أربع كلمات
عشر سنوات من الغياب والغربة عُدت بعدها لمرتع صباي حيث قريتي الجميلة وشجرة الصفصاف العتيقة ، تلك التي كنت أتعلق بشعرها أقصد بفروعها المتهدلة ، أجلس تحتها أرقب السماء وقت الغروب وهي تتخفى وراء الأشجار .
كانت الشمس تسقط شيئا فشيئا ، يغيب احمرارها مع زحف الليل بقتامته حثيثا نحوها لتأفل وتتركني وهي ننتظر عودتها كل صباح ، لم يكن هناك أجمل من مغيب الشمس سوى شروقها .
ولم أكن أدري أن الغروب يختلف من مكان لآخر إلا بعد أنْ هجرت قريتي التي كان أفول الشمس فيها لا مثيل له .
عدت متلهفة لمكاني المفضل بعد غيبة طويلة لم أعد فيها ، ولو ليوم واحد ، ولم أكن أعلم أني سأقابلها مرة أخرى !
وجدتها تجلس نفس جلستنا القديمة مسندة رأسها إلى يدها ، ظننتها امرأة أخرى أول الأمر ، لكني أعرف أنها هي ؛ أنا أعرفها رغم الاغتراب .
ناديت : هدى .
التفتت نحو الصوت ، رأتني هَبَّت واقفة ، كنت غاضبة منها فلم تصلني منها رسالة واحدة ردا على خطاباتي العديدة ، عَدَت نحوي احتضنتني ، رغم غضبي منها أخذتها في حضني شعرت أنَّ هناك شيئا ما استرددته بهذا العناق الحميم .
كانت عيني تعاتبها وتجيبني عينيها بإجابات لم افهمها ، حين أحسّت عجزي عن فهمها بدأت تهرب .
تحدثنا في ذكرياتنا دون أن تسأل أي منا عن حاضرنا ، تكلمنا عن سابق أيامنا ولهونا في هذا المكان ، ضحكنا حين ذكرنا إصرارنا على الذهاب مع والدها إلى الحقل في يوم الري لرؤية ماكينة الري وهي تسحب الماء من الترعة القريبة من الأرض فتسقي الأرض ( الشراقي ) حتى تروي ظمأها ، وأيام كنا نجلس إلى جواره لنذاكر ، وكان يستمع إلينا فتلتبس عليه الأمور فيستوضح ما نقوله .
كنت أشرح له وأنا فرحة بدور المدرسة وأتخذ وضع أبي وأقلده وهو يشرح للتلاميذ في المدرسة بينما تضحك هي وتقول لأبيها : دايما كدة يابا تعطلنا .
فيرد بعفويته الجميلة : عاوز أفهم يا بت يعني ما افهمش .
تحدثنا عن أحلامنا كنت أريد أن أنهي الجامعة وأتزوج وأنجب أطفالا كثيرين في حين حلمت هي بالهرب بعيدا عن القرية إلى المدينة الواسعة ، إلى تلك الأبراج الأسمنتية التي تملأ شوارع المدينة بعيدا عن الحقول ، والأشجار ، والدور المتجاورة ، ووسط الدار ،وعشة الفراخ ،وحظيرة المواشي ، وخبيز العيش كل طلعة صبح .
سألتها عن أخبارها صمتت لم ترد ، لم تكن كثيرة الصمت هكذا ، كانت لحظة أن تراني تخرج ما في جعبتها دون أن تخفي شيئا رغم أني لست كذلك .
حاولت دفعها لتتكلم ولكنها أصرت على الصمت الذي بددته هي بسؤال كنت أعلم أنها وغيرها سيسألونه .
سألتني : عندك ولاد ؟
لم يكن بوسعي الإجابة فأنا قد زرعت أرضا لم تنبت نبتة واحدة أشفقت علىِّ ، علمت أنَّ لها ولدا وبنتا ، وحين سألتها عن زوجها عادت لصمتها ثم قالت : انفصلنا .
لم تخبرني السبب كنت آخذ منها الكلمات كمن ينتظر خروج روحا من جسد يتشبث بها ، الكلمات تخرج منها بصعوبة تقف في حلقها فتعجز عن النطق بها .
لازلنا في نفس جلستنا نتطلع إلى السماء كسابق عهدنا في صمت عجيب قطعته هي فجأة لتقول : طمعت ، ضعفت ، خُنت ، طُردت .
هزتني الكلمات التي تشرح نفسها ، ورأت بعينيها ما أصاب وجهي حين سمعتها .
بكت وقالت : هي دي حكايتي .
قلت لها وقد اعتصرني الألم اعتصارا : البكا دا ندم ؟
قالت : ندمت من زمان دا حسرة ، لو كنت أعرف لو ما طمعت ما كنت ضعفت ، ولا كنت خنت ، وكان زماني جنب ولادي .
ووجدتني أقول : الحال واحد يا صاحبتي حياتي أنا كمان في أربع كلمات ، بس أربعة مش أكتر غربة ، وحدة ، حرمان ، ضياع .
صديقتين كنا ، مختلفتين عشنا ، إلا أنه كان هناك ما يجمعنا دائما هناك ما يربطنا ، وإذا بنا تتشابه نهايتنا ،وإن اختلفت التفاصيل .
قمنا وقد أمست بنا الدنيا مشينا متباعدتين كانت الدموع كل ما بقى لها ولي بعد زواج دام عشر سنوات لم أكن فيه سوى امرأة وحيدة لا حياة لها في بلد غريب عنها وزوج ملََّ الأطباء والعمليات ، ويئس من الإنجاب فقرر إلقائي من طريقه ، كفاه ما أنفقه من ثمن الغربة على أرضٍ بور .
والآن آن لنا أن نفترق ، وقفنا والدمع في مآقينا لا يكف عن الانهمار ، ها هو مفترق الطرق أعطيت لها ظهري وأولتني ظهرها ، ومضت ، ومضيت .
رباب كساب
14/1/2007
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق