2
الطريق إليها مليءٌ بترهات الحلم ، كلما فضضنا بكارتها تسقط في هوةِ السراب فلا الصيفُ خريف ولا الربيعُ شتاء .
*********
إنه يخاف .هذا ما توصَّل له بعد طول تفكير ، لم يكن يُفكِّر بغير هيام ولا أنْ يطفئ رغبته بعيدًا عنها ، إنه يخشى الفشلَ معها ، خيبات كثيرة فرضها العمر المتسرب فبات يكبتُ ويكبتُ رغبته إلا أنها اليوم تُلِحُّ بشِدَّة ، تلفَحُه .عاد إلى البيت في المساء ليجدها في انتظاره ، وعلى وجهها ترقُّبٌ غريبٌ ، عَلِمَ أنها شعرت به ، شعرت بدخائله ، وانتظرت .باغتته نفسه بسؤال : تراها ستكتشف أني عُدتُ إليها خائبًا ؟بالطبع سيسعدُها أنه لا سواها ، لكني لن أترك لها الفرصة للتشفِّي ، لن أدعها تعتقد أنه لا سواها فمازلت "سعيد" ، مازلتُ ذلكَ الرجل الذي تسعى لمعرفته النساء .رسم على وجهه ابتسامةً وهو يُلقي عليها التحية ، جلس إلى جوارها يُمازِحُها .روى لها عن شِجار جمال وعزة الجديد ، تناولا عشاءَهما .جاهدًا يُخفي إحساسه ، لا يروقه ابتسامُها الذي يدفع بالتضاؤل إلى نفسه ، هي تحسُّ به دائمًا ، وبالتأكيد تحسُّ عودته خائبًا .
**********
إنه يحاربُ خريفَه ، وينزوي عنِّي أنا ربيعه ، لو يعلم كم أحسُّ به ما بَعُدَ عنِّي هكذا .كانت هيام تحادث روحها عن روحها التي تتسرب منها .طوال عمره وهو معبودهنَّ ، كانت ترتضي منه ما تبقَّى لها ، طالما أنـَّه لا يخون ، طالما لا يعرف سريرًا غير سريرها ولا حضنًا سواها .تصبر على نظراته وهمسه التليفونيِّ ، لقاءاته ، أجندته التي تمتلئ عن آخرها بأرقام نساء ، لا تعرف متى وأين يقابلهنَّ ، والآن ذاكرة هاتفه تزخر بهنَّ أيضًا .لكنها تفوقهنَّ جميعًا فهي امرأته ، أم ابنه ، رفيقته ، هي من يأتيها ليلاً حاملاً كلَّ همومه ليلقي بها في حضنها وحدها دونهن ، هي التي لا يخجل منها ، و يبكي على صدرها ، هي هيامه وإلهامه كما كان يخبرها .تعلم أنَّ غياب وحيه منذ عام مضى وخفوت قلمه وإبداعه يسبِّبُ له الأرقَ ويشعره بالعجز ، يقاوم في جبهة أخرى بدلاً من أنْ يسلِّم بأنَّ للعمر عاملاً .هو يحس أنها تعرف ما يدور بخلده ويكابر ، يريد انتصارًا وهميًّا أمامها هي التي تراه بطلها على الدوام .حاولت أن تشغله بأخبار الجيران وخاصةً هويدا التي خرجت اليوم في مظهر صارخ على غير المعتاد ، وأسيل التي لم تكف عن شجارها مع زوجة البواب وفي النهاية اتصال ابنهما من الخارج .جرته ليتحدث عن شجار جمال وعزة وخاصةً بعد أن اتصلت بها عزة وأطالت الحديث .قالت في نفسها : يا لمقاومتك يا سعيد .قررت أن تقطع عليه الحرب التي شنها ويخوضها وحده .اقتربت منه ، أطالت النظر لعينيه حتى أنه سألها عما بها فقالت : اشتقت إليك .ابتسم وقد زادت كلماتها وجعَه ، وإحساسه الرهيب بأنها تكشف خباياه .
***********
استيقظت في صباح اليوم التالي ورغبتها أكيدةٌ في مواصلة ما بدأته ، لقد اختارت الطريق وعليها أن تكمله ، كفاها ما مرَّ بها من شتاء لتستدعي الربيع .موسيقى هادئة انبعثت من جهاز حاسوبها صاحبتها وهي تصارع نفسها الصارخة بمظهرها الجديد وروحها التي تصر على هدوئها وقديم أيامها ، لازال شتاؤها يحارب مقدِمَ الربيع .قابلها سعيد على السلم ، هالَـهُ مظهرُها لكنه لم ينطق ، ورغم ما يستعر بداخله من رغبة لم تنطفئ لم تُـثِر بداخله آلامه وإنما استدعت ذكرى والدها صديقه ووالدتها رحمهما الله .- صباح الخير يا عمي .- صباح الخير يا هويدا .وقبل أن تسمع رد الصباح كانت قد نهبت السلالم نهبًا ؛ لتستقر في سيارتها تديرها وتنطلق .شغلته الفتاة التي ولدت على يديه وعاشت سنوات عمرها كلها بجواره ، يعلمها كما يعلم نفسه .انشغل عن حريق ذاته بالتغير الذي طرأ عليها وقد كان في طريقه للمجلس الأعلى للثقافة حيث موعده مع الأمين العام للمجلس .في سيارتها تحاول لملمة شتات روحها الهاربة مع عقلها الذي يفكر ويفكر ويحاول اختلاق صوراً لما سوف يحدث بعد ساعة من الآن .تتخيل أحاديث وأحاديث لكنها ما كانت تستقر على صورةٍ واحدةٍ .حين طرقت باب حجرته بعد وصولها وعلمها بأنه سأل عنها كانت تحاول أن تخفض من صوت دقات الطبول التي تهزها ويكاد يخرج صوتها من صدرها .استجمعت ما بقى منها ودخلت ، هَبَّ واقفًا يصافحها فانتشى بعبير عطرها الأخَّاذ .جلست أمامه تنتظر هطول كلماته التي توقعتها رغم إنها جاءت هادئةً لا تتناسب وما تحمله من إعجاب .- التقرير الذي قدمته أكثر من رائع ، إنه دراسة وليس تقريرًا ، لقد لخصت ما عجز كل مهندسي الشركة إيجازه وتلخيصه ، و وضعت خطةَ عمل ممتازة .صمت برهة ثم أتبع قائلاً : أين كنتِ ؟- أنتظرُ دوري .- لم ألحظك يومًا .- المهم أنَّ التقرير نال إعجاب حضرتك .- سأبدأ في تنفيذ الخطة من اليوم وأنت ستُشرفين عليها ، لكن عديني بشيء .- ماذا ؟- أن تشاركيني أفكارك أولاً بأول ..... أن ألتقي بكِ كلَّ صباح قبل أن تذهبي إلى مكتبك .سمعت جملته، أومأت برأسها ثم توجهت للباب وهي تنظر له نظرة من يُمنِّي بلا وعد ، وأغلقت خلفها الباب سعيدةً بانتصارها الأول .
*********
كعادته جمال يستقبل يومه مع زقزقة العصافير ، يتجه إلى النادي ليمارس هوايته الأثيرة المشي ، وفي أذنه يتردد صوت أم كلثوم من هاتفه الجوال .كان من أشهر مدربي الكرة الطائرة في مصر وأفضل لاعبيها في فترة بعيدة ، الرياضة حياته .صداقته وسعيد كانت أهم علاقات حياته بعد علاقته بعزة زوجته ، تلك الفتاة التي تعرف عليها في ناديه واحدة من أعضائه .كان لها جمالٌ هادئٌ ، بسمة رقيقة ، قلب حنون .كانت فأله الحسن في كل مبارياته .أيامه معها قديمًا كانت عبئًا لا يرهقه ، لا يمله ، كم تحمَّل عصبيتها وضيق خلقها لأتفه الأسباب ، فقط لأنه يحبها .كان يُخرِجُ في الرياضة ضيقَه فيعود إليها كمن وُلِدَ من جديد ، لكنها لا تنسى ، وتكتم ، ويضيق صدرها ، حتى اعتل جسدها فباتت تفقد عزة القديمة ، لم يعد منها شيء فصارت تنغص عليه حياته ، تذكره دائمًا بأنه لم يعد اللاعب الشهير ولا المدرب القدير الذي تحتل صوره صفحات الجرائد ، وإنما عجوز مُسِنٌّ يجب أن يراعي عمره ويراعي تصرفاته ، أن يكف عن مضغ اللبان ولبس الألوان الزاهية ، أنْ يتَّجه إلى الله في أواخر أيامه ، يواظب على قراءة القرآن بدلاً من سماع الأغاني ومتابعة أخبار الفن والرياضة .أن يلتزم دور العاقل الرشيد عند زيارة أحفاده فلا تجده يعدو خلفهم في البيت وينافسهم أكل الحلوى . إنه لا يرى نفسه غير ذلك الرياضي فاره الطول المليء بالحيوية والنشاط ، ماذا تعني السنون غير أرقام في بطاقته الشخصية إذا كان جسده يمتلئ شبابًا وروحه مازالت يانعةً .رغم كل ذلك ، رغم الشجارات التي لا تنتهي لم يفكر يومًا بالانفصال .
************
هيام تحذرها من ثورة جمال عليها وهي لا تبالي ، تؤكد لها أنه سينفجر يومًا ، وقد يكون الانفجار مُصاحبًا لهجر دائم وطلاق في هذا العمر .- طلاق ؟!!!سؤال هزَّ أركانها ، هل يمكن أن يطلقني جمال ؟هل هناك حياة بلا جمال ؟جمال حب عمرها ، إنها تعشقه ، حتى طريقته في مضغ اللبان وألوانه المبهجة ، طفولته الدائمة ، إنها تحبه بكل تفاصيله ، بكل ما يحمل من صفات لكنها لا تعي ما تفعل معه ، كلما شاهدت ربيعها يولِّي ، وخريفها يستوطن أيامها ، تلفحها نيران الغضب ، ويعتصرها الحزن .تحسُّ شبابَها الناضبَ سكينًا يغرسه داخلَها شبابُه المستمرُ .تغارُ من نظرات النساء له في الشارع ، ونظرات الحسرة على تلك العجوز التي تسير إلى جواره .كلما نهرته عن فعل يحبه كلما حزنت ، لكنها لا تستطيع التحكُّم في نفسها .أيُعقلُ أن يتركها ..... أن يطلقها ..... أن تصحو ذات صباح دون الجلبة التي يحدثها حين يستيقظ فيعاجلها بقوله : آسف يا حبيبتي ويقبل جبينها ويمضي إلى النادي !صحتها المتسربة وزيارات الأطباء والعصبية التي أورثها إياها مرض السكري ، كل ذلك يجعلها تئنُّ وتخشى عليه أن يبحث عن ربيع جديد يستحق ربيع أيامه المتجدد .
************
جمعت ما بقى من قواها ومالها وانطلقت صوب مكتب المحامي الذي طلبها ليس لجديد ، وإنما لطلب أتعابه التي تأخرت في دفعها .ذهبت تجرُّ أذيال خيبتها في توفير كامل ما طلب .نظر إليها نظرة غضب وهو يعدُّ النقود التي لم تكن ثلث ما طلب ، قالت في صوتٍ يخلو من أي ضعف أو مهانة : سيكون لديك ما تبقى مع بداية الشهر ، المهم تنتهي من قضيةِ الطلاق .خرجت بعد ذلك تكفكف دمعَها وتحاول السيطرة على أعصابها .في الطريق إلى شقتها تتدافع الذكريات مبدِّدةً سكونًا حاولت أنْ تنشده تحت المطر الخفيف الذي يتساقط بهوادة .أهذه هي النهاية لحب استعذبت كل أيامه ؟ أهذا الذي يقف لها بالمرصاد هو عادل حبيبها الذي حصرت وجودها فيه ؟عاشت تهواه عمرًا ، فإذا بالعمرِ سراب والحلم دموع وأشواك .- أسيل ..... أسيل .التفتت للصوت الذي يناديها ، كان واحدًا من الماضي يُطِلُّ مُجَدِّدًا الذكرى ، سلَّمَت عليه ببرودٍ أحرجه وزاد من خجله ردُّها الاستفزازيُّ عليه حين سألها عن عادل .تركها ومضى مُسرِعًا ، إنها تُثير كلَّ من يكلمها بردودها الجافة وجفائها ، أخذ عادل معه أسيل . أخذ معه الربيع ..... زهوره .... نسائمه ..... أشجاره الوارفة ..... الأحلام .... الضحكات ومضى ، تركها لا تعرف كيف تستردُّ الربيع من جوف الشتاء ؟ لا تعرف كيف
تستعيد حلوَ الليالي من سوء منقلبها ؟لا تدري كيف تثمر شجرتها التي نبتت في بحار الثلج ؟!!!
**********
المطر المتساقط دفع به لأيامٍ قديمة ، أيام كانت تزدان بها وبحبها وبأحلام كانا يحلمانها معًا ، حين يتجدد لقاؤهما بعد موعد مدرستها ، ليسيرا وقد تشابكت أيديهما ، يستدفئان بحر هواهما الذي شهدته كل شوارع حيِّهما ، لازال يحتفظ بصورهما معًا في كل مكان ، لازالت شفتاه تحملان أثر أول قبلاتهما .لازال يحفظ ملامحها حين تنطق باسمه ورعشة شفتيها وهي تقول : أحبك .إنها الأولى والأخيرة .ولكن ، ما عاد عادل لأسيل وما عادت أسيل لعادل .استلقى على سريره ينظر لسقف حجرته التي شهدت أجمل أيامهما معًا ، وبين حين وآخر يتأمل الوسادة التي لم تعد خالية ، باتت تشغلها غيرها ، لكنها ليست هي ، كل النساء كُنَّ أسيل .استيقظت نورا لتجده لازال أرقًا تسأله أن ينام فيقوم غير عابئ بسؤالها ويخرج ، يأتيها صوت التليفزيون فتخرج له : ما بك ؟- لا شيء ، اذهبي لتكملي نومك .- لن أنام إلا إذا نمت أنت .- لا تشغلي بالك لقد شربت الكثير من القهوة اليوم ، إنها السبب .- لا تكذب عليَّ ، صمتت قليلاً ، ثم أتبعت : إنك هكذا منذ أيام .كانت مُحِقَّةً منذ أن أخبره المحامي بأنَّ موقفه في قضية الطلاق قد اهتزَّ وأنَّ أسيل على وشك الطلاق منه وهو لا يعرف النوم .يعيش في انتظار اللحظة التي ينطق فيها القاضي بحكمه .صرخت به نفسه : ماذا تريد منها الآن ؟ كفاك أنانية .لم يرد سؤال نفسه التي دائمًا تواجهه بحقيقته فيهرب منها ، الآن لا مهرب يا عادل ، إنها النهاية ، لقد ذهب ربيعك فلا تأسَ عليه ، قد يكون في الشتاء نجاة ، لكنه أبدًا لا يقتنع .تباغته نورا بنظرة مشفقة وتمضي لحجرتها آسفة ، ليبقى هو وذكرياته وحلمه بأن تظل أسيل به معلقة .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق