتفت لشيء خارج حلمي الذي كان يطاردني في صحوي أكثر من منامي.

عادت في يوم لتجدني أفعل مثلها، اِبتَسَمَتْ وهي تنظر لمرآتها – مرآتي – بعمق كأنها تأتي بالغيب ثم جلست ترتق أثوابا تسعة، تعجبت العدد، رصتهم إلى جوارها وبدأت العمل فما كان مني أنا التي أشتاق لنص جديد يحمل مني ويخبر عني أتابعها في شغف وبداخلي رغبة قوية في أن أكتبها قبل أن تسمح لي هي بذلك بعد سنوات.

كنت لحظتها أشعر بأن بلاد الحروف بعيدة، وساحات الكتابة ضيقة كثقب إبرةوقد كانت في رحابة الكون، لا أقوى على ما أحمل ولا أقدر على الخلاص، كنت ألمس دموع الليل وأعد نجوم النهار،شعرت هي بمعاناتي،ربتت على كتفي بلا كلام ونظرات عينيها تملأني إطمئنانا وثقة وتدعوني للعيشِ بملء روحي، كانت تزرع ابتسامتها في نفسي وترحل لا أعرف إلى أين لكنها تعود؛ اليوم جاءت في صمتها المعتاد تمسك بأثوابها، تعمل بهدوء، كأنها تُشكل العالم، ناديتها، لم ترد.

لم أختر اسمي لكنني أسميتها بهية، لم تعترض، أحببتها وصمتها، مَرَّ عامنا الأول معا أتخبط في حيرتي، جزعي، رهبتي، تشككي، بينما هي تفعل ما تريد بغير كلام، لم تكن تشاكسني بعد، لم تكن حينها تلقي بلفسفاتها وجملها المثيرة المجنونة، لم أكن أعرفها وفي العيد الأول جلست ترتق أثوابها التسعة، وترمم شقوق جدرانها الأربعة، تسعة أثواب وأربعة جدران، وسطور عشر، وعام وحيد هو كل العمر، لسان لم يتعلم كلامنا، فقط يتخبط في حرف الباء ويحول كل ما يريد لصرخات ودموع، أعطيتها قلما قد أفك بسحره طلاسم طلباتها، زاد الصمت حين لم أفك رموز خطوطها المتشابكة، تسعة أثواب ! وغطاء أبيض كتلك الصفحة قبل الخطوط، كتلك الذاكرة قبل أن تمتلئ بصورٍ شتى، كتلك الحنجرة قبل أنْ تصرخ لأول مرة، بحثت عنها في أحلامي كانت هناك معي نتساند على الجدران والمقاعد والأسرة، نظرت لقدميها الصغيرتين، لعينيها الواسعتين وسجلت بكاميرا هاتفي حركاتها، بدت لي على كبرها صغيرة تحبو، فرحت بخطوتها الأولى، انتظرتها طويلا لتنطق انتظرت كثيرا لتكون منا، مثلنا، وحين نَطَقَتْ كنت أنتظر أنا من يُعيدني لأمان الرحم.

رباب كساب

17/7/2016

المقال منشور على موقع عابر في 18/7/2016

ليست هناك تعليقات:

حواري لجريدة السياسة الكويتية

رباب كساب: حان وقت تجديد دماء الساحة الأدبية أجرت الحوار شروق مدحت  تمردت على الظروف المحيطة ،رافضة الاستسلام لعادات وت...