أدرت ظهري عنها ، وخرجت من بابٍ لم أعد له مرة أخرى ، كنت أعرف أني وهي لن نتفق أبداً ، تلك التي منطقها الحياة الحب . ساعات من الانتظار حملتني إلى آفاق غريبة بعيدة ، هناك التقيت بالمجهول المنتظر ، وقابلتها ، ألقت بها الصدفة في طريقي ، لا أدري لماذا ؟ نظرت لي بذات النظرة المعبرة قاصدة حوارا لم يكتمل ، لم تبادر هي بالكلام ، وجهت لها سهام نظراتي الصامتة وقد عادت كلماتها في لقائنا الأول ترن بأذني : الحياة الحب . ما كانت تدري أنه قدم لي الكأس التي أفرغتها في جوفي العطش لهبا أحرقه . كانت روايتي ناقوس هزت دقاته كل ثوابتها ، أخذتني في لحظة بكائية على صدرها ، ربتت على كتفي كما لو كانت أمي . أمي !! نسيت تلك الكلمة مع غيرها من الكلمات التي شطبتها من قاموس حياتي ووجودي . استيقظت قبل سنين وأنا لست أنا ، تَرَكْتَنيِ في وادٍ بعيدٍ تتفرق فيه الأمنيات كنباتات الصبار في قلب الصحراء ، بين الحين والآخر أحن لصدرها الذي حرمتني منه ، كانت هناك دائما أولويات كنت آخرها . الأيام تمر باردة ، من شاطئ لآخر تقذف بي ، وما من شاطئ يحمل لي لحظة فرح . يوم خرجت من أحشائي امرأة أخرى انضمت لطابور النساء لم أكن أعلم أني ارتكبت جرما حين وضعتها أنثى . خشيت أن أكون كتلك التي كنت في نهاية طابور اهتماماتها . لكن تلك الآهة التي أخرجتها للنور ، والدمعة التي استقبلها خدها الناعم حين أبصرت براءتها ولَّدت داخلي حبا ما تخيلته . بكاءها أوجعني فرحت أتساءل : هل أوجعها بكائي يوما ؟!! ألقمتها ثديي وراقبتها مرات ومرات وهي تمتص رحيق الحياة مني . أشعر بجوعها وأنا بعيدة عنها ، ترسل نداءات تؤلم صدري المكتنز بحليبها ، أهرع في عجل إليها ، ولا أعبأ إن كانت تفضل ثديا عن الآخر ، هي ما تهمني لا مظهري . ليال سهر تتالى ، ودموع أمسحها بقلبي ، وسنوات تمر وأنا أرقب نموها ، أتركها تتساند على أناملي وهي تخطو أولى خطواتها ، وأساعدها لتنطق أول كلماتها ، كنت أول من نادتها. - ماما . كم هي جميلة تلك الكلمة من فمها . صور شتى لأيام كنت أعدها الأحلى . إلا أنها قصمت ظهري بضربة قاضية أخلفت توقعاتي حين وقفت في براءة أمام القاضي وقالت : أريده هو لا هي . خسرت كل قضاياي في لحظة واحدة ، كم دافعت عن مظلومين ، كم أخرجت أناس من غياهب سجونهم ، وحبستني ابنتي في سجن للأبد . خرجت من ساحة محاكمتي مهزومة مرتين ، وشعور بالانكسار يمزقني . لحظتها عرفت أن الحياة لا تعرف كنه الحب .
-لابد أن تحتاري حتى تخرجي من ذلك التابوت ، دائما تأتيك الفرصة لكنك تستعذبين الحبس والقيود .
-أنا ؟
-نعم أنت .
داهمني شعور بكوني طفلة وعاد إحساس التضاؤل من جديد ورأيتني نقطة سوداء صغيرة دنست صفحة شديدة البياض .
كأنه شعر ما بداخلي ، وجدته يطبق على كفي من جديد وظل يعدو ويعدو ، وأنا خلفه أواصل الرحلة وقد كلت قدماي .
توقف عند محطة القطارات وقال : انظري ، انظري .
وصمت صمت رهيب ، البشر حولي من كل شكل ولون ، يمرون أمامي وأنا جالسة إلى جواره لا أعرف لي وجهة .
تشغلني ندباته التي لا أعرف من أين وكيف جاءت ؟
طال صمته دون فائدة .
أخرجت رواية من حقيبتي أبدد بها صمته وانتظاري وانتقلت فجأة معها من محطة القطارات إلى الجزائر إلى قسنطينة وجسورها العديدة، لشاب فقير يقاوم أهله من أجل جزائر حرة جديدة ، ومقاومة من صُلب وجهاد بمدفع وجهاد بكتاب .
بين سطر وآخر ألمح صمته العتيد وصدره الذي يعلو ويهبط كأنه يجاهد أنفاسه .
قطعت شرودي عجوز تسألني من مال الله .
نظرت إليها بغير شفقة أعلم أنَّ لديها مالا يغنيني لكني بآلية وضعت يدي بحقيبتي وأخرجت لها ما تيسر .
عدت لصفحات الكتاب وللشاب الذاهب للمدينة وللمدرسة الثانوية ليضيء شمعة تنير دهاليز الجهل .
ذاهبا يحمل على كاهله عبء قرية رأت فيه النور فساعدوه بكل ما لديهم ، فرحل حاملا من الزاد اليسير ، سائرا بلسان شاعر .
صوت أقدام تحك الأرض برعونة جعلتني أترك الصغير ومغامرة العارم والجندي الفرنسي في الوادي الجزائري لأرى لمن وقع هذه الأقدام .
فإذا بعيني تصطدم بقضيبي سكة حديد يتقدمهما طفلهما الذي لا أعرف متى التقيا حتى جاء .
يحمل وجهيهما بعدا كبيرا وافتقادا للمودة كما يحمل الغضب .
يلهو طفلهما ويحك الأرض بقدميه غير عابئ بهما كأنه اعتادهما على هذا النحو .
كلما عدت للرواية اقتحم معها سراديب الروح متشحة بالأمل يعود بي المسافرون لرصيف المحطة وللانتظار ، أتطلع لما حولي وكأني أرى للمرة الأولى ، فاجأني نهد نافر من رداء أعوج يصرخ بهستيرية أنا هنا فهل من مغامر ؟
وعامل نظافة يؤدي عمله بلا رغبة ، يمد مكنسته بين أرجل المسافرين الجالسين على مقاعد الانتظار في صلف وبلا استئذان .
أغلقت الرواية ، أسكنتها حقيبتي ؛ لأواصل رحلتي بين هؤلاء المسافرون في الوجع.
رحلاتهم للآه ، حقائبهم من هَمْ .
مر بي رجل يحمل الكثير من الأوراق ، أزعجتني عين قلبه الدامعة أبصرت عجزي متجليا فما كنت أملك له طوق نجاة ، أو قبلة حياة .
أطبقت على كفه فهو من ألقى بي في هوة هؤلاء .
وجدتها باردة كنظراته لي .
قمت ، لم يسألني إلى أين ؟
مشيت على الرصيف أواصل النظر بعيدا عن الناس، أستطلع القطار الذي لا أعلم وجهته ، ومن أين سيأتي ، كنت أشارك الناس حلم أن يأتي المُنتظر مبددا سأم انتظاره .
فإذا بي أرتطم بعذابات أم تطل من إعلان عن ضائع ، مفقود خلفته الحياة وراءها .
عدت لجلستي بجواره دون أن يسأل أين كنت ؟ كأنه يعلم أني عائدة لا محالة .
موظفة المحطة أعلنت عن قطار قادم ، استمع لها في ترقب ثم أمسك بيدي وقام .
وجدتنا في الطريق إلى الإسكندرية ، خلته سيقضي معي يوما بألف يوم .
على شاطئ البحر نفث دخان سيجارته بوجهي وكان لازال على صمته ، قلت : من أين جاءت ؟ وكيف ؟
وجه ناظريه بعيدا نحو البحر ، وهو يواصل تدخينه ثم قال : من العالم الذي منه تهربين .
-أي عالم ؟
-عالم الأحياء ، من تنعزلين عنهم وتعيشين بصفحة كتاب عتيق ، من تتفننين بإيهامهم بك بطلة رغم كونك لست إلا بطلة في فيلم من أفلام السينما الصامتة ترتدين ثوب البراءة وتحلمين بوردة حمراء تتنسمين رحيقها ، ورجل يضع وردة بيضاء في عروة جاكته.
فجأة اتخذ موضع المهاجم وضاعت مني كلماتي ، تاهت في موجة هجوم لم تلق لدي رد فعل ، وأنا أجده يدعوني لسماع الآهات ؛لأعرف كيف جاءت الندبات ، وأنصت لصوت العالم الضائع من كثرة الصراخ ، وأن أجعل منهم قضيتي .
استمر في تأنيبي وتحقير دوري واصفا إياي بالشهيدة والإلهة المبرأة ، وسعادتي بهذا الدور .
-ابحثي عن أدوار جديدة قبل أن يملك الجمهور ، اصرخي مع الناس حتى لو طال جسدك الجميل الندبات .
وقفت في شموخ تَعَجَبَّه وقالت : أنْ تبصر وجودا ما كان غير أن تتحدث عن وجودٍ كان ، شاهدا سموت بحياة ، راغبا في محو ما كان ، طالبا العفو من زمن خان . هكذا أنت تحتال على وجودك بالخيال ، تخلق من الوهم أسباباً وأعذاراً ، تتوهم غير الحقيقة وتتبوأ عرش مملكة الخيال . انظر ، انظر ذلك البرج العالي ، ألم ترى يوما أنوار الحياة من أعلى ، لقد اخترقتك أشعتها ، أذابتك كما أذابت الأمل المنتحر بداخلي . أكان اسمها أمل ؟!!! صدمه السؤال وعقدت الدهشة لسانه من حديثها لكنها واصلت بلا توقف : إني أرى طيفها في كل أجزائك ، ملامح وجهك تحمل حروف اسمها ، كلماتك حين أتأملها وأرتبها أحصل على تلك الأمل . حرف الألف يخرج من داخلك كضغط الآهات على القلب ، الميم تضمها شفتيك في حنان بديع ، اللام يصبغها لسانك بالحب . حاول أن ينطق التفت الكلمات هالة من حوله ، منعته ، لم تكن ترغب بحديث الشفقة المطلة من عينيه الباردتين حين يتحدث إليها ، إنهما لا تعرفان الوهج إلا إذا عانق لسانه اسمها . - الأحمر لونها أليس كذلك ؟ يقتلني الأحمر كما يقتلها الأزرق ..... لوني !! لماذا الدهشة ؟ ولماذا الشفقة ؟ ما وجد كلمات أمام سيلها المتدفق ، دنا منها أحاطها بكلتا يديه ، لمسته حانية لكنها تفتقر الحب . انفلتت من بين يديه . في خلفية دامية تصلبه فيها الحيرة فتسيل الدماء من كفيه . - لكم أشفق عليك . ما كنت لتضحي ، وما أنت بمسيح ، لم الحيرة وأنت تريدها ؟ - وأنت ِ ؟ ضحكت ضحكة عالية ردا عليه . تعجب ذاك الرد ، حاول أن يستل سيفا من برودٍ يواجهها به ، لكن الثلج الغائر في أعماقها كسر سيفه وأشعل برده . واجهته سبابتها في قوة وهي تقول : الحياة مواقف يا عزيزي ، إما أن تفعل أو لا تفعل ولكل فعل ضحايا . تنامت دهشته بقوة وقال : ألا يضيرك أن تكوني ضحية ؟ - ولماذا لا تعتبرني ناجية ؟ - أوَ كنت لكِ شركا ؟ - أنتَ رصاصة طائشة ، مست القلب دون أن تميته . سمع الكلمات ، نطق وجهه بما توقعت قبل أن يصرخ لسانه : أمل ، أمل . وهو يمضي منسحبا . ابتسمت ، كانت تعرف أنَّ انتصاره بضعف أمل . وصله صوتها العالي يقول : الأقوياء يتصارعون في حروب طويلة الأمد لا تنتهي إلا بضعف أحدهم ، ما كنت لتصبح شهيدا على أنقاضي ، ما كنت لتصبح شهيدا على أنقاضي . كانت تلك آخر كلماتها قبل أن يسدل الستار ويصفق الجمهور الذي وقفت تحييه شاكرة إياه بدمعة . 13/9 / 2008
نقل الليل صدى أنفاسه المتقطعة في الحجرة الخالية إلا منه ممددا على سرير متهالك ، لم يمهله الإرهاق وقتا ليبدل ملابسه ، أخذه الكرى وقد خلع فردة حذاء دون الأخرى . كانت الساعة قد قاربت العاشرة لحظة أن ضمته الحجرة من مساء يوم قضاه متنقلا بين شوارع المدينة الآهلة بالمكاتب والشركات والمقاهي والكافيتريات والمحال التجارية ، كل هذا لم يجد فيه سَم إبرة ليُحشر فيه آخذا نصيبا شهريا . الوقت يمر وهو في سُبات عميق رغم أنَّ عقله يعمل بلا توقف ، رأى أشباحاً وخيالات ، رأى نارا تأكله . أيقظه الفزع مختلطا بصوت الطقوس اليومية لجاره قبل صلاة الفجر . فتح عينيه بصعوبة ، كان يشعر أنه لم ينم ، حاول القيام ولكن خذله جسمه ، وأعلنت قدميه كل أوجاعها في تلك اللحظة ، واصل استلقاءه لكن إلحاح مثانته عليه دفعه دفعا ليقوم . فاجأته هيئته وهو مار بنصف المرآةِ المعلقة على الحائط المجاور لسريره ، كاد يفرغ ما في جوفه اشمئزازا . ارتفع صوت المؤذن الله أكبر . ألقى نفسه تحت الماء البارد ليزيل ما بقى من كسل وإرهاق . وقف بين يدي الله . بكى ، انتحب . ضاقت به الدنيا ، ذهب الأهل ، الأصدقاء كل قد شق طريقا في الدنيا الواسعة التي خلت إلا منه . قابله الجار عائدا من صلاة الفجر ، سأله عن وجهته ولم تستيقظ الحياة بعد . - محاولة جديدة . لم تنعشه نسمات الفجر . كانت الحياة قد بدأت تزحف حثيثا لتبدد آخر مظاهر السكون . اتجه نحو البحر ، جلس على مقعد من مقاعد الكورنيش الخاوية ، وجد لطمات الموج كلطمات الحياة التي تصفعه بلا رحمة . استفاقت المدينة من سباتها في صباح ربيعي هادئ ، لم يكن الصيف قد شد رحاله إليها بعد . النور يبدد عتمة البحر شيئا فشيئا . تساءل متى للنور أنْ يأتي مبددا عتمتي ؟ سؤال من قلب اليأس أذاب ما بقى من صبر . جذبته رائحة اليود جعلته يترك مكانه متجها لحضن الوحش الثائر ، ارتمى بين أحضان موجه الذي حمله دون مقاومة منه ، فاقدا كل رغباته . خرجت يد من فيض الرحمة ، حملته ، تمدد على رمل الشاطئ وقد فتح عينيه فقابلته عينان ممزوجتان بزرقة السماء الناعمة تبتسمان في راحة وتقولان : لا يأس من رحمة الله .
تسللت رائحة القهوة إليّ فأرسل عبقها لعقلي إشارات نبهته ، كما نبهت حواسي لتلك المتعة المنتظرة حين تتلامس رشفات القهوة وفمي . تلك المرة فشلت في الحصول على البُن الذي أحبه ، تكاسلت كالعادة فأحضروا لي ما وجدوه فما كان مني إلا أن نطقت بعبارات الشكر غير شاكرة . وحدي في شرفتي ، وفنجان قهوتي ، وذلك الكتاب الذي انتقيته من بين عشرات ينتظرون دورهم في القراءة . لم تتبدد حالة السأم ، ولم تنعشني قهوتي . رنوت ببصري بعيدا حيث السماء الفسيحة ، لازال قرص الشمس يشغلها ، أحمره البرتقالي ينذر بأفوله ، لكني أتعلق بنورها . يعشقون سكون الليل ، وأهوى صخب النهار . استمرت مناجاتي للشمس حتى غربت في خلفية للوحة باهرة الحسن ، ناطقة أركانها بالجمال ، تصاحبها موسيقى تنطلق من كل شيء ، موسيقى الطبيعة الساحرة . رنّ جرس الهاتف ، أيقظني لأُخرج كياني من تلك اللوحة التي كنت جزءاً رئيسيا منها . استمعت لمحدثي ، كانت أختي ، اختارت هذا الوقت لتثرثر ، تركتها تثرثر وتباينت ردودي عليها بين آه ، أيوة ، فعلا ، كان لازم ......... دون أن أزيد ، أو أفتح أية موضوعات ، كانت بي رغبة للحاق بلوحتي ، واحتلال مكاني قبل أن يشغله غيري . عقد النجوم التي أظهرها الظلام كان تاجا في مفرق شعري ، أغلقت الهاتف لأعدو نحو الشرفة استحضر ما فاتني ، وأتواصل من جديد . تنادي عليّ واحدة من الجارات التفت إليها ، طلبت مني أن ألملم غسيلي حتى يتثنى لها نشر غسيلها ، تنشر أو لا تنشر ، ماذا يفعل إذن مجفف غسالتها ؟!! قلت لها : حاضر . عدت حيث تركتني . نور المصباح المتراقص على صفحات الكتاب زادها صفرة وزادني ابتعادا ، لم يكن كشمسي يضيء نورها كل شيء حتى الصفحات المصفرة . عادت الجارة تنادي ، في تلك المرة كانت تستأذني لتجلس معي قليلا . أعلم أن جلساتها غير قصيرة ، فهي تطول ، وتطول ولا ينهيها إلا رؤيتها لزوجها من الشرفة عائدا ، أو حين تسمع دبيب خطواته على السلم . مرات كنت أجلس معها وأدعو الله في سري أن يعود زوجها بين لحظة وأخرى ولكن دون فائدة ، من الواضح أنه يعلم مصيره فيبتعد قدر الإمكان . هي سيدة طيبة لا أنكر ، لكنها خاوية جدا ، لا تجمعني بها أية هموم مشتركة . تشكو دائما وحدتها ، وغياب زوجها ، وحرمانها من الأطفال ، وكان هذا سببا في أني لا أردها رغم ضيقي بحديثها . لم يعد الزوج ، أوشك الليل الانتصاف ، ترجمت ضيقي لموجات تثاؤب متعاقبة ، لكنها لم تحس ولم تشعر بالوقت الذي كنت أحصيه بالثانية ، متسمعة فيه دبيب أية خطوات علها تكون خطواته فتهب واقفة وهي تقول : لازم أمشي محمد جه . الكتاب إلى جواري لم تتحرك صفحته العاشرة . في الثانية عشرة ودقيقة واحدة قدم محمد لينقذني ، أغلقت الباب خلفها ، ودخلت إلى الحمام مسرعة . نزعت عني ملابسي ، تركت الماء يعبث بجسدي ،يفك أسره ،ينعش خلاياه المتيبسة . شعرت بانتعاش غريب ،ورغبة بالطعام ،رغم أن موعد عشائي قد مر عليه ساعات . تركت شعري المبلل على ظهري دون تمشيط أو تجفيف ، أعددت كوب شاي وجلست إلى كتابي ، صفحة الكتاب العاشرة انتقلت للخمسين . جاءني صوته من ماضٍ بعيد يسألني عني ، لم أنسه يوما ، ولم يمض يوم إلا وكان معي . امتزج وبطل الكتاب الذي كان يردد لمحبوبته كثير من كلامه . كان بطل حياتي و كل رواياتي ، حين مضى توقف القلم ، استقال فلا حياة له بدونه . قدم لي استقالته على كفن أبيض وفستان أسود لا أذكر كيف خلعته ؟ الكل من حولي أجبروني على أن التفت لحياتي . - لن يعيده الأسود . كنت أعلم ، وحين خلعته لم أكن أدري أن قلبي هو من يتشح بالسواد ، هو من كان يلبسه ، لازلت لا أرى غيره . انسالت على صفحة الكتاب الخمسين دمعة حارة . شعرت به يمسحها مقبلا وجنتي ويدي ، مددت يدي عن آخرهما لاحتضنه ، سقط الكتاب واحتضنت الفراغ .
أُسدلت الدهشة ستارا على وجهه ، سأل نفسه سؤالا واحدا ، هل أعرفها ؟!! كنت أحس ما يدور بعقله ، لم أجيبه . كان عليّ الهرب وهذا أسلوبي ، أن أمتشق سبل العيش داخل من أهرب منهم ، لا أبتعد بل أقترب في قوة متعللة بأنَّ المواجهة خير سبيل للقضاء على ما أسميته يوما ......... حبا .
أرسل لي صوته عبر مساء كدت فيه أموت شوقا إليه ، حمَّلني ضيقه ، أورثني ألما فوق ألمي ، ما تركته إلا وضحكته ترن في أذني .
خرجت حاملة ملفا كبيرا ذات صباح ، أردته أن يأتي ، الهواء محملا برطوبة خنقتني . اصطدمت بالروتين في أول عناق لي بأروقة المكاتب الحكومية ، من مكتب لآخر ، ومن موظف لآخر . رنين هاتفي بنغمته المخصصة أخرجني من دائرة الملل والانتظار ، لم أمتلك نفسي وانفجرت كالمدفع معبرة عن ضيق عجزت عن كتمانه . ما كان عليه أن يتصل الآن ويلقي بحمول جديدة عليّ .
ما كان لأبي أن يموت ويتركني أحارب مع هؤلاء الحمقى .
أَغلق الهاتف دون كلمة لأعود لدائرة الحمقى أنتظر ، لم ينته الورق .
الأسود تحت أشعة الشمس يجعلني أئن بفعل أسراب النمل التي تسير منتشية مختلطة بعرقي المالح .
الأيام تمضي ، هو بعيد غاضب ، وأنا استل سيفا من ورق أواجه به جبابرة العادات والروتين .
استطاع أحد معارفي أن يلحق جلستي لإعلام الوراثة بآخر صف القضايا ( الرول ) ، كلمتان معسولتان ، بضعة جنيهات وضعها في يد العامل المشمئز . كنت الأخيرة . الشاهدان يتململان أحدهما مصالحه معطلة ، تليفونه لا يكف عن الرنين بين الحين والآخر . الزحام مستميت والمكان خانق ، وأسراب النمل السائرة في جسدي استيقظت من جديد . ينحرني الوقت ، ويؤلمني الوقوف طويلا ، لا مكان للانتظار والجلوس . يرن هاتفي بنغمته ، لم أرد . شوقي إليه يدميني ، منذ آخر حديث وهذا الغضب الذي أنزلته مطراً عليه لم يحدثني ولم أحدثه . لماذا يتصل بي في كل مرة اشتعل بنيران غضبي ، أيحس احتياجي له في هذا الوقت بالذات ؟! لا أظن .
لازال الهاتف يرن .
الحاجب ينادي جلستي .
أغلقت الهاتف .
القاضي يسأل الشاهدان دوني . يقرا بأن الوارد أسماءهم في الإعلام هم أهل المتوفى .
أبي كان كل ما لدي ، الآن يحمل لقب المتوفى .
انتهت الجلسة بي آخر قضية .
نزلت السلم بقدمين كما جوالين من الرمل . شكرت الشاهدين ، مضيت تغالبني دموعي و صورة أبي التي علقتها أمي في صدر البيت عذاب مستمر ، كنت أحاول نسيان الجدار المعلقة عليه .
فتحت الهاتف ، جاءتني منه رسالة تحمل غضبا ممزوجا باعتذار . أردت احتضانه ، محادثته . عجزت عن أي شيء سوى أن ألقيت بجسدي على السرير مبللة وسادتي بعزيز دمعي . اتصل ثانية فاجأته دموعي تكلم دون أن أسمع ، أغلق الخط ، ولم أنطق .
طلبوا العديد من الأوراق ، هذا لرصيد الأجازات ، وذاك لصرف المستحقات وذلك لــ ...............
تعبت
- المرحوم كان عزيزا علينا .
المرحوم كان أبي ، كل ما لدي .
هربت بعيدا عن كل هذا العذاب ، خرجت من دائرة الموت ، والدموع التي لم تجف ، من الحجرات التي لازالت تحمل أنفاسه . هناك حيث أحب وجدته صدفة . - لم تخبريني بقدومك . حييته دون إجابة ، وذهبت لأجلس وحدي . استوقفني وسألني : ما بك ؟ - لا شيء .
ما توقعت رؤيته في ذلك الوقت ، في كثير من المرات احتجت وجوده فضن به عليّ ، ما كان يريدني إلا مأوى لضيقه وهمه . هربت إليه حقا فازددت عنه بعدا . نظرت إليه بكثير شجن وعظيم قوة ثم انطلقت بعيدا في دهشة رأيتها ذات يوم تكسو وجهه .
ليلة مطيرة لم تمنعها من الخروج إلى عملها ، لكنها لم تكن بطبيعتها ، كانت دائما تحمل وجها بشوشا تُطل به على العالم كستار تخفي وراءه كل ما تحمل وما تُلقي إليها به الدنيا . ابتسامتها في وجه مرضاها كانت تعتبرها نوعا من العلاج تحرص على تقديمه دائما . أما اليوم كل من يراها يتعجب ، أين بشاشة الوجه ؟ أين ضحكة سنها الجميلة التي تكشف عن لؤلؤ صاف ؟!! وجهها العابس أعطى الممرضات فرصة للهمس عليها ، وللمرضى بالسؤال ، لكنها لا تجيب أحدا ، ولا ترد على أي استفسار فهي كالغائبة ، تؤدي عملها بطريقة آلية معتادة . زملاؤها من الأطباء يعرفون أنَّ هناك الكثير من المشكلات في حياتها ؛ لكنها أبدا لم تتوقف أمامها كانت تقابلها بسخرية لاذعة ، وقوة لا تمكنهم من الإشفاق عليها لحظة واحدة . رنَّ هاتفها الجوال ردت على محدثها بكلمات مقتضبة لا تفصح عن شيء ، لكن وجهها يحمل الكثير من الهَمْ . تسرب خبر تجهمها بين الجميع ، التردد حالة أصابتهم جميعا رغم السؤال المُلح ماذا حدث للدكتورة يُمنى ؟ لكن لم يجرؤ أحد على تخطي الحاجز الذي بنته في كل سنواتها الماضية . دخلت حجرتها ، أمسكت بأحد المراجع الطبية وجلست تقرأ ــ تظاهرت بالقراءة ، ذهنها كان بعيدا عن المرجع ــ فترة ليست بالقصيرة قبل أن يتم استدعاءها لحجرة مريض داهمه الألم فجأة . قامت مسرعة ، سقطت منها ورقة لم تنتبه لسقوطها التقطتها زميلتها التي تشاركها الحجرة ، وقبل أن تهم بمناداتها كانت قد انصرفت متعجلة لأنها تعلم خطورة حالة المريض . وضعت الطبيبة الورقة أمامها دون أن تفتحها ، إلا أنَّ الفضول كان يتلاعب بها واضعاً دناءته حائلا بينها وبين زميلتها وخصوصيتها . بيد غير مرتعشة مثقلة بفضول صاحبتها ، مدت يدها لتلتقط الورقة الموضوعة في سكون على المنضدة حيث وضعتها ، فتحتها في نفس اللحظة التي انتهت فيها يُمنى من إسعاف مريضها وخرجت من الحجرة لتضع يدها في جيبها ولتصطدم بالفراغ ، أين ذهبت الورقة ؟ أين وقعت منها ؟ تملكها الفزع ، في لحظات سوف تكون المستشفى كلها على علم ، أين سقطت تلك اللعينة ؟ كانت تنتظرها حياتها كلها متعلقة بفحواها ، كانت تعرف النتيجة مسبقا بصفتها طبيبة ، لكن كان لديها الكثير والكثير من الأمل . الأمل الذي تهبه مرضاها ، الأمل الذي توزعه ابتساماتها وكلماتها . مَنْ سوف يهبها هي الأمل ؟ مَنْ سيهب أطفالها بعضا مما كانت تعطيه لهم ؟ كيف ستواجه الشفقة التي ستعبر العيون سهاما تخترقها ؟ الأسئلة كانت عديدة ، لا تكف عن مداهمتها منذ تلك اللحظة التي تسلمت فيها تحاليلها الأخيرة وكانت النتيجة إيجابية . 19/6/2008
بجلبابه الصوف وطاقيته البيضاء وعباءة يلقيها على كتفيه دائما تلقاه ، وجهه المغضن يحمل العمر بأيامه وسنواته ، يده المعروقة بوشمها الأخضر القديم تقول أنه باقٍ من زمن لم يُبق على الكثير ، ساقط قيد مجتمع انحل عقد أيامه ، وذهب كل ما به للماضي ، جاء راكبا حماره ، مستندا على عصاه يحمل شكواه ، طالبا العون . عزته تنطق في صمت : الشكوى لغير الله مذلة . الورقة في يده تشرح حاله ، المستأجر رفض الخروج من الأرض . لسانه يخبرنا أن أبناءه يسعون في الأرض في رحلات يعودون منها زوارا ، ضيوف لأيامٍ قصيرة ثم يعودون للسفر . قرأت شكواه ، وقرأت وحدته وقلة حيلته ، ولمحت بعينيه تلك النظرة المستحلفة بأن أتعجل ، لقد ملَّ الأمر ، على الرغم من أنه لا يتمكن من زراعة أرضه بنفسه ، يشق عليه أن يُجرّفها مستأجر رفض الامتثال لحكم القضاء عليه بالطرد . ماتت الكلمات على لساني ، فأنا أعرف الحال ، سبحت بعيدا حيث تتلقفني أمواج شاطئ الروتين ، والمماطلة ، والتحايل ، والرشاوى . ووجدتني في لحظة أقف في قلب الأرض المستباحة أحمل سلاحا من حق ، أسدد طلقاته لصدر أي معتدٍ يظن بنفسه القوة ليأخذها . خلتني له بدلا لجسده المنهك ويديه الواهنة ، رأيتني ولداً من أولاده الضائعين في البلدان الغريبة . زعيم على فرس يحارب من أجل العرض المسلوب ، وها أنا في قمة نصري أستعيد أرضه قبل أن تنحرها يد التجريف . الرجل يكاد يقبل يدي والسعادة تملأ وجهه ، فرحة غامرة ، زغاريد ، أعيرة نارية تشق الهواء ، يحملوني أنا البطل . وفي لحظة وجدت صوتا يقطع عليِّ غمرة النشوة بالنصر : يا بيه ، يا بيه هعمل إيه يا بيه ، والله واخد حكم من المحكمة بطرده ومفيش فايدة ، موالسين يا بيه مع بعض ؟ استفقت من شرودي مرغما لأنظر له بأسى ــ فأنا أعلم ما أعلم ـــ قلت : بكرة هنبعت حد يعاين يا حج وربنا يسهل . رد الرجل بكثير من اليأس : تاني .
قدري أن أبقى راحلا ، ركبت قطارا لا يقصد محطة وصول ، عباءة الرحيل كانت معطفي صيفا وشتاء لا أخلعها ، ارتحلت في الزمن وبمحاذاته ، لم يكن للمكان وجود إلا في أحداث رأيتها غير مشارك ، كنت دائما بين المُشِيعين غير مُشيَّعٍ . سَأَلتْ صاحبي يوما امرأة قابلها : ما سرك ؟ كان السؤال في السابق دائما : من أنت ؟ في كينونته ظنوا الإجابة عن كل شيء ، أما هي فعرفت أنَّ وراءه أكمة من غموضٍ فأرادت كشف السر . لم يُجبها كما لم يُجب عمن سألوه من أنت ؟ أعطته وردة حمراء وطاقية قالت : من صنع يدها . أخذها شاكرا ، وودعتها أنا بغير التفات . في قلب المُرتحل أمواج بلا شطآن ، وفي صحراء الحلم يسكن أبطال سيوفهم من ورق ، ودروعهم من حرير . في واحدة من ليالي الاغتراب قدم شاب لصاحبي كأسا من خمرٍ لم أتذوق مثلها عمري ، وأخذ مني لا منه ما لم أعط يوما ، تعلمت على حافة الحياة ، كيف أُفقد وكيف أحيا . في تلك الليلة التي غبت فيها بعيدا عن وعيي أدركت أني قد ُسلبت أهم ما لدي ، وتوقفت عن وهب الحياة بعض نتاجي ، ذريتي ، آه منها . لقد أسكنتها بوادٍ قاحلٍ مني ، أطفالي يكبرون بلا رغبات ، صاحبهم العقم منذ الميلاد .
تمضي بي الأيام والسنون ، لم يصبني الشوق ، ولم أعرف الفراق ، في كل مكان أقصده كان الناس يتشابهون ، وعبر الزمن وجدتهم لا يتغيرون . أوشكت الشك بي ، لكني لا أملك غيري على الرغم من عقم بناتي . صحبه في واحدة من رحلاتي معه عجوز ظنني أسكن من ليس له خبرة ، ظن نفسه سيكون له و لي معلما ، يده ناطقة بعمره المتجاوز التسعين ، ينطق بالحكمة بلا إدعاء ، منطقه جسد حر . قلت على لسان صاحبي في هدوء : بل عقل حر . ضحك ساخراً وقال : ماذا يفعل العقل الحر والجسد مكبلا ؟ حافظت على هدوئي وأنا أواصل الحديث: بل ماذا يفعل الجسد الحر والعقل أحمقا ؟
جمل ........ سفينة ........ قطار ........ سيارة ........ طائرة . أيا كانت الوسيلة فأنا المرتحل للأبد . في ليلة حالكة من عمر لا أعرف كم مضى منه وكم تبقى ، جمعت كل بناتي ، لمحت الدمع في عيونهن ، حسرة ، لهن كل الحق ، فلا مستقبل لهن بدوني ، لم أحافظ عليهن ولم أدافع عنهن ، فقط أطلقتهن لحياة ليست لهن بها مكان . قالت إحداهن : ما كان عقمنا إلا لجهلهم . صدقت ابنتي . قال صاحبي : ما أصعب على الأب من أن يدفن أبناءه ، من أن يُشيعهم واحدا وراء آخر ، رغم أنه لا ينساهم ولكنهم يظلون وجعا بداخله . يستيقظون في كل يوم يحدثونه ويحدثهم ، يسترجع بهم الآهات التي لا تكف . مس جراحي التي لا تُشفى أبدا فقلت ودمعة أحرقني هطولها : آه من أب يفقد ولدا ، وآه من فكرة ولدتها لتموت .
لم أكن والشتاء على علاقة وثيقة ولكن الحكاية بدأت مع أوائل شتاء هذا العام ، حين التقيته لأول مرة . في ذلك اليوم كنت قد التحفت الانتظار كعادتي أشق طريقي بين الناس لأواصله غير متعبة فقد اعتدته . جاءت جلسته بجواري على مقعد خشبي بجوار الكورنيش نطالع النيل وأحصي الدقائق في انتظارها ، كالعادة تأتي متأخرة وكعادتي أصل في موعدي . لم تكن السماء صافية ولكنها لم تنذر بمطر ، شعرت بوخز الكلمات المتناثرة في عقلي ، حاولت أن أتناسها متعمدة فلقد باغتتني فجأة ولم أكن مستعدة لها . كان يرمقني بطرف عينيه ويشاهد تململي كما ألحظ الكلمات الحيرى التي تتراقص على شفتيه وتأبى الخروج . فتحت حقيبتي أبحث فيها عن ورقة وقلم ، أخرجتهما وشرعت أرتب الكلمات المبعثرة . سطرت كلاما بدا لي كما لو كان لعبة الكلمات أو الجمل غير المرتبة وعلى من يريد خوض اللعبة أن يرتب الجمل وأن يحصل على قطعة تحمل معنى مفيد .
الفضول يلعب به ، يتراقص السؤال داخله أعلم ذلك ، نقلت لي يده المتوترة انفعالاته وأنا أجلس إلى جواره ، أواصل مشاهدة النهر الهادئ ، وأرقب الساعة التي تتحرك ببطء يلذعني . رأيتها من بعيد تأتي مهرولة فلقد تأخرت كثيرا عن موعدها . تنفست أخيرا بهدوء ، مجيئها سيريحني من فضول عينيه وأسئلته الكثيرة التي باغتني بها وجوده وألمحها كلما أدرت عيني ناحيته . أخذتها في حضني تبادلنا التحية والقبلات قبل أن تستقر إلى جواري تلتقط أنفاسها . لمحت بيدي الورقة جذبتها من يدي دون استئذان وقرأت ، نظرت لي ثم له وضحكت . أثارت فيّ ضحكتها رغبة عارمة في مشاركتها لكني آثرت الابتسام . وقفت مسددة نظري إليها وإليه ، وجدته يقف ويحدج بي بنظراته التي فشلت في تفسير حقيقتها هل هي نظرات وله ، أم اشتهاء ، كانت باردة ولكنها جذابة ، أثارت فضولي ونهمي لمعرفته . تفعل بنا الصدفة الكثير ، وأجمل الصدف تلك التي تحمل بداخلها مفاجأة الـ .... . امتدت يده إلى جيبه في رفق وحذر خمنت أنه سيخرج ورقة ويكتب اسمه ورقم تليفونه ويعطيني إياها ويمضي . يالي من مغفلة ! لازلت أحيا في زمن الأبيض والأسود ، هل لازالت الناس تتعارف بتلك الطريقة البدائية ؟ إنه الاقتحام لا غير ، لو لم يقتحم فجأة ويأخذ موقع المهاجم وأتحول أنا للدفاع مسرعة ، أحتمي خلف درع الأخلاق والعادات والتقاليد ـ مرة أخرى مغفلة - ، ما رضيت بمعرفته . لازالت يده اليمنى داخل جيبه الداخلي الأيسر جوار القلب تماما وكأنها سكنت بداخله ، بطيئة تلك الثواني . حسبتها ساعة . صديقتي شردت مني في النظر للمارة ، ولموجات النيل الهادئة ، وللحظات العشق المختلسة من حولنا ، ذلك العناق المستتر في عيني كل عاشق من حولنا يُترجم داخلي لنشرة أخبار شديدة القتامة. أزمة إسكان طاحنة ، أسعار مجنونة ، بطالة ، زحام ، فقر ، كفر ، تشدد ، بلطجة ........ قائمة من الأخبار الـــ ........ خرجت يده بمنديل مرره على وجهه ، لم يكن الجو حارا ولكنه كان غارقا في عرقه .
دنا مني وسط دهشة رأيتها في عينيّ صاحبتي وتوقع مني لتلك الحركة المباغتة ، قال : أنا...... - ليس مهما الاسم ــ هكذا فاجأته ــ المهم أنه أنت . - فعلا . سرقتني اللحظة ضحكة صديقتي ، لكن صوته قطع ضحكتها وهو يقول : أعرفك منذ أعوام ، حين رأيتك لم أكن أصدق أنها أنت ، حتى وجدتك تنظرين لي بنفس نظرة المعرفة ذاتها . - فعلا ، أنا أعرفك منذ أعوام . قالت صديقتي : ولكني لا أعرفكما . ضحكنا سرنا طويلا وهي معنا ، لم نتحدث بقدر ما تحدثت عيوننا ، حملني فوق وجودي ووجوده إلى عالم من الخيال ــ يربطني الرجل دائما بالخيال ــ اخترق حاجز صمتي وعزلتي . كان لابد أن أتركه مودعة ، مددت يدي أصافحه ، باتت يدي الصغيرة في كفه مركب شراعي في بحر هائج . لم يعرف اسمي ولم أعرف اسمه فقط كنا على موعد يومي دون أن نتشارك المعرفة العادية لكل الناس . ماذا تعني الأسماء إذا تعارفت القلوب ؟!!! في نفس المكان وعلى ذات الكرسي الذي بدا وكأنه يخلو خصيصا لنا في ذاك الموعد ، يجمعنا الزمن ويتوقف بنا عند المصافحة الأولى والابتسامة ولا ندري هل مرَّ بنا أم لا ؟ جمعتنا شتى الموضوعات ، قرأني قبل أن يعرفني ، وصلت له كلماتي ، وجدته يحمل لي ذات لقاء دفترا صغيرا به ملاحظات عديدة ، وتعليقات ودّّ لو كان يعرفني حتى يخبرني بها ، كان لزاما أن نلتقي . وجدته سباحا ماهرا في بحركلماتي الهائج ، علم ما وراء السطور ، نفذ إلى داخلي ، أكان يشاركني الكتابة ؟!! أهو شيطان إلهامي ؟ قرر أن يأخذني لمكان لم أذهب إليه من قبل ، أخذني وانطلقنا ، معه لا أسأل عن الساعة ، عن المكان ، عن أي شيء ، فقط أسأل متى سيفارقني ؟ رغم الوله الذي يملأ عينيه لا يكف لسانه عن حديث السياسة وعن الأحوال المتردية هنا وهناك ، وعنا نحن في هذا البلد المهضومين المهدورين الحقوق ، يملك حلولا لكل شيء ولا يمكن أن يتقدم بها إلى أي مخلوق فهو واحد من مُهدري الحقوق !!!! إزدواجية تلك التي يحياها ، فسرت الآن سر نظراته الزائغة أحايين كثيرة .
أمعقول أن تكون تلك اليد الناعمة ، هي يد البطش ، هي من تحيك سرابيل الألم وتحكم غلقها على أجساد كل ما اقترفه أصحابها أنهم قالوا لا في وجه الظلم ؟ - أوامر وعليّ تنفيذها . - وهل بالأمر تتخلى عن كونك إنسان ؟ - لا تثقلين عليّ حمولي ، معكِ أنسى من أكون . - ولكنك هو ذلك الذي تنساه وأنا تائهة بينكما . - في جلستي أمام النهر وحيدا كنت أتلمس كوني بين الناس الذين أرهقهم كل يوم ، أرجوهم أن يحسبوني منهم ، علني أنسى أنني صرت آلة بين يدي رؤسائي . اقترب مني ومرر يده على وجهي ، كم هي ملساء ناعمة ولكنها تقطر دما أرعبني ، ابتعدت خائفة . فهم ما دار بي ، ابتعد جلس على الأريكة حزينا ، أحسه وأدرك أنه يتألم ولكن ، كيف أفصل بين كونه حبيبي وأنه الجلاد . إنسان مساء وحيوان في كل صباح . حاول أن يخفي عني دمعه المترقرق في عينيه . دنوت في حنان ولمست شعره الغارق في ليل حالك ، وقبَّلت رأسه ، ثم زحفت نحو وجهه ليغرقني عطره في بحر من النشوة التي لم أعرفها يوما ، لتستقبلني ذراعاه في محيطهما الهادر الموج ، الثائر للأبد . في تلك اللحظات التي شهدت توحدنا ، عرفت معنى أن تكون صاحب سلطة وصاحب قرار ، وأن تكون عبدا مرهونا بإشارة سيدك ، وأن تكون ملكا متوجا بلا أدنى سلطة ، وأن تكون أنت في غمرة توهتك . يالله ، ما كل هذا الإحساس ؟ أشعل سيجارة وأعطاني إياها ثم شاركني التدخين في هدوء وصمت نقطعه بابتسامات متفرقة ، أهي السعادة ، أم فرط اللذة ؟ من بين كل ما أملك من حُلي شاهدني أرتديها انتقى حرف اسمي باللغة الإنجليزية وصمم أن يأخذه مني ليذكرني به دائما . - وهل تنساني ؟ - لا ولكن ليبقى لي منكِ شيئا . - وأين سأذهب منك ؟ - لا أعلم ولكني أخشى ...... وضعت يدي على فمه لأمنعه من مواصلة كلماته : أنا معك حتى ولو كنت أنتقدك ، أنا لك ومعك حتى النهاية . لثم يدي الملامسة لشفتيه ، لأذوب بين حنايا جسده وليمتزج العشق داخلنا بالرغبة ، لتولد حياة لولا وجوده ما كانت . كان لديه كل الحق في أن يخشى القادم ، حين رأيت يده تطال تلك المرة كل شيء حتى أنا . لم أجعل قلمي يصمت ، تحدث وتحدث ونطق دون أن أعبأ بكل نجومه ونياشينه ، اقترفت كل الموبقات في حقي وحق كل الناس لابد أن تدفع وأمثالك الثمن ، حتى لو كنت حبيبي ، نعم طالبت بشنقك وهم في ميدان عام ، ولتكن ثورة بحق ، ولتوضع مقاصل في أشهر الميادين ويتقدم لمحاكمة معلومة النتائج فمثلك لا يأخذ براءة أو حكم مخفف ، الإعدام هو السبيل الوحيد . وقفت أمامه ، عيني بعينيه ، أذوب فيه وأتوحد معه ، ولا أحس الحياة إلا ونحن متوحدين ، تعطيني لمساته الحياة ، العمق ، توقظ بداخلي الأنثى النائمة ، بت أتجدد يوميا حتى لا يمل وجودي . - لماذا لا تقتليني أنتِ ؟ - أقتلك ؟ - نعم أو لم تطالبي بإعدامي ، ألست واحدا من زبانية الجحيم ؟ - أنا أطالب بقتل وإعدام صاحب النجوم والزي الرسمي ، ولكنك أنت .... - أنا هو صاحب النجوم . أخرج سلاحه ومد لي يده به ، أمسكته بيدٍ مرتعشة ، وقلب وجل . قبَّل جبهتي ، واحتضنني لاطمئن وهو يهمس في أذني : هيا افعليها ، ستكونين بطلة لا مجرمة ، ستخلصين الناس من واحد مثلي ، ستكون شرارة الثورة ، سيفيق الناس صدقيني ، ستكون تلك البداية . بكيت بكاء حارا وكأنني سأفعلها حقاً ، وضعني أمام أمنيتي بكل سهولة أن أقتل بيدي واحداً من هؤلاء الذين عبثوا بكل شيء حتى قلوبنا وأقواتنا . ولكنه حبيبي ، صاحب الصدفة . ألقيت المسدس من يدي ، وألقيت بنفسي بين يديه ، بت أعاني مثل إزدواجيته ، المفروض أنه عدوي نهارا ، وليلا هو كل ما لدي . ما كان بيدي إلا أن أسافر بعيدا ، بلا وداع ، وبلا أثر كان لديه كل الحق حين أخذ مني شيئا للذكرى ، ولكني أخذته معي كله كذكرى . كانت تلك المرة الأولى التي أقبل فيها العمل خارج بلدي ، هاربة لا من الواقع المر بها وإنما من حبيب هو العدو . قلمي لم يتوقف عن انتقاده وجهازه وكل حكومته ، تواريت خلف الكلمات أو جاهرت بها لم أتوقف يوما . طالعتني صورته يتسلم منصبا جديدا ، منصبا قويا أتاح له الظهور في التليفزيون ، ترى هل سيكون بإمكانه أن يتخلى عن زيه الرسمي ويجلس على مقعد خشبي أمام الكورنيش ؟!! هل سيجمعني به مكان آخر ؟ اتصلت بي صديقتي ، قابلته في إحدى الحفلات الرسمية ، نقلت لي عنه رسالة . ( الحياة صدفة كبيرة ، وأجمل صدفها ما يحمل مفاجأة الحب وكذا الهجر ) هجرته نعم حتى أظل أحبه ، إنه معي ، لا يفارقني ، غارقة في عينيه ، في شفتيه ، في كفيه ، هو البحر إذن لا غير ، وأنا ....... بعض منه . الغربة تطحنني ، الفراق يمزقني ، روايتي الجديدة مزيج من تراب الوطن وعطر الاغتراب ، وألم الفراق وهو . تحمله جميع الصفحات ، يسكن كل الحروف ، أعلم أنه سيدرك أني أخاطبه ، مهام منصبه لن تتيح له القراءة ولكني أعلم أنه سيقرأ ، سيعود ليقرأني من جديد وفي دفتره القديم سيضع كل التعليقات حتى نلتقي ، جمعها وهو لا يعرف أنه سيكون بيننا لقاء ، والآن لابد أن يكون هناك لقاء آخر ، لقاء نحن أصحابه ، نحن من نقرر موعده ، لن يكون صدفة ، سيكون بقرار سنأخذه سويا ، لكن متى سيكون ؟ وأين ؟ الحياة تجبرنا أن نتقبل كل ما تأتي به ، وهاهي تدبر لنا لقاء آخر ، علمت أنه كان ضمن وفد رسمي لزيارة البلد التي أعمل بها ، قررت أن أتوارى في أي مكان ، ولكن الظروف لم تسمح لي رغم أني لم أحتك بأي شيء وبعدت ، لم أذهب لأي مكان يجمعني والوفد ، شعر بأني تعمدت الاختباء . في مساء اليوم الثاني لوصوله كنت أسير في الشارع في طريقي للجراج الذي أركن به سيارتي ، شعرت بيدٍ أعرف ملمسها تتخلل أصابعي برفق لم أضطرب له ، نظرت ناحية صاحب اليد وقد فاجأني الحنين في عينيه ، والشوق الذي تفجر مرة واحدة ، وعذب الابتسام الذي افتقدته . لقاء لم يكن كسابقيه ، أطفأنا به كل الشوق المتقد بداخلنا . لم نتحدث عن هروبي ، لأنه كان متوقعه ، ولم أهنئه بمنصبه الجديد ، يعلم أني أكره عمله . 24/5/2008
الأفكار تتوالى تترى ، ينظر للورق أمامه في ازدراء ، يكسر القلم . يخرج من كتب التاريخ المتناثرة حوله واحد من أبطال مصر القدامى ، واحد من هؤلاء الذين صنعوا التاريخ ، طل عليه غاضبا ثائرا ثورة مقاتل يعرف كيف يهزمه سلاح مكسور . ينظر له في لامبالاة ويمزق الورق ناثرا أشلاءه في كل أرجاء الحجرة ، إلا أن الفِكَرْ لا تكف عن متابعته ، تخرج من خباء عقله الرافض لكل شيء ، لكنه ما عاد يحس جدوى الكلام . يصرخ البطل أحمس هاتفا : الفكر سلاحك ، والجندي لا يترك سلاحه . تعلو ضحكته الساخرة فيحس أحمس الإهانة وخنجر السخرية الذي طعن به تاريخه يمزق قلبه . الأمطار تضرب زجاج النافذة بعنف ، ينظر له أحمس في إشفاق ويقول : السماء عليك غاضبة . يبصق على كل شيء وعلى كل الكتب الملقاة بلا عناية كأن أحداً بقر بطن مكتبته وألقاها خارجها . إلا أنَّ أحمس القائد المثابر ما كان له أن ينسحب من المعركة اتخذ منه معركته إما هو أو أن يشطب تاريخه كله ويكفر بكل مقدساته . يأخذ مفاتيح سيارته ويغلق الباب خلفه بعنف ، ينطلق بالسيارة غير عابئ بتلك الروح المقاتلة التي تزحف من خلف صفحات الماضي خلفه . الماضي . نعم الماضي حيث كان للفكر وجود وللقلم خلود . يضحك بصوت عالٍ ، ترمقه عيون أصحاب السيارات المنتظرين معه في الإشارة ، يتعجبون ضحكه منفردا في يوم كهذا وفي وقفة كتلك . ترى ماذا يضحكه ؟! الماء المنهمر بشدة يعوقه عن السير رغم أن المسَّاحات الأمامية لا تكف عن العمل ، يفشل في قيادة سيارته في هذا السيل المتدفق ، إلا أنه لم يتوقف وحده لقد وجد السيارة تقف وحدها أمام الجيش العرمرم الذي ظهر أمامه فجأة بجند لا يحصيها بصره ، تلمع سيوفهم تحت أضواء مصابيح الشارع يختفون خلف دروع ضخمة لا يدل عليهم غير ملابسهم الفرعونية القديمة . يتزعمهم البطل الفار من الصفحات أحمس طارد الهكسوس . - ماذا يريد ؟ ألا يكفي ما حقق من انتصارات خلدت اسمه في التاريخ . صرخ عاليا : ليس هذا زمن الانتصارات ، افهموا . قال أحمس في ثبات : ها قد عدت لك بجيشي وسنحقق الانتصار . - ما عاد جيشك ينفع ، لقد تخاذل كل شيء ودُمر كل شيء . - إن دمرت الأسلحة ما كان لسلاحك الخالد خلود الحياة أن يُدمر. - لم يعد خالدا ، ولم يعد هذا زمنه . - إنك الكاتب ، إنك الفكر ، إن مات الفكر مات الشعب . - لقد مات فعلا . - أحفادي لا يموتون بهم روح الثأر ، وأنت منهم يا صاحب القلم . قالها وهو ينحني أمامه ممجدا . قال : أنا ؟! لقد مت منذ أعوام . اقتربت الجيوش يتقدمهم صفوف جنود تحمل ألواح البردي القديمة تزينها النقوش الفرعونية ، تدعمها الكتابة الهيلوغريفية ، وصورة للكاتب القديم ، يجبرونه أن يقرأ . لكنه يصرخ : ما أنا بقارئ . - ستقرأ وتقرأ وستظل تقرأ وتحمل فكرك ، إنك أنت القائد . تنهمر دموعه على ألواح البردي التي امتزج محتواها به ، وبأفكاره المستعرة برأسه ، تفيق الروح المحتضرة بداخله رويدا رويدا ، يمسك بريشة ومدادٍ من دمه ، ويخط كلماته العربية الفصيحة تعانق قديمه المجيد . يصيح الجند مهللين فرحين . يعرف أحمس أنه ما خُلق لينهزم . يصافحه ، يهبه قلادة النيل ثم ينصرف ، ليجد الرجل نفسه وحيدا في سيارته ، التفت حوله لم يجد أي منهم لم يجد غير أوراقه وقلمه ، امتدت يده إليهم في لهفة وشوق ، شرع يكتب وصوت المطر موسيقى تبعث في الروح ما كان قد مات .
استحال لقاؤنا في نقطةٍ ، بحثت كثيراً عما جمعنا فوجدته حرفا وكلمة لم تكن بعد بقاموسي ، وأطلت النظر في عينيه علني ألمحني . أسرتني تلك الضحكة المنبعثة من عميق نفس يملؤها كثير من التخبط والضياع ، كانت مختلفة مع ذلك الحزن المطل من عينيه . أقصر الطرق بين نقطتين الخط المستقيم هكذا أفكر . معه تعلمت أن هناك طرقاً يمكن للمرء عبورها ، أزقة وحوارٍ ، وأن هناك كبارٍ يمكن أن تختصر الطريق . التفت إلى أيامي الماضية لم أجد غير فتاة لم تعرف غير نفسها وعالمها المغلق عليها . في تلك الغابة الرائعة التي هي مشاعره عرفت الحياة . تسلقت يده الممتدة عبر الأيام ، لم أكن بحاجة لجهد فلقد بذل هو كل الجهد حتى وصلت إليه . لأول مرة ألمح وهج عينيه ، وفرحة لقاء بعد طول انتظار . أخذني من يدي وانطلق بي عبر مروج وآفاق لم تمر بي ، سرنا على كل حرف جمعنا ، وطأنا كل حزن هزنا بكثير من الكبرياء صعدنا تلا من الهموم وانطلقنا لأول مرة بعيداً عن كل الناس في ذلك المكان المخبوء عن عيون الناس إلا العاشقين وجدنا أنفسنا . لغة الصمت أكثر تعبيرا من كل الكلمات ، في حضرته أصمت طويلا ، وأتلذذ بكلماته الضائعة المتخبطة ، كان لحنا متفردا في نغماته . استفقت على يد تلكزني تدعوني لأصحو من سباتي ، كانت يد أختي التي تخبرني بأني سوف أتأخر على موعد عملي . ملعون عملي هذا !!!!!!! امتدت يدي لها ضاربة في غيظ وكلماتي المحتدة الغاضبة تكاد تحرقها ، ولكنها لم يكن لها ذنب ، من أدراها أني كنت أحلم به وأني معه ؟!! خرجت لعملي وكلي رغبة في العودة للنوم وللحلم به من جديد ، صرت كلما أغمضت عيني واستسلمت للنوم أرجوه وأتمنى لقاءه ، ولكنه لم يأت ولم يصادفني وجوده . أنكرتني سماء الحلم وحرمتني فيضها . أسبوع أتلمسه بين كل أحلامي ولا أجده حتى يئست ونسيت ، مضت بي الأيام وأنا كما أنا بين عملي والبيت . في معملي وبين أنابيب الاختبار أجد مواداً تتفاعل وألوانا تختلط ، لابد من أن يكون هناك تفاعل وإلا أصبحت المواد خاملة ، لم أحب يوما المواد الخاملة ! خرجت قبل انتهاء دوامي راغبة في السير إلى جوار هذا الشريان الذي كلما نظرت إليه أحس معنى الحياة ، كثيرا ما أحدثه ويسمعني وأحيانا يلقي لي بحبال نجاة من مآزق شتى . سرحت بعيدا وأنا أبثه شكواي كالعادة ، فإذا بيد أخرى تفيقني من سرحتي ، ما الأمر أكل البشر اتفقت على ازعاجي ؟! التفت إلى المقتحم الجديد فإذا به صديق قديم لمحني فأراد إلقاء التحية ، كان وجهه المهموم غريبا عليّ لم أره يوما هكذا ــــ لم أره منذ أمد ـــ كان أكثرنا مرحا وإقبالا على الحياة ، جلسنا طويلا لنتحدث لم يكن بمقدوري أن أخبره أني متكدرة لأني أبحث عن بطلٍ جاءني في حلم ، سمعت شكواه حاولت المساعدة إلا أنه يصر على أن كل الطرق مسدودة . تركته وأنا أحمل على كاهلي بعض ألمه ، لازال النيل يسمعني عرفت الآن أنه يضحك عليّ ( اللي يشوف بلاوي الناس تهون عليه بلوته ) دائما أمي تردد هذا المثل . غارقة في ذاتيتي فلم أنظر حولي وأرى ، اليوم فقط وضعني صديقي أمام نفسي ووجدتني خير مثال للمادة الخاملة ؟ وصلت البيت وأنا أبحث عن كل تليفونات من أعرف من أصدقائي المهجورين ، اتصلت بالكثيرين . كم أنا بعيدة عن العالم !!!! - الهاتف الذي طلبته غير موجود بالخدمة ، الرقم الذي طلبته غير صحيح أعد المحاولة . كلمات صدمتني ، لم أجد أحداً . خرجت في دهشة من أمي وأختي اللتين تعلمان أني لا أخرج أبدا بعد العمل ، لم يسألاني إلى أين فهما مدهوشتان بما يكفي لعدم النطق بأية كلمة . سرت بين الناس وكأني أسير في الشارع لأول مرة ، وجدتني لم أكن أرى ، أكان يعميني الزحام ، أم أنني كنت وحدي في الكون ؟ فوق أحد الكباري وجدتني أقف وحيدة رغم كل المارة لكنهم لم يروني ، لم يلمحوني وكأني ليس لي وجود ، ووجدتني في لحظة أعتذر لهم وأبكي ، وأعد بأني لن أكون مادة خاملة ، لكن لم يسمعني أحد .
جلست إليه ذات يوم أتطلع إلى وجهه الذي أعشق تفاصيله ، وجدتني أسأله : لماذا تهواني ؟ نظر إليّ بعينين ملؤهما الحنين ولم يتكلم ، ربت على كتفي وابتسم ، قَبّل جبهتي ومضى . تركني والسؤال ،وفي عينيّ تفاصيل وجهه الذي أعشقه .
**********
قالت لي في خفوت : أحبه ولا يهواني . كيف عَرَفَتْ أنه لا يُحبها ؟ تعتقد أن صمته الدائم هو السبب ، لم يقل لها يوما أحبك . لم أجد لديِّ ما أقوله لها . جاءتني بعد أيام تحمل بشرى لقد قرر الزواج بها .
**********
ساعات من الانتظار ، أيام من الألم ، إنه بعيد ، مسافر أرهقه السفر ، أراه يوما ويغيب عشرا . صَرَخْت به : كرهت بعدك . لم يكن بيده حيلة ، هكذا هو شئت أم أبيت . مَدَّ لي يده بوردة وقبّل يدي وقال : إلى لقاءٍ قريب . أغمضت عيني وتركته يمضي . مرت أيام وراء أيام ، شهور أعقبتها شهور ، تصلني منه خطابات ذات كلمات يسيرة يتضاءل عددها خطابا بعد آخر . عاد بعدها وفي يده وردة لم تمتد لي يده بها ، امتدت لمن تتأبط ذراعه وهو يقبّل يدها.
**********
في غفلة مني تركتها تحتل مكاني لديه ، أنا السبب ، فتحت لها ثغرة نفذت منها إليه . كم حذرني ولم ألتفت . اليوم هي معه وأنا عنهما بعيدة . وصلتني دعوة الفرح ، واحدة من المدعوين كنت . في عيون الناس من حولي سؤال : كيف ؟!!!! مددت يدي اسلم عليهما وأقدم التهاني وأعزي نفسي فأنا من ضيعهما .
**********
أسوار بنيتها ما استطاع أحد تسلقها ، لم يتمكن مخلوق من حل ضفائري ،والصعود إلى برجي العالي ، حين أرخيت الضفائر ، حين هدمت الأسوار ، وجدتني أعجز عن الإمساك بالمشط لأمشط شعري ، ولا عن مواراة الشيب الذي غزاه . فلقد فات الوقت.
**********
طفلة أنا لازلت في مرحلة الحبو ، نظر لي نظرة مُشفقة وهو يقول : اكبري . كنت أسمع كلماته دائما وأظنها ألغاز ينطق بها ، ماذا يريد ؟ أنا كما أنا لن أتغير لأجله ، إذا أرادني عليه أن يتحملني . ذات يوم جاءني بصحبة أخرى سألته عنها قال : حبيبتي . أعطاني مصاصة ومضى .
*********
في يوم بحثت عن المجهول ، خرجت للدنيا الرحيبة ، ألقيت بنفسي في حضن أول من قابلني . بين أحضان كثيرة تنقلت . كلمات ، كلمات ، لا شيء سوى الكلمات ، قسوة وآهات ، دموع أغنيات . على جدر جسدي ارتسمت علامات وخطوط ، كلٌ كان له إمضاء ، جراح غائرة ، وكان السبب أني سمعت وارتحت لأول الكلمات .
ضحكة ماجنة علا صداها أرجاء المكان ، نظرة غاضبة من عين تلقت سخرية الضحكة بصمت معتاد . صمت يُغلف المكان ، وتبادل نظرات اتهام ، ودفاع ، وهجوم رغم طول الوقت بينهما وقد تعدت الساعة الواحدة صباحا . طالت الجلسة ولا فائدة كلاهما يدور في رحى لا تكف عن الدوران ، يتعمدان ستر الكلام ويتركان العين تنطق بما عجز عنه اللسان ، ولتفعل ما على اليد المشلولة فعله . خصمان تجمعهما دائما طاولة البحث عن حل لمشكلة أبدية لا تُحل . حاول إنهاء الليلة بما هو مفروض عليه عَلَّه يظفر بشيء !! دنا منها ، مدَّ يده ومرَّ بأنامله على وجنتها الحريرية ، تَمنَّعت ، وانفلتت كأفعى ، وهي تلامسه برفق مقصود . عاد لجلسته رغم حر الشهوة الذي تَملَّكه ، هي الوحيدة التي تملك الحل ، سيدة الدنيا وهو عبد من عبيدها . كم تملقها وكم صدته ، تُلقي له بالفتات ، وتفعل فقط ما تريد ، الجميع يهب العطايا ويخدمون بفناءٍ عظيم فقط هي تأمر . وعلى سرير الدنيا تأخذ لذتها ممن تريد ، كثيرون هم عشاقها ، لا .... متملقيها ، خدامها حاجتهم إليها تدفعهم دفعا لها . كادت الليلة أن تنتهي دون أن يفعل شيئا ، الكل ينتظره ليعلمون نتيجة اللقاء ، وهو بين نارين ، نار مطالبه لديها ، وناره التي أشعلتها لتوها ؛ ليتها تطفئها !! حين تفرج عنه سيخرج لهم ويقول أنه فعل كل ما في وسعه وأنها أرخت حبالها تلك المرة ، وفي المرة القادمة ستوافق على كل الطلبات التي قدمها لها أليس هو أثيرها كما يعلمون ؟!!!!! لا أحد يعرف أنه ......... سارع بسؤال نفسه : هل ستكون هناك مرات قادمة ؟! - نعم ، هي لعبتها من البداية . تملق ، وطلبات ، ومداعبات تسبق كل رفض ، واستجابة فقط لضئيل ما طُلب . أيقظته من شروده ضحكة أخرى تعلن أنه قد حان موعد إنصرافه ، فلقد أذن ديك الصباح لتسكت شهرزاد عن الكلام المباح ولتستعد السيدة لنقاش آخر .
عندما أًبصَرتُه دائما في الصف الأول تذكرت ذلك المعجب الذي احتل صف مسرحها الأول ،وكذا بيتها ولكنه لم يكن بالدكتور حفناوي ولا هي بأم كلثوم . كانت عازفة فلوت مغمورة في فرقة موسيقية وهو واحد من رواد المسرح ومن عشاق الموسيقى الكلاسيكية ، نادرا ما تفوته حفلة . كما كان من النادر أن تعزف هي منفردة فيتعرف عليها الجمهور . ذات يوم وهو في طريقه إلى داخل المسرح جذبه عزف جميل لمقطوعة ساحرة ، استوقفته الموسيقى ورآها لأول مرة . كانت شبه مُغيّبة ، يأخذها اللحن بعيدا عن الكون فانفصلت معه إلى عالمٍ آخر ، عالمٌ من السحر اللا مرئي ، فحلقت بمنأى عن الأرض . وقف يستمع إليها وقد غاص في بحارٍ من الخيال لم يخرجه منها إلا توقف صوت الموسيقى ، فاستفاق باحثا عنها ولم يجدها فشعر كما لو كان بحلم ٍغريب . دخل المسرح وبدأ الحفل ،مبتدئا وصلة الاستمتاع برائعة من روائع شوبان الساحرة ، فإذا بعينيه تصطدم بها مرة أخرى وهي في مثل غرقها الأول ، لا تشعر إلا بآلتها في حضن شفتيها تتحرك أصابع يدها عليها في خفة ومهارة ، وباللحن الذي تعزفه وبيد المايسترو التي تحركهم جميعا . تمنى لو يحدثها ، لو يبدي إعجابه بعزفها ، حاول اللقاء بها بعد الحفل ، لم يتمكن . كان المسرح مزدحما بالناس فلم يرها وسط من خرجوا ، حين سأل عن أعضاء الفرقة علم بانصرافهم . عاد خائبا ، وإن كان لم ينس عازفة الفلوت . في موعد الحفل التالي ذهب حاملا زهور الزنبق وعصفور الجنة والجلاديولس متمنيا لقاءها ، ذهب مبكرا عن موعد الحفل بحث عنها لم يجدها ولكن أثناء الحفل تجلت وصابها الحظ وعزفت منفردة فصفق لها بشدة . بعد الحفل التقيا ، أعطاها الورود وهنأها مبديا إعجابه بها وبعزفها ، قبلت زهوره وشكرته . انصرفت تاركة بداخله إحساسا لم يفسره إلا بعد أن باتت تلك الفتاة تشغل كل فكره ، صمم أن يتحدث معها ، يُعرّفها بنفسه ، يدعوها للعشاء ، أي شيء ، المهم أن يقترب منها ويستمتع بتلك الابتسامة التي سلبت لبه . تبع الفرقة أينما ذهبت ، حاول كثيرا أن يجدد اللقاء ولكن الفشل حليفه في كل مرة . لم يمل من إرسال زهور الزنبق والجلاديولس وعصفور الجنة التي تحمل توقيعه ، ورغبة في اللقاء . وأخيرا وبعد عناء رآها بعد الحفل ، انتشى قلبه ، فرح ،شد الخطو نحوها ، فإذا بصوت ينفذ إلى أذنه ، صوت صغير قطع عليه الطريق إليها وهو يعدو نحوها مناديا إياها : ماما . لحظتها سمرته المفاجأة مكانه ورآها تحمل صغيرها مقبلة إياه وتستقبل من أتى به في حضنها وهو يقول لها : كنت هايلة النهاردة . مضت في صحبة زوجها وابنها . لكنه ظل في الصف الأول في كل حفلاتها ، حاملا زهور الزنبق وعصفور الجنة .
في ذلك الصباح لم أكن بعد قد نفضت غطائي عني حين قفزت الشمس لحجرتي مخترقا نورها جميع أرجائها ، ودفعتني لكي أصحو حتى قبل أنْ يرن هاتفي في موعدي المحدد كل يوم . في تلك اللحظة بين الصحو والمنام أحسست بأني اضحك من قلبي ، أكيد كان ذلك حلما ودّعته حين فتحت عيني . حاولت أن أتذكر الحلم ولكن دون فائدة ، فلقد ولىّ تاركا في نفسي بعضا من البهجة استحسنتها ، إحساسي بالبهجة سوف يجعلني أسعى لمحو أثار غضب الأمس . التفت نحوه وهو يرقد إلى جواري ، لازال غائبا في عالمه الخاص ، كنت أحسه حين ينام بأنه يهرب إلى دنيا أخرى ــ قد لا أكون شريكته بها ــ ولكني لا ألومه عليها ، أحب كثيرا تأمله وهو نائم . لكم هو وديع بريئ كطفلِ ، أما في صحوه فهو جبار حتى في أرق لحظاته . في إحدى المرات دمعت عيناي إثر نظرة غاضبة وجهها إليّ ؛ ولكم هو كثير غضبه هذه الأيام . ليلة أمس تشاجرنا ، هو السبب فلقد أصبح دائم الغضب من كل شيء ، لا ذنب لي في أنهم يتجاهلوه في عمله ، وأنهم يضيقوا عليه الخناق حتى يُحيل حياتي معه إلى جحيم . لم يعد يعجبه طعاما أعده ، ولا غسيل ملابسه ، ولا ترتيب المنزل ، لا شيء صار يعجبه . - كلهم يسعون لتدميري ، نفذوا إلى رئيس مجلس الإدارة ، وشوا إليه بكثير من أكاذيبهم ، شوهوا صورتي ، فقدت حظوتي لديه . لم يعد يمسك أعصابه ، يخرج جم غضبه أمامي ، وأتحمل فأنا الوحيدة التي تعرف كم يحب عمله ويخلص له . ولكني بالأمس لم أتحمل ، فاض بي الكيل فصرخت بوجهه بكل ما أملك من قوة ، وقد نفذ صبري ، لم أبك هذه المرة ، لم أدع دموعي تنهي الموقف . ظل حبيس حجرة مكتبه لساعةٍ متأخرة حتى جاء متسللا للفراش معتقدا أني نائمة ، لكني لم أنم فكيف أنام دون أن أتأكد أنه بجانبي وأشعر بأنفاسه الدافئة تتسلل إلى وجهي فأستشعر أمانا وسكينة . لازال نائما ولازالت عيناي تراقبانه ، مددت يدي أسير بها في هدوء على وجنته ، وتركت أصابعي تعبث بخصلات شعره الناعمة حتى فتح عينيه بصعوبة ، أعلم أنه لم ينم جيدا ، ابتسمت له ، بادلني الابتسام وعينيه تحمل اعتذارا وخجلاً جعلني أطبع قبلة على جبينه ثم أهب واقفة أمشط شعري وأقول : هيا ستتناول أجمل إفطار اليوم . نفض غطاءه وسحب جسده ببطء لأعلى مسندا ظهره للسرير وقال : أحبك . أحبك ، دائما بعد كل شجار لها طعم آخر ومذاق هو الأروع ، تكون محملة بعطف وحنان ورجاء واعتذار . لم نفتح أمر شجار الأمس ونحن على المائدة ، ولا بعدها ، تناسيناه كأن لم يكن ، خرجنا كُلا إلى عمله ، في منتصف اليوم رنَّ هاتفي بالرنة المخصصة له فسارعت بالرد عليه قال : سأمر عليكِ الآن . لم يعطني فرصة حتى لأسأله : لماذا ؟ قبل مرور ساعة وجدته أمامي ، اصطحبني لمكان هادئ لم نذهب إليه من قبل ، جلس إليّ يغلف الصمت وجودنا ، الدهشة تلجم لساني ، وهو بدا كما لو كان حائرا يبحث عن كلام ، نظراته زائغة ، يحمل وجهه تعبيرات عجزت عن تفسيرها . قطع الصمت مجيء النادل ليسألنا : ماذا نطلب ؟ لم يسألني عما أريد طلب له ولي ذات الطلب ، لم أناقشه فأنا أعشق ما طلب . ابتسمت بعد انصراف النادل وسألته : خيرا ماذا وراء تلك الدعوة الجميلة ؟ ابتسم ابتسامة عريضة وقال : أبدا ، اعتبريها اعتذار . - ما أجمله من اعتذار . لم نذهب إلى البيت بعد الغداء ، ولا بعد العشاء ، ظل بنا ننتقل من مكان لآخر ، لا يريد الذهاب إلى البيت ، لكني وبعد انتصاف الليل أخبرته أني مرهقة وبحاجةٍ للراحة . امتثل لرغبتي وعاد بنا وما إنْ دخلنا وأغلق الباب خلفنا حتى قال : لقد فصلوني اليوم من العمل .
لا تذكرني بمن أنا ، فأنا أعرفني تماما ، كلما التقت عينانا أحس بعينيه تصر أن تذكرني بماض كنت عليه ، ماض تناسيته وأصررت أن أنساه . قابلته أول مرة وقد أمسكت العلم هاتفة : تحيا مصر . لم أكن بمظاهرة أنادي بالحرية وقت الاحتلال أو حتى الآن ، وإنما كنت لتوي خارجة من استاد القاهرة الدولي بعد مبارة هامة فاز بها منتخبنا الوطني . فصل العلم بين وجهينا في زحام هو الأصعب والأشد . تعلقت عيناي به ، وشدتني نظرة الإعجاب بعينيه . ألوان علم مصر الأسود والأبيض والأحمر ، ثلاثة ألوان لكل منهم أثرا كبيرا في نفسي ، كم كنت فخورة بي وأنا أقف في ثباتٍ وجرأة في منتصف فناء المدرسة أُحيي العلم كل صباح ، للعلم مكان لا يُخطئه في قلبي . كانت أيام ، ويوم كنت أحيي العلم هاتفة تحيا مصر كنت أهتف ......... ما علينا ، لا أريد أن أتذكر ذلك . في ذلك اليوم ارتبط وهو بأجمل قصة حب تحاكي عنها كل من يعرفنا ، وفوجئت أني وهو زوج وزوجة . سريعة أيام عصرنا . - صباح الخير يا سماح . - صباح الورد يا حبيبي . دخلت وأشرف دنيا غريبة كنا من أشد المعارضين لها ، اصطدمنا بالأيام بشدة ، واقع مرير استحق أن أمسك بالعلم حينها وأصرخ : أين أنت يا مصر ؟ ولكني من أجل عيون يوسف الصغير ، تعلمت الصمت ، وصنعت له لفافات بالعلم . وودعت ماض كنت فيه سيدة نفسي . أشرف يبذل الكثير من أجلي وأجل ولده ، يدور في رُحى لا تكف ولا تهدأ ، يعود كل مساء حاملا همومه وتعبه ، يلقي أحيانا بحمله في حضني ، وأحايين كثيرة لا يدعني أشاركه يظن أنه بذلك يرأف بي ، ولكني أحسه . كل يوم الحياة تزداد جشعا ومطالبها لا تكف ، ولم أعد وهو ويوسف صارت هناك ضحى ، لم نعد نذهب لحضور مباريات أو حتى ندخل سينما ، اختفى العلم . وبات عليّ كل يوم أن أقول : عمار يا مصر . وأودع زوجي لدى الباب بابتسامة تعينه على ما هو فيه .
قد قارب الليل الانتصاف ، حين خرجت إلى شرفتها تاركة صدرها يستقبل نسمات تلك الليلة اللطيفة . دخل الهواء نقيا منعشا أرادت استبقاءه في داخلها إلا أنها لم تستطع ، فسارعت بطرده واستنشاق غيره بسرعة شديدة ، رغم أنه لن ينضب . كانت رأسها تضج بكثير من الفِكَر التي لا تكف عن لكزها كل حين ، إلا أنها قد أخذت عهدا مع نفسها أن تصمت ، وألا تبوح بأي شيء ؛ لن تدون كلمة ، ولن تكتب حرفا ، ولتصمت أيضا تلك الأفكار العابثة التي تجعلها ترفل في سرابيل من الألم كلما تذكرت تفاهتها . - تفاهتها !!!!! توقف عقلها برهة أمام الكلمة وانطلق بسؤاله الذي يحاول به نسف تلك الإهانة التي وصمت بها عمله ، أما أفكر به تافها ؟!!!!! كانت وكأنها تحاربه ، دخلت معه مبارزة لن يخرج منها إلا فائزا واحدا . إنها تقوده للجنون كلما رفضت أن تخرج ما به من أفكار حتى صار قدرا يغلي ، تزيد حمم الأحاسيس والمشاعر والدوافع بداخله ولا تحس به ، لماذا تعامله هكذا ؟ سؤال آخر انطلق منه عَبر قلبها عله يستحلفها أن تجيب ، حتى صدرها الذي يعب الهواء عبا صرخ بها وقال ليس هذا هوائي ، ولا تلك النسمة التي تصافح عظامي هي الحياة بالنسبة لي . - حتى أنت !!!! كل ما بها أراد أن يتنفس وهي أبدا لا تريد ، تتشبث بالموت حتى النهاية ، تمنع أسباب الحياة حتى أوشكت على الاختناق . لازالت بالشرفة وقد قاربت الساعة أن تدق الثانية من صباح اليوم الجديد ، حين شعرت بيد تربت على كتفها ، تملكها الرعب فهي وحدها مَن هذا الآتي ؟ التفتت بغتة تنظر إليه ، لم تصدق عينيها أحقا أنت ؟!! سيل من الدموع المحبوسة قد انطلق وهي تدفن رأسها بحضنه الذي افتقدته كثيرا ، أحقا أنت ؟! لم تكن تكف عن ترديد السؤال . مَسَّد شعرها المهوش بيديه كما كان يفعل دائما ، ثم حمل وجهها على طرفِ سبابته لينظر لعينيها المغرورقتين بالدموع وقَبَّل جبهتها فعادت لتدفن رأسها بصدره مرة أخرى . حملها معه وقد فرد جناحيه ، حلقا معا في سماء المكان وهي فرحة منتشية ، شعرت بخفتها كلما صعد بها لأعلى ، أجلسها على كتفه ، طار بها من مكان لآخر قاصدا دنيا بعينها . دخل بها حواري وأزقة ، أحياء ما هي بحية ولا سكانها بناس . سألته مندهشة : أين نحن ؟ من هؤلاء ؟ لم يجب ، بل ملأ عينيها وعقلها بمشاهد ، ومشاهد فرضت ذاتها ، واصل اندفاعه وطيرانه من واد إلى آخر ، ومن مدينة إلى مدينة ، ومن قرية لأخرى . وهي تواصل تعبئة عقلها الذي كَفَّ عن الاستيعاب ، وقلبها الذي اعتصره الوجع ، وصدرها الذي لم يعد يدخله هواء . رحلة طويلة كان فيها البراق ، ولكنها لم تكن برسول ؛ كانت أضعف من تلك المهمة التي أوكلها لها ، سألته لماذا ؟ لم يُجب ، فقط أعادها لشرفتها مرة أخرى ، قَبَّل جبينها ، وانطلق من حيث أتى مبتعدا بأقصى سرعة . نظرت لساعتها وهي لا تصدق ما حدث ، أكانت تلك الرحلة خارج حدود الزمن ؟!! عقارب ساعتها تشير إلى الثانية صباحا . لم تكن تدري ماذا تفعل ، فَجَّربداخلها بركان انطلقت حممه بلا توقف ، تصاعدت حتى فمها ألهبته ، وكذا عقلها ، كما حرقت قلبها ، فسارعت إلى أن تتنفس ،أمسكت بالقلم ، ووضعت سنه المدبب الرفيع الذي تنتقيه بعناية على الأوراق ، تركت روحها الميتة تعود للحياة ، دون خوف أو رهبة . طرد عقلها أفكاره القديمة ، وعلل الحب المقيتة ، استفاق من مشاهد نشرات الأخبار المعتادة ، تمحور في تلك الرحلة التي وضعته أمام ما لا يتوقع ، وشاهد ما لم يتخيل ، تلك الرحلة التي حَمَّلته أوجاعا ، وخلقت منه سيفا قرر أن يكون محاربا بيد فارس في زمن قتل كل فرسانه . وحين تبددت ظلمة الليل وبان الخط الأبيض كانت لازالت تمسك بأوراقها تخرج كما من الآهات المحبوسة في صدور من رأتهم . بعد انتهائها وضعت القلم وتنفست بعمق . فجأة فتحت عينيها التي أخذت تتجول بالمكان متعجبة ، وشعرت بيديها تنفض الغطاء عنها في روتينية تعهدها باحثة عن الساعة التي أشارت إلى السابعة صباحا موعد استيقاظها اليومي . رباب كساب 13/3/2008