كنت فيما مضى أتذكر كيف علمني والدي رحمة الله عليه مفردات اللغة وهو يحل الكلمات المتقاطعة كل صباح ويسألني فأجيب إن عرفت وأسعى منه لأعرف إن عجزت، وشغلتني تلك اللعبة التي تبحث عن معاني الكلمات في وقت كنت أكتشف الكون من حولي، صغيرة أملأ ذاكرة معارفي بما أكتسبه ممن حولي قبل أن تدركني القراءة فأنه
بت أعانده وآخذ لعبته وألعبها وحدي، أفسدها تارة وأنهيها تارة، ولم تكن مفردات الكلمات وحدها محتواها وإنما معارف شتى، لكن بقى هم المفردة ما يشغلني، الكلمة التي شكلت فيما بعد كل اهتماماتي، ولأني أجمع حصيلة مفرداتي أينما ذهبت كان علي أن أواجه فقر مدرس اللغة العربية في مادته حين أسأله عن معنى كلمة أعرف أنها تقف أمام زملائي منهم من يود السؤال ويخجل ومنهم من لا تعنيه فيمررها دون أن يعرف لعدم رغبة أو لبلادة عقل، كنت أعرفها لكني سألته فلم يجبني بل أمرني بالصمت والجلوس، حادثة لم أنسها أبدا، مثل حوادث مدرس الفيزياء في المرحلة الثانوية ذلك الشاب الذي أتانا وقد تخرج في كلية العلوم يدرس لنا الفيزياء المادة التي كانت تبكيني دائما، يعجز عن إجابتنا، وأحيانا يستأذن في الخروج من الفصل قليلا ثم يعود بحل لمسألة وضعها هو وعجز عن حلها، حينها لم أجد بدا من كتابة شكوى بخط يدي دون خوف من أحد في هذا المدرس العاجز، شكوى أتت بمدير المدرسة إلينا فامتلأنا بالأمل فإذا به يقول : جايب لكم مدرس خريج كلية العلوم بامتياز أعمل إيه أكتر من كده ؟!
لا فض فوك يا أخي، تمخض الجبل فولد فأرا ، عقم ما بعده عقم.
ومن هنا لا بل قبل ذلك بكثير، حين أجبرت جبرا على أخذ درس خصوصي للمرة الأولى في حياتي لتلافي التذنيب في الفصل أو الوقوف على قدمي بلا معنى وبلا سبب لفترة طويلة وأنا بعد لم أكمل الثانية عشرة لمجرد أني لا آخذ درسا في مجموعة المدرسة أو غيرها، بدأت أعي أن مشكلة التعليم في بلدنا هي آفة المجتمع بحق.
كم من مرة وجدت أبي يردد الكثير مما تعلمه صغيرا بينما نحن بمجرد أن نغلق ورقة الامتحان ننسى ما خطته يدنا وما حصلناه طيلة العام، لذا كنت أقول التعليم ، التعليم ثم التعليم.
التعليم الذي لم تعد به حصة القراءة في المكتبة، والاستغناء عن حصتي الرسم من أجل منهج الرياضيات الكبير أو اللغة العربية التي لم تنته، وإلغاء حصة الموسيقى لأن لا نفع منها.
التعليم الذي انتهى بمدارس شبه خاوية وطلبة وطالبات يحددون مواعيد دروسهم الخصوصية مع مدرسيهم في وقت الدراسة، ولم أعد أرى الزي المدرسي ولا حقيبة المدرسة الممتلئة عن آخرها بكراسات حصص سبع.
قابلني ذات يوم مدرس التاريخ الذي أعتز بمعرفته حتى الآن وقال لي وهو يطبع المذكرات للطلبة، الطالب الآن يريد سؤالا وجوابا، لا يريد أن يقرأ، نلخص له الأمر.
ومن دفعه لذلك يا أستاذي العزيز؟ من ؟!
أعلم أن الأمر أكبر منك ومني ومن الطالب ذاته، إنها المنظومة التي كانت تسعى لحكم شعب جاهل وتهميشه، المنظومة التي أرادت الحفاظ على سطحية الفكر حتى تجر الشعب لما تريد وقتما تريد.
لست هنا بسبيل الحديث عما مضى، ولكنه كان حديثا لابد منه وأنا أحاول أن أنثر بين يديكم حلمي ( فرشاة وقلم ووتر).
حلمت كثيرا أننا بثورتنا التي لم تتم والتي لم تغير نظاما بل غيرت وجوه أن نشق عصا الطاعة مع الرئيس الجديد الذي كسر فكرة استمرار رئيس برتبة عسكرية وأن نحلق خارج الدائرة التي وضعنا فيها بغير إرادتنا، ونحن نحارب حكم العسكر، ونحن نحارب قوى الظلام التي تسعى لجرنا بعيدا عن الوضع الذي يجب أن نصل إليه، مصر الرائدة منذ فجر التاريخ حتى تعود للريادة عليها بالبدء ليس من خط الصفر بل من تحته ، علينا أن ننظم أنفسنا للعمل في جبهات عدة في نفس الوقت، علينا العمل في مجموعات لها أهداف معينة بخطة قوية وطريق جلي وبلا سقف للطموح.
ولأن الطريق طويل والتباطؤ رفاهية، والتراجع مستحيل يجب أن يكون هناك فرق تلعب في نفس الملعب وفي نفس التوقيت، العدو هنا فرض عين، نعدو ونعدو ولا وقت حتى لالتقاط الأنفاس، فلكي نحقق ما نريد في زمن الفيمتو ثانية علينا أن نعرف أن الفيمتو ثانية زمن لا يجب التفريط فيه أو الاستهانة بما نفعله به.
يجب أن يكون هناك من يخطط سياسيا في معركة حكم العسكر والإخوان والانقلاب على الفساد الإداري والمالي في كل مؤسسات الدولة، ويجب أن يكون هناك فرق تعمل للتخطيط الاقتصادي، وأخرى للاجتماعي، وغيرها للتعليم، في وسط هذا الزخم يجب ألا نلتفت لهؤلاء الذين يشيعون اليأس في برامج التليفزيون ولا وقت أبدا لهؤلاء الحنجوريين الذين يتشدقون بالثورة وهم من أضاعوها وحولوها للغو فارغ بالمشاركة مع العسكري الذي لا هم له سوى الحفاظ على وجوده وبقاء هيمنته وسيطرته.
عفوا عزيزي الميدان الذي اشتقت إليك شوق عاشق لمعشوقه فلم يعد وجودنا بك حياة للثورة بل وأدها وتحويلها لمجرد حناجر تهتف حتى تكل، العمل يجب أن يتغير شكله وطريقته وأسلوبه، ستظل في ذاكرتنا، ستظل قبلتنا التي نولي وجوهنا شطرها كلما هفت روحنا للحياة أو حين يخطو اليأس حثيثا إلينا فتقف من جديدا شاهدا مذكرا بما كان فنعود أدراجنا من جديد لنعمل.
إلى طيور الظلام التي خرجت علينا باسم الرب تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر وكأنهم آلهة نصبت نفسها لتحكم فكشفت عن القلوب فحكمت وحاكمت لا وقت لكم، لا الزمان زمانكم ولا نحن كما كنا، لا وقت لكم لمحو تاريخ شعب منقوش في وجوه أبنائه، في تقاليد لم يغيرها الزمن ولا المستعمر، لو أنكم تقرأون التاريخ، لو أنكم تعرفون طبيعة الشعب الذي تهددونه، لو أنكم سمحتم لأنفسكم بأن تعرفون لمن تنتمون لكان فخركم بكونكم مصريين يكفي لأن تكونوا معاول بناء لا معاول هدم، لكنتم الأسبق في حمل الفرشاة، وخط الحروف ، وتحريك الوتر.
لكنتم معنا نبني منظومة جديدة نحطم بها قواعد الجهل ونبدأ مع صغارنا بصبر فعشرون عاما من عمرنا هي يوم واحد في عمر أمة.
لنبدأ بالتعليم يا سادة من الحضانة وحتى الجامعة، لنبدأ؛ لنغير، فلا نلقن بل نكتشف، فلا نحفظ بل نقرأ، فلا نقصر الألوان على الأبيض والأسود فالله خلق لنا الدنيا وخلق فيها كل الألوان لنا متاع ومتعة، فلا نُحرم الجمال وقد منحنا الله في الكون بعضا من جماله فكان النغم وكان السحر، فلا نقتل الحرف وقد قص الله القصص ولنا في يوسف أسوة ليس سردا فقط وإنما موضوعا ولتتأملوا حقا.
ساعدونا يا من تمتهنون الحرف واللون وتحركون الأوتار، يا فنانين مصر الحلم لن يتحقق إلا بكم.
رباب كساب
4/7/2012